استمتعوا
⚔︎
كان الدوق فاى مُحقاً تماماً.
فالأدب لم يكن له وجود في ذاكرة مورغانا.
ولعل تعلّم بعض آداب النبلاء قد ينفعها لاحقاً في بريطانيا.
انحنت مورغانا بانحناءة مهذبة، وقد عقدت العزم أن تبحث في بعض الكتب المناسبة ما إن تغادر المكتب، ثم خرجت.
ولما عادت إلى غرفتها، وجدت الخدم متجمعين أمام الباب في ارتباك وقلق.
“ما الأمر؟”
“انستي!”
تقدمت أوليا من بين الخادمات وقالت بتردد وهي تحرك قدميها.
“إنهم ينقلون غرفتكِ فجأة، وخدم الدوق يأخذون الأثاث بأمره!”
أتراهم يريدون حبسها في غرفة أسوء من سابقتها؟
سألت مورغانا وهي ترى أحد الخدم المألوفين يحمل خزانة، بينما ترمقها الخادمات بعيون قلقة.
“إلى أين يأخذون هذه الأشياء؟”
“آه، آنسة مورغانا، مبارك!”
عرفت الخادمة، فقد كانت هي نفسها التي اعتادت إحضار أوراق الشاي.
قالت وهي تلهث من الجهد، مهنئة.
“الدوق يريدك أن تنتقلي إلى الجناح الجنوبي!”
“الجناح الجنوبي؟ المبنى الجنوبي؟”
سبقت أوليا مورغانا بالرد، بل وصفّقت بفرح.
“تهانينا انستي، يبدو أنّ الدوق أخيراً سيمنحك غرفة لائقة!”
حقاً، كان أفضل، غير أنّ الرضا لم يملأ قلب مورغانا.
فالجناح الجنوبي يقع أبعد من الملحق، وإن أرادت البحث عن الأعشاب، لزمها المرور من وراء الملحق، مما يزيد الأمر صعوبة.
لكن حماس أوليا المفرط لم يدع لها مجالاً للاعتراض.
وقبل أن يُتمّ الخدم نقل الأمتعة، أشرقت أسارير أوليا مجدداً، إذ تبعهم الدوق برسالة جاء فيها.
“إن التجوال في أرض عائلة فاى بمظهر أدنى من الخادم لا يليق بسلطة المرء. سأجعل أمرك أكثر مناسبة، غير أنّ عليك أن تنسي حفل الخلافة.”
وما إن وصلت الرسالة، حتى خرجت وصيفة من متجر الأزياء والصالون وكأنها كانت بانتظارهم، وسلّمت أوليا كتالوجاً.
لم تفهم مورغانا حقيقة وجوه الخدم.
اقتربت أوليا هامسة.
“سأقيس مقاساتك حالما أنتهي من الترتيب!”
ويبدو أنها ستتولى الأمر بنفسها، عملاً اعتادت الخياطات وحدهن القيام به.
‘إنهم يتوخون الحذر لئلا يُشاع أنني ابنة غير شرعية.’
انتقلت مورغانا من ركن الملحق إلى الجناح الجنوبي، ولم يكن الحال مختلفاً كثيراً.
تصفحت كتالوج الفساتين والحليّ بلا مبالاة.
‘أيعني هذا أنّني سأدين للدوق بهذا، أو أنّ عليّ الاستماع إليه بعد أن منحني كل هذا؟’
وربما كان شرف الأسرة يعني له الكثير.
عجيبٌ أن يكون لطيفاً فجأة.
وأي شرف يضيع إن ارتدى الشخص ثياباً رثّة؟
فكّرت مئة مرة، ولم تجد جواباً.
وكأن كثرة ما لديها لم تكفِ، أُعيد ترتيب غرفتها الجديدة سريعاً.
غير أنّ الزائرة غير المتوقعة وصلت قبل أن تستريح.
“ما الذي جاءت لأجله؟”
ارتفع صوت حادّ بنبرة متبرمة.
استدارت مورغوس نحو مصدر الصوت، وعيناها تتيهان في الغرفة المرتبة بدهشة.
رمقت خزانة متواضعة الطراز وقالت بازدراء.
“ومن أين أتيتِ بهذه القمامة؟”
“ذلك… إنه…”
“تشطيب رديء، ورخيص بوضوح… تماماً مثلك.”
طعنة صريحة لمورغانا.
لكنها جلست على السرير مبتسمة بمكر.
“إنه من صنع والد دامي.”
“ومن دامي هذه؟”
“الخادمة. تلك التي بجانبك الآن يا أختي.”
استدارت مورغوس متفاجئة، فرأت بجانبها خادمة بسيطة الملامح، تشد طرف مئزرها وتنكس رأسها.
قالت مورغانا بنبرة خافتة كأنها تروي حكاية.
“والدها نجار.”
وبرغم صدقها، انحنى رأس دامي أكثر وأكثر.
جلست مورغانا على السرير تعدل ثوبها بتمهّل.
“لقد أرادت أن تشتري شيئاً لوالدها، لكن لم يكن معها مال، فأخذتُ منها هذا بدلاً.”
ولم تُصرّح أنه كان مقابل أوراق الشاي.
فلو عرفت مورغوس أنّها تبيع أوراق الشاي لزاد غضبها.
قطّبت مورغوس حاجبيها.
“أيّ متجر أثاث هذا؟ أترينه يأتينا بأشياء من العدم؟”
“متجر صغير في أطراف العاصمة.”
إنه متجر بلا اسم، مكان لا يُنتظر منه أن يبيع إلا لمن أعوزهم الفقر.
أما مورغوس التي نشأت بين الأرستقراطيين، فلن تدرك ذلك أبداً.
لم ترَ فيه إلا قطعة أثاث رديئة تليق بامرأة ركيكة الذوق.
“لطالما عرفت أنكِ تفتقدين للرقيّ، لكن لم أتوقع أن تُدخلي أثاثاً يشبهك حقاً.”
ولم يكن نقد مورغوس يؤذي مورغانا عادة، إذ ثقل كفارة ما ارتكبته في القصة الأصلية أكبر.
لكن هذه المرة كان الأمر مختلفاً.
‘كنت أعلم أن أسرة فاى في انحدار، لكن لم أظنها بلغت هذا السوء.’
إنها أسرة منحوسة.
مورغانا نفسها لم تنشأ في الغنى، وكل ما كانت تملك حياتها فحسب.
أرادت أن تسمع جملة. “أحسنتِ يا ابنتي”، فسعت في أعمال جزئية شاقة لتدخر.
كانت تأمل أن يلتئم شملها بعائلتها حين يستقيم حالهم.
لم تكن متيقنة من صواب الطريق، لكنها أسرت بكلمة “أسرة”، وبذلت جهدها لتردّ المعروف… على فراغ.
أما والد دامي فكان مختلفاً.
لم يقبل شيئاً بالمجان، بل دفع مقابله.
لم يكن الأمر مالاً، بل كان حفاظاً على أسرته التي رآها أجمل ما في الدنيا.
ولهذا منح الأثاث بديلاً عن المال الذي كانت مورغانا تدخره لنفيها في بريطانيا.
ازداد رأس دامي انكساراً، حتى انهمرت دمعة صافية على الأرض.
مسحت عينيها سريعاً بيدها، لكن بكاءها كان بيّناً.
التفتت مورغانا نحو مورغوس وقالت بصرامة.
“أختي، ألن تعتذرين؟”
“من؟ أنا؟ لكِ؟”
“ليس لي، بل لدامي التي بجانبكِ الآن.”
تجهمت مورغوس، وقد طُلب منها أن تعتذر لخادمة.
نظرت حولها، فهزّت دامي رأسها نافياً، وكأنها لا تصدق.
“كلا، لا بأس.”
فلم يكن في عُرف النبلاء أن يعتذر السيد لخادمه.
ذلك مما يخلّ بكرامة الأرستقراطية.
وقد نشأت أسرة فاى على هذا، فشبّوا عليه.
ولعله مغزى الدوق حين أراد حفظ حد أدنى من الكرامة مع رفضه الاعتراف بمورغانا.
“ألا ترين أن عليك الاعتذار لي أكثر؟”
“هذا بيني وبينك. فما شأن دامي؟ هي فقط أعطتني أثاثاً حين طلبت.”
“ذلك…!”
بُهتت مورغوس وصمتت.
غير أنّ صوت مورغانا كان قاطعاً، تقطر منه الجدية.
“يبدو أن ازدراء جهد الآخرين سمة من سمات عائلة فاى. أما أنا، وقد نشأت في الأزقة، فلم أعرف ذلك.”
التفتت مورغوس نحو الخدم الواقفين.
دامي تحاول كبح دموعها، والخدم يتجنبون النظر إليها.
صمت ثقيل يلف الجو، يشي بالرفض لمورغوس.
عضّت على شفتها، ثم صاحت بغيظ.
“سأخبر أبي بأنك تحاولين تغيير غرفتكِ كما يحلو لكِ!”
“افعلِي ما شئتِ، فالدوق هو من منحني هذه الغرفة.”
ابتسمت مورغانا ولوّحت بيدها، وهي ترى مورغوس تدير ظهرها للرحيل.
‘هيا، اخرجي!’
بااانغ—!
دوّى صرير الباب عند ارتطامه.
وبعد ذلك صمت قصير.
تحولت الأنظار خلسة نحو دامي، وقد بدا ألمها بادياً في محاولات مورغانا لمواساتها وتركها وشأنها.
وبشيء من الارتياح، انفجرت دامي قائلة بين دموعها.
“شكـ… شكراً لكِ، انستي…”
كانت تبكي وهي بالكاد تقوى على الكلام.
ومن سلوك مورغوس، كان واضحاً أنها ستعامل الآخرين بالقسوة ذاتها، حتى لو لم تكن مورغانا.
—يتبع.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 8"