الفصل الثالث ( لم تكن هذه هي النتيجة التي كان يتوقعها)
رغم أنها لم تكن من سلالة “بيلتايت” فعليًا، إلا أنه كان هناك طرق لإيهام الآخرين بأنها كذلك.
«الصبغة…!»
لكن المشكلة أن الصبغة لم تكن فعالة بالشكل الكافي، إذ إن اللون يبهت بسرعة.
كانت هذه مشكلة شائعة في جميع أنواع صبغات الشعر المتوفرة في السوق.
لذا، كان من الممكن العثور على خصلة أو اثنتين بلون مختلف إذا فُتّش الشعر جيدًا… بشرط أن يكون الشعر مصبوغًا حقًا.
لكن “إيميليا”، بمزيج دمائها الفريد، كانت شقراء طبيعية. ولهذا، لم يجد “ديفيد” أي خصل مختلفة اللون في شعرها.
فتصلّب وجه ديفيد.
«…هل هي فعلاً من بيلتايت؟»
شعر بذهول؛ فهو كان متأكدًا بأنها من شعب “غيلن” وربما تكون جاسوسة.
عندما رآها لأول مرة، راوده ذلك الشعور المزعج الذي ينتابه دومًا عندما يلتقي بأحد الغيلنيين.
وما زاد شكّه أنها جاءت برفقة رجل كان يشكّ أصلًا في أنه من الغيلن.
لطالما تجاهل ديفيد تصرفات أولئك الذين يصبغون شعرهم بنيًا ويتظاهرون بأنهم من بيلتايت، لأنهم فقط يبحثون عن سبيل للنجاة بعدما فقدوا وطنهم، ولم يكن يرغب في تحطيم أملهم.
رغم احتمال كونهم جواسيس، إلا أنه طالما تجنّب التعامل مع الغيلنيين أصحاب الشعر البني، مفضلًا أن يبقوا بعيدين فحسب.
لكن الجواسيس الذين يتعمدون الصبغة لتقمّص هوية البيلتايت، فهم فئة مختلفة تمامًا. أولئك لا بد من الحذر منهم أكثر، وربما حتى التبليغ عنهم.
لكن… إن لم تكن صبغة، فما تفسير هذا؟
في المقابل، ظنت إيميليا أنها وجدت فرصة وأخذت تبدي غضبها دون تردد:
“ما الذي تجرأت على فعله للتو، يا سيدي الدوق؟!”
“هل أنتِ من بيلتايت فعلًا، آنسة برايت؟”
“وإن لم أكن كذلك، فماذا يفترض أن أكون إذن؟!”
وانفجرت مجددًا.
حتى في هذا الموقف، راود ديفيد شكٌ بأنها من الغيلن، وبالأخص من قبيلة “إيلن”.
بحسب تجاربه في أرض المعركة، الإيلنيون يُعرفون بصراحتهم المفرطة في التعبير عن مشاعرهم.
أما شعب “أميلا” – مستعمرة أخرى لبيلتايت – فكانوا بطبعهم أكثر هدوءًا، نادرًا ما يغضبون. والبيلتايت أنفسهم كانوا يخفون غضبهم خلف ابتسامات، معتبرين كتمان المشاعر نوعًا من الفضيلة.
صحيح أن الطباع تختلف من شخص لآخر، لكن الشقراء التي أمامه لم تكن تشبه نساء بيلتايت على الإطلاق.
لذلك، قرر ديفيد أن يتأكد أكثر:
“إن كنتِ فعلًا من بيلتايت ولستِ جاسوسة، فما سبب مجيئك خلفي إلى هنا؟”
“كنت فقط أرغب في… الهدوء…”
توقفت. أدركت أن إعادة الكذبة السابقة لن تجدي، خاصة بعد أن شكك بها صراحة.
لهذا، قررت خلط القليل من الحقيقة مع كذبتها.
أخذت نفسًا عميقًا، وكأنها استسلمت للصدق:
“في الواقع… كنت أبحث عنك، يا سيدي الدوق.”
صـدق.
“تبحثين عني؟”
“كنت أودّ رؤيتك مجددًا.”
صـدق.
“ولماذا يا آنسة برايت؟”
“لأن وجهك…”
“…”
“يناسب ذوقي تمامًا.”
حقيقة… وإن بدت كذبة.
رغم نفورها من أبناء بيلتايت، لم تستطع إنكار أن وجه ديفيد كان فعلاً يطابق ذوقها. بل في الحقيقة، وجهه كان أقرب إلى المثالية، مما يجعله محبوبًا من الجميع.
وخلال حديثها، لم يشعر ديفيد بأي انزعاج. عادةً ما كان يشعر بالنفور عند سماعه للأكاذيب، لكنه لم يشعر بذلك الآن.
تغيرت نظراته، وتقدّم نحوها.
“يعني وجهِي يعجبكِ، هكذا؟”
“……”
“بمعنى آخر، أنا أروق لكِ، أليس كذلك؟”
اقترب خطوة أخرى.
شعرت إيميليا بالخطر، فتراجعت خطوة إلى الوراء، ليصطدم ظهرها بالحائط. لم يعد هناك مفر.
نظرت خلفها للحظة ثم عادت تنظر إليه… لقد أصبح قريبًا منها جدًا.
“ما… ما الذي تحاول فعله؟!”
“ألم تقولي إنك تحبين وجهي؟”
“قلت ذلك… لكن…”
“ألم تكوني تتمنين حدوث هذا إذًا؟”
رفع ذقنها بيده، وبدأ فكّها المرتعش يتبعه دون مقاومة.
اقتربت شفتاه من شفتيها. إيميليا، التي لم تختبر حتى قبلة واحدة من قبل، شعرت وكأن الأرض تدور بها.
فكرت في نفسها: ربما هذه اللحظات هي ما ينتظر الجواسيس مواجهتها، لكنها لم تتوقع أن يأتي بهذا الشكل، بهذه السرعة.
“اصمدي… من أجل إيلن، من أجل استقلالهم… اصمدي.”
«ما قيمة قبلة واحدة أمام الهدف الأكبر…؟»
رغم أن وجهها بات شاحبًا كالأشباح، حاولت إقناع نفسها بذلك.
لكن ديفيد غيّر مسار شفتيه، ثم طبع قبلة على عنقها. في اللحظة التالية، مدّ يده إلى خصرها، بينما الأخرى تسللت من فتحة تنورتها لترفع ساقها حتى خصره.
إيميليا، التي لم تختبر مثل هذا القرب الجسدي من قبل، تملّكها ذعرٌ لم تستطع السيطرة عليه.
بدأ عقلها ينهار.
حاولت أن تفكر بالأمر بعقلانية:
هو يلمسني… إذًا هو مهتم بي… وهذه فرصة كبيرة بالنسبة لي كجاسوسة…
لكن شعورًا مريعًا غمرها، وكأنها أصبحت امرأة ساقطة.
لطالما أُهينت بسبب خلفية والدتها، وأقسمت أنها لن تنتهي مثلها أبدًا.
ومع هذا الشعور، بدأت أنفاسها تتسارع… وتزداد حدّة.
لاحظ ديفيد أن ثمة أمرًا غير طبيعي يحدث.
“آنسة برايت؟”
“……”
“برايت…! آنسة برايت!”
كانت أطرافها ترتجف.
فرط تنفس. لقد رأى هذه الحالة مرارًا لدى الجنود في أرض المعركة.
فجأة، جعلها تجلس على الأرض بلطف، وبدأ يتحدث معها بهدوء كما كان يفعل مع جنوده:
“هل تسمعينني؟”
“……”
“حاولي أن تتنفسي ببطء.”
“……”
“خذي نفسًا لسبع ثوان، وازفريه لعشر.”
“……”
“هكذا… أحسنتِ.”
في الحقيقة، لم تكن أحسنت إطلاقًا. كانت تحاول، لكنها بالكاد تتماسك.
كان ديفيد يراقبها بقلبٍ مرتبك، لكنه لم يستسلم.
“سبع ثوانٍ شهيق… عشر زفير.”
“……”
“ممتاز، أنتِ تقومين بعمل جيد.”
لا أحد يعلم كم مضى من الوقت… لكنها بدأت تستعيد تنفّسها الطبيعي أخيرًا.
تنفّس ديفيد الصعداء، رغم شعوره بالخذلان في الوقت ذاته.
لم يعد بإمكانه إنكار أنها من “بيلتايت”.
نساء بيلتايت لم يكنّ فقط متحفظات عاطفيًا، بل كنّ محافظات جدًا… لم يتقبّلن أن يلمسهن رجل من اللقاء الأول، مهما أعجبن به.
على النقيض، كانت نساء إيلن أكثر انفتاحًا… لكن لم يكن بإمكان الجواسيس منهن التمييز بين طباع نساء بيلتايت، فكنّ يتصرفن باندفاع أكثر خلال مهماتهن، وهذا ما كان يُفضحهن.
لكن الفتاة التي أمامه الآن لم تتصرف بتلك الطريقة أبدًا.
وحتى إن كانت من بيلتايت، ففرط التنفس كان ردة فعل مبالغًا بها.
عادةً، في حالات كهذه، كان من المتوقع أن تصفعه المرأة بغضب فحسب.
ضاق بعينيه وهو يفكر… ثم سألها بصوت خافت:
“هل هذه أول مرة لكِ…؟”
اهتز جسد إيميليا فجأة. كأن سؤاله أصاب جرحًا دفينًا.
ابتلع ديفيد ريقه. بدأ يشعر كما لو أنه ارتكب جريمة بشعة.
ثم لاحظ أخيرًا… أنها كانت تبكي.
“…آنسة برايت؟”
“……”
“هل… تبكين؟”
كانت الفتاة قد انحنت برأسها أصلًا، لكنها زادته انحناءً حتى غابت ملامح وجهها خلف خصلات شعرها الطويلة.
وفي تلك اللحظة، شعر ديفيد وكأن عرقًا باردًا قد سال على ظهره.
أما مشاعر إيميليا، فكانت لا تقل فظاعة. عميلة تنهار بالبكاء أمام هدفها؟
كان ذلك أسوأ سيناريو يمكن تخيله.
لكن الدموع التي فجّرتها نوبة فرط التنفس لم تكن لتهدأ بهذه السهولة.
لقد اقتربت من هذه الحالة مرات عدّة خلال الحرب—حين كانت ترى من يهربون معها يلقون حتفهم في انفجارات مفاجئة أمام ناظريها، أو حين كانت تضطر للاختباء في الملاجئ وتسمع أصوات التفجيرات ليلًا ونهارًا…
إلا أن هذه كانت المرة الأولى التي تصل فيها إلى فرط تنفس حقيقي.
ولأن ذلك حدث أمام الدوق الذي كان عليها أن تغويه… كانت الكارثة مضاعفة.
بل وزاد الطين بلة… أنه قد لمسها.
شعرت وكأنها دمّرت مهمتها قبل أن تبدأ حتى.
وسرعان ما بات من الصعب عليها أن تميز إن كانت دموعها من أثر النوبة… أم من الإحساس بالفشل الذريع.
ثم جاءها صوت ديفيد، حذرًا، خفيضًا، مترددًا بالسؤال:
“كيف يمكنني مساعدتك كي تتحسّن حالتك؟”
…كيف؟
“أنا آسف. ظننتُ أن هذا ما كنتِ تريدينه مني يا آنسة برايت. أخبريني، كيف لي أن أساعدكِ لتشعري بتحسن؟”
“…….”
“مهما كان الأمر، سأفعله. إن كان في مقدوري، سأفعله.”
في تلك اللحظة، شعرت إيميليا أن الأمل الذي اختفى منذ قليل، قد عاد إليها من جديد، يقترب حاملاً ابتسامة دافئة.
“أي شيء…؟”
“أي شيء. ما دام في وسعي فعله. طبعًا، ما لم تطلبي كل ثروتي، مثلًا.”
قالها ديفيد بابتسامة مازحة، لكن عينيه الرماديتين تابعتا مراقبة تعابيرها بحذر بالغ.
ولسبب ما، شعرت إيميليا أن ذاك الرجل الحاد، القاسي في حديثه، قد أصبح ألطف قليلًا الآن.
عندها فتحت شفتيها أخيرًا.
“يا… دوق كاروين، إذن…”
التعليقات لهذا الفصل " 3"