بعد مغادرة إدموند، شعرت إيليا للمرة الأولى بما يعنيه حقًا انعدام الدافع.
‘لا أريد أن أتحرك… أبدًا.’
لم تتناول العشاء. قالت إنها بلا شهية، لكن الحقيقة أنها كانت متوترة بشدة حتى لم يعد في جسدها أي قوة لتحريك الملعقة.
بدل أن تجبرها ديزي على الأكل، تركتها وشأنها. كانت تعلم أنّ إيليا لو حاولت ابتلاع لقيمات قليلة فحسب، فستنتهي ليلتها وهي تتقيأ كل ما تناولته.
‘ما هذا؟ حياتي صارت فوضى منذ أمس بسبب إدموند. واليوم لم نكن معًا سوى… ثلاثين دقيقة بالكاد.’
وحين فكرت بالأمر، أدركت إيليا أن مجموع الوقت الذي تحدثت فيه مع إدموند طوال حياتها لم يتجاوز على الأرجح تلك الدقائق الثلاثين.
لذا ما زالت غير قادرة على التصديق، أن مجيء إدموند إليها لم يكن حلمًا.
وفي تلك الدقائق القليلة، الطويلة جدًا في شعورها، كيف كان إدموند؟.
يناديها بلقبها القديم، يحدّق إليها دون أن يرمش…
«اشتقت إليكِ. كثيرًا.»
لقد قال إنه اشتاق إليها. لكن… لماذا؟.
تساؤلات لا تنتهي تركها سلوكه الغريب، وظلت تطارد عقلها بلا رحمة.
حاولت قراءة كتاب، لكن الكلمات كانت تعبر أمام عينيها دون أن تنفذ إلى رأسها. جلست أمام لوحة الرسم، لكنها لم تستطع حتى أن تضع نقطة واحدة قبل أن تُسقط فرشاتها يائسة.
وأخيرًا، لجأت إلى الاختباء تحت البطانية. لكن حتى هناك، لحقت بها ذكريات ما بعد الظهيرة.
“أرجوك… سأموت هكذا!.”
احتجّت إيليا في وجه إدموند الخيالي الذي كانت تتخيله بجانبها. لم تستطع قول كلمة واحدة له حين كان واقفًا أمامها حقًا، لكنها الآن تصرخ عليه بلا تردد.
“لماذا يا إدموند؟ أنت لم… لا، أنت لم تُظهر لطفًا لأحد قط، فكيف لي أنا؟ ولماذا اليوم بالذات؟.”
إدموند المتخيل لم يجب. تجاهلها فقط. ورغم أنه مجرد خيال، شعرت إيليا بمزيج غريب من الغيظ، والراحة.
هكذا هو إدموند. يتجاهل، ثم يتجاهل، ثم يتجاهل.
‘كان هكذا دائمًا، منذ الطفولة وحتى الآن. حتى في اللحظات التي ربما لا يتذكرها.’
لم تتذكر إيليا أول يوم التقت فيه إدموند. العائلتان كانتا مرتبطتين قبل ولادتها أصلاً، وربما رآها وهي ما تزال رضيعًا.
لا بد أنهم أشاروا إلى الرضيعة التي بالكاد تفتح عينيها، وقالوا لإدموند: «هذه هي الفتاة التي ستتزوجها.»
‘ومع ذلك، لم يكن ليوجه أي ردة فعل. بالتأكيد.’
وماذا عن الزمن الذي تلا ذلك؟ حين كانت في الرابعة من عمرها، بالكاد تنطق، والجميع يذوب أمام لطافتها، زار دوق ودوقة راسبي المقاطعة ومعهما إدموند.
ركضت إيليا بصوتها الطفولي وراءه، بحماس كبير.
«إيدي… إيدي.»
ربما أعجبها مظهر الصبي الذي يشبه الدمية. لكن بالنسبة للصبي البالغ ثماني سنوات، لا بد أن الطفلة ذات الأربع سنوات كانت مجرد مصدر إزعاج.
لم تستطع حتى نطق اسمه، فكانت تقول “إيدي” فقط، وتتعلق به دون وعي.
لماذا فعلت شيئًا سخيفًا كهذا؟ كان الأجدر بها أن تطلب من يوجين أن يحملها.
«إيدي، هل تعرف كيف تفعل هذا؟ سأريك. لنفعله معًا.»
«هل تشعر بالملل؟ هل تريد أن تفعل شيئًا آخر مع إيلي؟.»
«إيدي… هل لا تستطيع الكلام؟.»
لم يكن عليها أن تُزعجه بهذا الشكل، تتحدث إليه رغم تجاهله التام لها. لكنها حتمًا كانت تؤمن أن الإلحاح سيجعله يلعب معها.
الكلمة الوحيدة التي نطق بها إدموند ذلك اليوم كانت قبل ركوبه العربة:
«ابنة رواين… تشبه الجرو.»
قالها ذو الأعوام الثمانية لوالدي إيليا وصعد إلى العربة.
حتى إيليا الصغيرة فهمت أنه لا يقصد اللطافة. فلو أراد ذلك، لقالها بنبرة ألطف.
«آسف. هذا الطفل لا يحب الإزعاج، لم يقصد سوءًا.»
لم يعتذر دوق راسبي حقًا؛ فقط قال جملة مجاملة وانصرف.
وبعد رحيلهم، أكمل يوجين توضيح الأمر، كي لا تتوهم أخته شيئًا.
«إيلي… يا غبية، لقد أزعجتِ الشاب وجعلته ينزعج منكِ.»
«أأزعجته؟ يعني قوله “الجرو” يقصد أنه… منزعج؟.»
«نعم. يقصد أنكِ جرو غبي، يتعلق بالناس دون وعي.»
جُرح كبرياء إيليا، وتوقفت عن الجري خلف إدموند بعد ذلك. وبدلًا من ذلك، قررت أن تصبح “كلب الحراسة”.
«لماذا تستمر بالمجيء إلى بيتنا؟.»
كانت تقف بعيدًا عنه وتزمجر كما لو كان لصًا.
بالطبع، لم يتغير سلوك إدموند تجاهها. وربما ظنها مجرد “جرو مزعج من منزل الجيران”.
ولحسن حظهما، دخل إدموند الأكاديمية، ولم يعد يزور المقاطعة. سريعًا، نسيت إيليا ذلك الصبي غير الودود.
التقيا مجددًا في جنازة والديهما. كانت في الثامنة، وهو في الثانية عشرة.
«إيلي، بخصوص والدينا… إنهما في السماء الآن…»
حاول يوجين مساعدتها على فهم الموت، لكنها كانت تفهمه بالفعل.
«يعني… رحلوا؟ ولن نراهم مجددًا؟.»
«نعم. لن نراهم أبدًا… إيلي، الآن لم يبقَ غيرنا.»
فهمت إيليا معنى الموت، ولذلك كانت قادرة على الحزن كما يفعل الكبار.
بدل أن تبكي طلبًا لوالديها، بكت بين ذراعي يوجين حتى فقدت الوعي. كان الحزن أكبر مما يحتمله جسدها الصغير.
أما إدموند؟ فقد وقف أمام التوابيت الأربعة وقد بدا… باردًا.
كأنه لوحة فنية. حتى وهو يحضر جنازة والدَيه ووالدي إيليا، لم يكن يبدو جزءًا من المأساة، بل مجرد مشاهد غريب.
«إنه يشبه جده، بارد حقًا.»
«سمعت أنه لا يملك مشاعر أصلًا…»
سمعت إيليا الهمسات بينما كان يوجين يمسح دموعها.
وحين رفعت نظرها، رأت إدموند.
طفلا رواين اليتيمان، ووريث راسبي الوحيد المتبقي.
كلما بدا الأولان بائسين، ازداد الثاني جلالًا. في الثانية عشرة، كان بطول رجل بالغ، بثياب سوداء، وجمال أخّاذ.
جمال مخيف. اعتقدت إيليا أن إدموند… مرعب.
«سأقابل إدموند غدًا. هناك شيء بخصوص القضية.»
حتى بعد المصيبة، لم تنقطع الروابط بين العائلتين.
فيوجين، صاحب الخامسة عشرة، لم يبلغ سن الرشد بعد، وكان عليه حماية أسرته من أقربائه، وحليفه الوحيد كان إدموند صاحب الثانية عشرة.
قضية وراثة المقاطعة، المعارك القذرة في الرأي العام، العروض الملتوية لتربية إيليا. كانت نصائح إدموند هي ما منحها القوة لتستمر.
لقد كان منقذ آل رواين.
وكان… لا يزال جميلًا.
«إنه يبلغ الخامسة عشرة فقط!.»
«من كان يظن أن الماركيز كراوز سيُهزم أمام هذا الفتى؟.»
كبر الفتى، وأصبح شابًا مذهلاً، وارتفع شأن الدوقية بفضله، بعد أن ظنّ الجميع أنها ستنهار.
سرعان ما اكتسب الهيبة، وصار الحلم الوهمي لعدد لا يُحصى من الناس. لم يكن ينقصه جمال أو نفوذ.
لكن، رغم أن الجميع أرادوه، الفتاة التي حصلت عليه في النهاية كانت ابنة آل رواين.
وحين صار يوجين كونتًا رسميًا، كان أول ما فعله هو طلب موافقة إدموند على الخطوبة. وإدموند وافق، بصمته. وهذا كان كافيًا.
وهكذا تحددت الخطوبة، دون رأي إيليا.
«إيليا، مهما كان هو، فقد أنقذنا.»
كان يوجين يتوسل لأخته، يحاول إقناعها.
«أنقذ حياتنا. وقد لا تفهمين الآن، لكن… آل رواين ليس لديهم خيار آخر. لن أسمح أن تُرسلي إلى عائلة أضعف، أو إلى عامة. أبدًا.»
كان محقًا. لم يكن للعائلة خيار آخر، بسبب وراثة العرش.
فالإمبراطور الحالي بلا أبناء، ولن يكون له أبناء.
لذا وريث العرش سيكون إما ابنة وليّ العهد الراحل، أو الأمير الثالث.
وهكذا انقسم النبلاء إلى حزبين. وكان لابد أن تكون الزيجات ضمن كل حزب.
وبذلك، إيليا هي خيار إدموند الوحيد، وإدموند خيارها الوحيد. إلا إذا خطط أحدهما للهروب باسم الحب، وترك عائلته خلفه.
«مجرد كونكِ من رواين، نعمة.»
حين أُعلنت الخطوبة، حسد الجميع إيليا. لمجرد أنها وُلدت رواين، صارت “النبيّلة المحظوظة” التي خُطبت لدوق الإمبراطورية المثالي.
لكن إيليا لم توافق. لم تكن تريد الحب، ولا النفوذ، ولا إدموند.
«إيلي، كل ما في الدوقية سيصبح لكِ. ألا يكفي ذلك؟.»
«لا أريد أن أكون دوقة، يوجين، إدموند لا يبدو بشريًا أصلًا. لا يتصرف كإنسان.»
«إنه يخفي مشاعره فقط. لديه أعداء كثيرون. إن أظهر ضعفًا، سينقضون عليه. لذا علينا تفهّمه.»
لم تستطع إيليا رفض توسلات أخيها. كان آخر من تبقى لها من العائلة.
«إيلي، عندما تبلغين، إذا لم تتغيري، فلن أجبرك. إلى ذلك الحين، فقط حاولي. أرجوك.»
وافقت. بلا حماسة، لكنها وافقت.
‘إن حاولتُ… هل سأتمكن من حبه؟ أم يجب أن أتوسل لإدموند ليجعلني أحبه؟.’
لكنها عرفت أن التوسل لن يجدي. فقررت أن تحاول فهمه بدلًا من ذلك.
وكما قال يوجين، ربما لأنهما يتشاركان المصير ذاته، قد يتقاربان.
«أه، مرحبًا يا إدموند.»
حاولت النظر في عينيه، حاولت أن تبتسم. لكن التصرف بودّ مع رجل لا يجيب كان مرهقًا.
يوجين قال إنه يخفي مشاعره، لكن مع مرور الوقت، تحولت شكوكها إلى قناعة.
ليس لديه مشاعر ليُخفيها من الأساس.
‘على الأقل، هو يتجاهل الجميع، ليس أنا فقط. هذا… مريح بعض الشيء.’
كان إدموند باردًا مع الجميع. تمامًا كما يوم جنازة والديه.
ثبات مطلق.
‘لو كنت مكانه، لـمثّلتُ على الأقل. حتى لو لم أشعر بشيء، سأتصنع كالبشر…’
تخيّلت نفسها تمثّل البكاء، أو تمثّل اللطف مع خطيبها، بدا لها ذلك أسهل ألف مرة من صمته الحجري.
«إيدي، لا بد أنك تعرف أن الناس يخافون منك حين تتصرف هكذا. أنا أيضًا، أخاف منك.»
لم تستطع فهمه. وكانت أفعاله المجهولة السبب تجعلها خائفة منه أكثر.
وبمرور الزمن، بدأت ترى الكابوس ذاته كلما قابلته.
«أنتِ مزعجة.»
وحش أزرق يغضب منها لأنها تبكي، يناديها بالجرو الغبي، ويحاول إلتهامها.
كانت تهرب منه، لكنها تتذكر يوجين، فتعود، فيمسك بها الوحش.
وكان داخل فمه، باردًا ومظلمًا.
‘لماذا كان الوحش أزرق؟ الوحوش في القصص تكون سوداء… أو حمراء.’
وحين كبرت قليلًا، عرفت السبب.
ذات يوم، حين جرّها يوجين إلى الدوقية، رفعت رأسها بين رحلاته الطويلة.
وهناك، رأت الأزرق.
لون الوحش. أزرق صافٍ، كبحيرة عميقة. نقي، وبارد.
كان في عيني إدموند.
‘جميل، لكنه مخيف. مخيف، لكنه جميل.’
لم تعرف أي شعور صحيح. هل كانت ترى الجمال على أنه خوف؟ أم الخوف على أنه جمال؟.
«مرحبًا يا إدموند.»
تخلّت عن البحث عن إجابة، وقررت مواجهة عينيه. أرادت أن تعرف بنفسها: هل هناك وحش حقيقي في داخله؟.
لم يجب على تحيتها. ولم يتبادلا الكلام. لكنه، لم يهرب بنظره.
ورغم أنه من الوقاحة التحديق، حين التقت عيناها بعينيه، شعرت بأن نظراته تأسرها للحظة.
‘نعم، لا يوجد وحش سيأكلني. هو غير مهتم بي أصلًا. حتى لو توسلت إليه، سيتجاهلني.’
وهكذا، بدأ الخوف يتلاشى، ثم اختفى.
ظل إدموند غريبًا، غير بشري، لكنه لم يعد وحشًا سيبتلعها.
‘أتساءل فقط… بماذا يفكر؟ إيدي، بماذا تفكر حين تعيش؟ كيف تحملت فقدان عائلتك وحدك؟.’
لم تعد تبحث في عينيه عن الوحش، بل عن الإنسان. عن بحيرة تريد أن تعرف عمقها.
بقي موسمان فقط. حين ينتهي الربيع ويعبر الصيف، سيأتي الخريف، وخلاله ستبلغ سن الرشد، وحينها تستطيع أن تختار.
‘ظننت أنّ شيئًا لن يتغير حتى ذلك الوقت. أنه سيظل يتجاهلني كما فعل بالأمس، وأن الغد سيكون نسخةً أخرى من التجاهل ذاته.’
ضاقت أنفاسها تحت البطانية، فأخرجت رأسها. وعلى الطاولة الصغيرة بجوار سريرها، وقف صندوقا الموسيقى.
إحدهما: فتاة تحمل باقة.
والأخر: فتى يخفي كتابًا خلف ظهره.
لو شدّت النابض، سترقص الفتاة، والفتى يراقبها، مترددًا، متى يعطيها الكتاب؟.
‘إيدي، أنت لم تبدُ يومًا بشريًا. فلماذا بدوت اليوم… بشريًا جدًا؟ هل كان قولك “اشتقت إليك” حقيقيًا؟.’
«قد لا تفهمين… لكن…»
‘إن كنت ترى أنني لن أفهم، لماذا قلتها؟ ألديك مشاعر أخفيتها كل هذا الوقت… وظهرت اليوم؟.’
حاولت أن تتذكر الدفء في صوته، الاضطراب في عينيه. هل كان حقيقيًا؟ أم مجرد وهم نسجته؟.
«اشتقت إليكِ. كثيرًا.»
‘أم أنك… تُمثل العاطفة؟ عاطفة لم تمتلكها يومًا؟.’
في تلك الليلة، رأت الوحش في حلمها مجددًا.
لكن بدل أن يلتهمها، مد لها كتابًا.
وحين فتحته، كان ممتلئًا بكلمتين:
«اشتقتُ إليكِ.»
لكنها لم تستطع قراءة خط الوحش.
لم تستطع قراءة شوقه.
وكان فضولها أكبر من قدرتها على الاحتمال.
كم رغبت أن تعرف ما كتبه ذلك الوحش الأزرق.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 8"