الفصل الثاني (الألعاب النارية)
“وسيم… جدًا.”
كانت هذه أول فكرة خطرت لإميليا عندما رأت الدوق. بدا الأمر سخيفًا، لكنها فكّرت بذلك رغمًا عنها. ظنّت أن ملامحه مألوفة بسبب الصور التي رأتها، لكن الواقع فاق الخيال. قامته الطويلة وملامحه الحادة جعلته يبدو أكثر جاذبية مما كانت الصور توحي به.
لكن شعره كان أسودًا…
أسودًا كلون السماء ليلاً، حالكًا كأن الليل قد صُبّ عليه.
لم يكن هناك شك أنه من بلدة “بيلتايت”.
وإميليا لم تكن تخفي كراهيتها لأهل بيلتايت.
في المقابل، كانت نظرة ديفيد لإميليا منذ اللحظة الأولى مريبة.
“هل هي من قبيلة جايلن؟”
منذ الحرب، أصبح يشعر بعدم الارتياح كلما التقى بأشخاص من قبائل جايلن مثل “إيلن” أو “أميل”.
والآن، بعد أن التقت عيناه بعينيها، أخبره حدسه سريعًا بأنها من تلك القبائل.
لكن المشكلة أن هذا الشعور، مهما كان قويًا، لا يكفي كدليل. كان مجرّد حدس.
وما زاد حيرته هو أنها كانت شقراء، فلم يفهم سبب انزعاجه.
وبينما كان يفكر في ذلك، اقترب “ماثيو” لتحيته.
ماثيو كان من أولئك الذين لم يشعر ديفيد تجاههم بالارتياح، لذلك كان دائمًا يحافظ على مسافة منه.
قال ماثيو:
“مر وقت طويل، سيدي الدوق.”
“السيد برايت.”
“كنت أرغب كثيرًا بلقائك، لكنك نادرًا ما تحضر الحفلات… دعني أقدم لك شقيقتي، روزاليا برايت.”
عندما قدمها، لاحظ ديفيد والرجال من حوله ملامح الفتاة. كانت جميلة بشكل لافت.
وبسرعة، أضاف ماثيو:
“هي ممثلة في فرقة مسرح لايت.”
مسرح “لايت” هو الأضخم في بيلتايت، والانضمام إليه يعني أنك من أكثر الرجال أو النساء جاذبية في المملكة.
أومأ الرجال برؤوسهم بإعجاب وبدت في عيونهم رغبة خفية في امتلاك تلك “الجوهرة” التي اعترف بها المسرح الأشهر.
لاحظ ماثيو ذلك وابتسم برضا، معتقدًا أن ديفيد تأثر بدوره.
لكن ديفيد نظر إلى ساعته ببرود وكأنه غير معني، ما أذهل ماثيو.
ثم فجأة، قال الدوق:
“سُررت بلقائك مجددًا، سيد برايت.”
“…سيدي؟”
“وسُررت بلقائك أيضًا، الآنسة برايت.”
نطق كلمات التحية بتهذيب، لكنه لم يُظهر أي مشاعر، ثم انسحب من الحفل بين الحضور بخطوات طويلة وسريعة، تاركًا إميليا وماثيو في ذهول.
*******
“هل سأدع هذه الليلة تضيع بهذه البساطة؟”
تساءلت إميليا.
لا، لا يمكن.
فمنذ البداية، انضمت إلى فرقة مسرح لايت فقط لأجله.
رغبت برؤيته ولو لم يأتِ إلى الحفلات، فربما يظهر في أحد العروض التي يرعاها مسرحه.
لكنه لم يزر المسرح ولا مرة منذ نصف عام.
وإن ضاعت فرصة اليوم، قد لا تتكرر أبدًا.
همست لماثيو:
“اهتم بالأمر من بعدي.”
ثم ابتعدت بلطف من بين الرجال الذين حاولوا استمالتها بكلماتهم، وابتسمت بخجل وهمي، وبدأت تتجول في الحفل بخطى سريعة.
عيناها راقبتا المكان بتركيز، لكنها لم تجد له أثرًا.
“لقد غادر القاعة.”
فخرجت فورًا وذهبت نحو النوافذ الكبيرة المطلة على الحديقة الخلفية، وألقت نظرة خارجية.
رأت سيارة فاخرة متوقفة في أجمل موقع. كانت سيارة الدوق.
لم يكن هناك شك، فهي تعرف كل شيء عنه تقريبًا.
بما أن السيارة لا تزال هنا، فهذا يعني أنه لا يزال في المنزل.
وبدأت بالبحث عنه في أنحاء قصر “سيلفرستاين”.
لكن ما واجهته داخل بعض الغرف جعلها تشعر بالاشمئزاز؛ فقد صادفت أكثر من مرة رجالًا ونساء في أوضاع غير لائقة.
“ماذا أفعل بنفسي؟”
كانت تسعى للمقاومة، لا لتصبح جاسوسة.
لم ترد التظاهر بحب شخص لا تحبه؛ فقد بدا لها ذلك كنوع من الابتذال.
ابتذال…
تذكرت الإهانات التي تلقتها في الماضي، وانقبض قلبها.
وقبل أن تستسلم، لمحت شيئًا عند نهاية ممر هادئ.
شرفة… بابها مفتوح…
بوم!
بوم!
كانت أصوات الألعاب النارية تأتي من هناك.
تقدمت كأن شيئًا سحبها، وعندما وصلت إلى عتبة الشرفة، أصيبت بالذهول.
رأت الدوق، يحدق في السماء، في وجهه نظرة حالمة وهو يراقب الألعاب النارية.
شعرت بانزعاج.
كان يبدو بريئًا…
بل حتى حزينًا، وكأنه يفتقد شيئًا ما.
لكن الدوق الذي تعرفه قاتل بدم بارد.
قتل العديد من الإيلنيين في الحرب بلا شفقة.
حتى أولئك الضباط الذين عرفَتهم، ماتوا على يده.
فكيف يمكن لقاتل أن ينظر إلى الألعاب النارية بتلك الرقة؟
عندها، شعر ديفيد بوجودها، واستدار نحوها.
“…الآنسة برايت؟”
نظرته تغيّرت، تحولت من دفء إلى برودٍ جليدي.
فهمت عندها لماذا لقّبه الناس بـ”القاتل الشرس”.
حتى جسدها تراجع بلا إرادة، وظهرها ابتلّ بالعرق البارد.
ثم جاء سؤاله، محمّلًا بالشك والعدائية:
“هل… تبعتني؟”
وقبل أن تحاول الرد، انطلقت خلفه واحدة من أقوى الألعاب النارية.
كانت مشرقة لدرجة أن عيناها ضاقتا.
كان عليها أن ترد.
قالت:
“لم أتبعك يا سيدي، كنت فقط أبحث عن مكان هادئ…”
“كذب.”
قاطعها بحدة، وكأنه لا ينوي الاستماع لأي تبرير.
كيف عرف أنها تكذب؟
هل كان يختبرها؟
وفي تلك اللحظة، اقترب منها بخطوات سريعة.
تراجعت بخوف.
لكن خطواته وامتداد ذراعه كان أسرع من تراجعها.
رأته يمد يده نحو رأسها…
شعرت بأنها ستُسحب من شعرها، فأغلقت عينيها بشدة وانكمشت.
لكن بدلًا من الألم، سمعت صوت ارتطام خافت.
“تشنغ!”
صوت معدنٍ يسقط على الأرض.
فتحت عينيها، وأطلقت زفرة خفيفة.
لم يُمسك بشعرها، بل أمسك بـ”دبوس الشعر”.
وسقط شعرها الأشقر الطويل على كتفيها بشكل فوضوي.
شعرها كان جميلًا جدًا، لكن… مجعّدًا بشدة.
فور أن انكشفت تموّجاته، احمرّ وجهها.
في قصر “بلير” حيث نشأت، لطالما سخر منها الخدم بسبب خصلاتها المجعّدة.
“الفتاة المجعّدة هي ابنة ساحرة.”
“يقال إن معظم البغايا شعرهن مجعّد، أليس كذلك؟”
“ربما كانت والدتك الحقيقية بغيّة أيضًا؟”
باتت إيميليا الآن، وقد بلغت رشدها، تعلم جيدًا أن الشعر المجعَّد ليس دليلًا على انتماء لسليّا ولا لغيلن، ولا علاقة له لا بساحرةٍ ولا بعاهرة.
ومع ذلك، كلما ظهر شعرها المجعَّد على نحو غير متوقّع، كانت وجنتاها تحمرّان تلقائيًا.
كان ذلك ردّ فعل غريزيًا، يشبه في طبيعته ما يحدث لمن يتخيل طعم الليمون فيمتلئ فمه باللعاب.
في تلك الأثناء، كان ديفيد يفتّش بين خصلات شعرها، يتفحّصه من هنا وهناك.
أما إيميليا، وقد أربكها انفكاك تسريحتها، فقد تجمّدت في مكانها، عاجزة عن الحركة لبرهة، قبل أن تستعيد تماسكها فجأة وتدفعه بقوة صارخة:
“م-ما الذي تفعله بحق السماء؟!”
تراجع ديفيد قليلًا تحت قوة دفعها، لكنه ما لبث أن اقترب منها مجددًا، وقبض على كتفيها، ثم جذبها نحوه بعنف.
ولم تستطع إيميليا مقاومة فارق القوة بينهما، فانساقت نحوه رغمًا عنها.
حينها، انتزع ديفيد شعرةً من رأسها.
وضعت إيميليا يدها على موضعها فورًا، بردّة فعل عفوية، وقد شعرت بالوخز.
أما هو، فذهب بالشعرة إلى حيث ينبعث الضوء من مصباح في زاوية الشرفة، وراح يتفحّصها بعناية.
عندها فقط، أدركت إيميليا ما الذي كان يحاول فعله.
كان يحاول التأكد… إن كانت حقًا من أبناء بيلتايت.
التعليقات لهذا الفصل " 2"