استمتعوا
⚔︎
‘بطريقةٍ ما، قلتُ إنّ لي شغفًا بأوراقِ الشاي والأعشاب.’
كانت فكرةُ دوق فاي واقفًا يراقبُ بصمتٍ كفيلةً بأن تُشعلَ في نفسِ مورغانا عزيمةً أشدَّ على مغادرةِ القصر.
لكن، بفضلِ مورغوس، غيّرت خططَها قليلًا.
‘ربّما عليَّ أن أُهدي أوراقَ الشاي والأعشاب لمن هم بحاجة إليها.’
لم يكن المالُ الذي تجنيه كبيرًا على أيّ حال، فقرّرت أن تُهملَه، إذ في قدرتِها أن تكسَبَ أضعافَه إذا تعاملت مع النبلاءِ مباشرةً.
كلُّ شيءٍ يعتمدُ على طريقةِ بناءِ العلاقات، ولكنّها تتعاملُ مع عائلةِ فاي، لا غيرها.
ففي أثناء بيعِ أوراق الشاي، يمكنُ الحصولُ على كثيرٍ من المعلومات عبر أحاديثٍ عابرةٍ مع الخدم، خصوصًا في حالةِ عائلة فاي، إذ كان خدمُهم يميلون إلى التكاتفِ فيما بينهم، لأنّ سيّدَهم رجلٌ قاسٍ لا يرحم.
لقد كانوا شبهَ رفاقِ سلاح.
‘قالوا إنّ مساعدَ الدوق هو من اشترى أوراقَ الشاي، أليس كذلك؟’
تذكّرت مورغانا بارتون، ذلك الرجلَ ذا المظهرِ العاديّ.
ولأنّ الأمر لم يُعقَّب عليه بعد الشراء، بدا أنّه لم يكن ذا شأنٍ يُذكَر.
وكمقرّبٍ من دوق فاي، كان بمقدورِه أن يُرسلَ إلى مورغانا رسالةً ما إنْ شاء ذلك.
‘حسنًا، سأُمهله بعضَ الوقت ليفكّر.’
التفتت مورغانا إلى الخدم الذين كانوا ينتظرون إذنَها بالمغادرة.
“في المستقبل، إنِ احتجتُم إلى أعشابٍ أو أوراقِ شاي، خذوها بلا تردّد.”
رفع بعضُهم رؤوسَهم بدهشةٍ واضحة، فابتسمت مورغانا ابتسامةً مشرقةً واثقة، راجيةً ألا تبدو كالسياسيين الذين يُغدقون الوعودَ قُبيل الانتخابات.
“إن تكرّر مثلُ هذا الموقفِ ثانيةً، فسيصعبُ عليَّ الأمر، لذا، لا تتردّدوا في طلَبِ ما تحتاجون.”
انحنى الخدم برؤوسهم في صمتٍ مذهول، ثم تعثّروا وهم يخرجون من الباب.
واو—لقد خرجوا جميعًا في انسجام، وما إن أُغلق الباب خلفهم حتى أطلقوا صرخةً مدوية.
“هل سمعتم ما قالته؟”
“سمعتُ أنّها وُلدت ونشأت في الشوارع، لا عجب أن تكون مختلفة!”
قالت أخرى بنبرةٍ متوتّرةٍ مشوبةٍ بالحماس.
فلا الخادمةُ ولا الخدمُ اعتادوا يومًا أن يُدلّلهم أحدٌ أو يُعنى بهم.
أقصى ما قد تطمحُ إليه الخادمةُ هو أن تُصبحَ مربّيةً لطفلٍ نبيلٍ وتنالَ لقبًا لقاء خدمتِها، لكنّ ذلك مستحيلٌ في منزل الدوق فاي الذي نادرًا ما رُزق أطفالًا.
ومع هذا، أمامَ هيبةِ مورغوس الرهيبة، تجرّأت مورغانا على الانتصارِ للخدم!
فلعلّهم لو أصبحوا خدَمًا لمورغانا، حظوا على الأقلّ بمعاملةٍ إنسانيّة.
بدأت الغَيرةُ تدبّ في صفوفِ الخادمات.
عندها قالت إحداهنّ، كمن يُطفئُ جذوة الحماس.
“لكنّي خائفةٌ قليلًا… كانت تصرخُ في وجوهِنا سابقًا.”
لم تكن قاسيةً على الجميع، لكنّ الخوفَ بقيَ راسخًا في نفوسِهنّ.
قال أحدُ الخدم، محاولًا التبرير.
“لعلّها لم تكن تعرفُ كيف تُعامِلُ الناس؟”
“صحيح، لكنّها مؤخرًا تقرأُ كتبًا في آدابِ السلوك.”
“حقًّا؟ ذكيّةٌ جدًا! تعلّمتها بسرعةٍ فائقة!”
“يقولون إنّها أسرعُ تعلّمًا من الأنسة مورغوس!”
تردّدت أصواتُ الإعجابِ في أرجاءِ القصر، ومرّرت مورغانا أصابعَها بين خُصلات شعرِها وقد اعتراها خجلٌ لطيف.
⚔︎
في اليومِ التالي، أدركت مورغانا أنّ الشائعاتَ في القصر تنتشرُ كالنارِ في الهشيم.
فمنذُ الظهيرة، اصطفّ الناسُ عند بابِها طلبًا لأوراقِ الشاي،
بل نظّموا زياراتِهم حرصًا على ألّا يُزعجوها أثناء نومِها واستراحتِها.
وبينما أخذَ عددُ الخدم يتناقصُ في الأرجاءِ، كان من المألوفِ أن تأتيَ الخادماتُ إلى غرفةِ مورغانا باحثاتٍ عن الهاربات من العمل،
كما لو أنّهنّ أمّهاتٌ يطاردن أبناءهنّ الذين هربوا إلى المقهى بدلَ المدرسة.
“انستي، أعذريني، لديّ عملٌ عاجل…”
“لا بأس، أتشربين شيئًا؟”
لا يستطعنَ الرفض، فيتناولنَ أكوابَ الشاي دفعةً واحدة، وكأنّهنّ يُسرعنَ في شربِه قبلَ أن يؤخَذنَ.
وبعد دقائق، يتبدّلُ التعبُ في ملامحِهنّ إلى دهشةٍ وإشراق.
“آه…!”
“كيف تشعرين الآن؟ أفضل، أليس كذلك؟”
كان ذلك شايًا يُخفّفُ آلامَ العضلات، وأكثرَ المشروباتِ مبيعًا في المتجر، إذ اشتراه الخدمُ المرهقون الذين أنهكهم العمل.
لم يكن من أرفعِ أنواع الأعشاب، لكنّه كافٍ لمن لا يتحرّكون كثيرًا خلال اليوم.
ومنذُ أن تذوّقتْه الخادمةُ أولَ مرّة، عادت في اليومِ التالي في الوقتِ ذاته، تقفُ ثانيةً في الطابورِ أمام غرفةِ مورغانا بلهفةٍ صامتة.
وبسبب ذلك، تعطّل العملُ في القصرِ بعد الظهيرة تمامًا.
قال الدوقُ فاي غاضبًا.
“هل هي توزّع الشاي مجانًا هذه المرّة؟!”
كانت مورغوس قد أحدثت ضجّةً حين نُقلت مورغانا إلى غرفةٍ أكبر، رغم كونِها في زاويةٍ بعيدةٍ عن جناحِها.
وكان الدوقُ قلقًا من أنّها تُدخلُ إلى القصر أشياءً مجهولةَ المصدر.
‘أيُّ عبثٍ هذا الذي تفعلُه الآن؟’
ولمّا سمع أنّ المالَ بات يُتداولُ في الأمر، ظنّ أنّها بدأت تستقيمُ قليلًا، لكن دون أن تُكفّ عن الجشع.
لذلك منحها نفقةً بسيطةً تحفظُ بها مظهرَها اللائق.
وها هي الآن توزّعُ الشاي مجانًا! مجّانًا!
إن كانت تملكُ تلك القدرة، فلمَ لا تُقدّمُ أعشابَها للنبلاءِ؟
ولِمَ لا تُنتجُ ما يجذبُ اهتمامَ الطبقة الرفيعة فتقوّي صلتها بعائلةِ فاي، بدلًا من أن تهدرَ جهدَها على خدمٍ لا فائدةَ فيهم؟
“بارتون، اذهبْ واجمعْ كلَّ أوراقِ الشاي، وأعِدِ الخدمَ إلى أعمالهم.”
في تلك اللحظة، تساءل بارتون إن كانت مورغانا تنوي أن تُثيرَ الفوضى، ثمّ تُبرمَ صفقةً مع الدوق لتغادرَ القصرَ معه إلى مراسمِ الخلافة.
وعند كلمات دوق في، خفض بارتون رأسه متضايقًا.
“حسنًا.”
⚔︎
كان بارتون، الذي عادةً ما يعارضُ الأوامر، مطيعًا هذه المرّة، وسار إلى جناحِ مورغانا.
لم يُعرِ الدوقُ الأمرَ اهتمامًا، لكنّه بعدما شرب الشاي، غيّر رأيَه تمامًا.
‘كان طعمه رائعًا بحقّ.’
فقد أحسَّ أنّ جسدَه، الذي أثقلته الآلامُ أيامًا، قد خفَّ وتجدّد نشاطُه بعد الشرب.
أما الشتائم التي كانت تخرجُ منه كلَّ صباحٍ مع الدوار، فقد خفَّت كثيرًا.
لقد فهمَ الآن لِمَ كان الخدمُ يتهافتون إلى غرفةِ مورغانا.
‘لا بدّ أنّ عائلة فاي سريعي الغضب.’
فمن ناحيةِ الطبع، كانت مورغانا واحدةً منهم.
وتحكي الأساطيرُ أنّ جنّيةَ البحيرة أحبّت القارّةَ حبًّا جمًّا، لكن يبدو أنّ الغضبَ الذي حرّكها حين صنعت السيفَ ضدّ الشياطين، قد توارثَه نسلُ عائلة فاي جيلًا بعد جيل.
أشار بارتون بأصابعِه بخفّةٍ إلى الخدم الواقفين أمام جناحِ مورغانا.
“تنحّوا جانبًا.”
فتفرّقوا كالبحرِ المنشطر، ووقف هو يُعلِن حضورَه بسعلةٍ خفيفةٍ متأدّبة.
“الآنسةُ مورغانا، أنا بارتون، جئتُ برسالةٍ من الدوق—”
“ادخل!”
جاء صوتُها المرحُ مرحِّبًا قبل أن يُكملَ كلامَه.
كانت مورغانا متنبّهةً لزيارةِ بارتون، إذ قلّما يزورُ الجناحَ الجنوبيَّ أحدٌ من منزلِ الدوق.
وبرغمِ مكانتِه، كان واحدًا من القلائلِ المسموحِ لهم بالخروجِ من القصر والعودة إليه بحرّيّة.
ولأنّها كانت شبهَ سجينةٍ في القصر، استبشرت بلقائه كنافذةٍ على العالمِ الخارجي.
نظر بارتون إلى البابِ المفتوحِ بارتباكٍ، غير معتادٍ على تلك الحفاوةِ غير المتوقَّعة.
دخل بعد تردّدٍ لحظةٍ، فاستقبلته مورغانا بابتسامةٍ رقيقة.
“أرسلك الدوقُ إذن. ما الذي جاء بك؟”
قال بارتون بهدوءٍ رسميّ.
“كما ترين، الخدمُ يتجمّعون حول غرفتك، مما عطّلَ سيرَ العمل.”
“أهكذا؟”
التفتت مورغانا إلى صفّ الخدم، فأسرعوا بالتفرّق، حتى الخادمات اللائي كنّ يجمعن أوراقَ الشاي تراجعن بتلعثمٍ.
“آه، نسيتُ أن أُطفئَ ضوءَ المطبخ!”
“أعتقد أن أحدًا يناديني في الخارج!”
وغادرنَ جميعًا كالموجِ المنسحب، حتى خلا المكانُ إلا من بارتون.
رفعت مورغانا رأسَها إليه مبتسمةً ابتسامةً مضيئة.
“أظنّ أنّ رسالةَ الدوق لا تقتصرُ على غيابِ الخدم، أليس كذلك؟”
“صحيح. لقد أمرَ أيضًا بجمعِ جميعِ أوراقِ الشاي وإتلافِها.”
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 9"