“إ-إدموند… ما الذي تفعله؟.”
بدأ إدموند يفك أزرار سترته الاحتفالية أمام إيليا، زرًا بعد زر.
“انتظر، انتظر! إيدّي! هل جننت؟ هل فقدت عقلك؟.”
كانت إيليا مصدومة إلى حدّ أنها نادته بلقبه القديم في طفولته دون أن تشعر.
لكن رغم احتجاجاتها، لم تتوقّف يداه عن فكّ الأزرار. كانت حركاته هادئة، بلا عجلة ولا تردد.
كان فعلاً مجرد خلعٍ عادي للسترة، لكن ربما لأنه إدموند، الذي ظنّت أنه مختل، بدت حركة بسيطة كهذه أشبه باستعدادٍ لافتراسها.
“م-ماذا تفعل بالضبط؟!.”
حتى وهي تصرخ مطالِبةً بالتفسير، لم تستطع إيليا إبعاد عينيها عن حركة يدَيه.
ولم تعد قادرة على لوم خوفها، فذلك الخوف كان قد تبخّر منذ لحظات. ربما حين فكّ آخر زر.
ما إن انكشفت القميص الأبيض النظيف والصديري الداكن، حتى نسيت إيليا أنها كانت غاضبة.
‘يا إلهي… لابد أنني فقدت عقلي أنا أيضًا.’
ما إن استعادت وعيها حتى كان إدموند يقترب منها حاملاً سترته التي خلعها. وما إن ظلّل جسده جسدها حتى خطت خطوة إلى الوراء بغريزة خالصة.
للحظة، غاص بريق البحر في عيني إدموند بعمقٍ خطير.
“إيلي، لا تهربي.”
“أنا لا… أعني، أنت فقط تبدو مخيفًا. تظهر فجأة وتفعل أشياء لم تفعلها في حياتك.”
“لا تتجنّبيني. لن أفعل شيئًا. لن أفعل بكِ شيئًا.”
“هل ينقص نهاية الجملة شيء؟ مثل… «ليس الآن» أو «فقط لليوم»؟.”
ورغم خوفها وانكماشها، لم تتوقف إيليا عن الرد عليه. اكتفى إدموند بالابتسام دون إجابة. ثم وضع سترته برفق على كتفيها.
لم تلمس يداه جسدها، لكن حرارة السترة حين لامستها جعلتها تشعر وكأن جلده يلامس بشرتها.
دام ذلك الشعور الغريب لحظة فقط، قبل أن ينزل ثقل الزخارف الثقيلة التي تحملها السترة على كتفيها. لم تقدر إلا أن تتأوّه.
“آه…”
“هل يزعجكِ وزنها؟.”
“نعم، إنها ثقيلة جدًا. كيف ترتدي شيئًا كهذا؟.”
“اعتقدتُ أنها ستريحكِ أكثر من تمسّككِ بالشال.”
“أه… إذن هذا سبب خلعك لها؟.”
كانت السترة، كما قال، كبيرة جدًا بحيث التفّت حول جسد إيليا قليلًا، ولم تعد بحاجة إلى الإمساك بشالها.
“همم… لحظة واحدة.”
بعد أن أعطاها السترة، تراجع إدموند خطوة إلى الخلف بلباقة. حينها فقط أدركت إيليا كم اقترب منها.
ثم أدركت كم كان ضخمًا، وفي المقابل، كم كانت صغيرة.
‘لو وضعوا نسخة مني فوق الأخرى، لبقيتُ أصغر من إدموند…’
ساعدها هذا التفكير السخيف على الهدوء قليلًا. أدخلت ذراعيها في أكمام السترة الثقيلة بحذر.
وقد غمرها القماش الكبير حتى كادت تبدو كدمية قش وسط حقل قمح.
لم تكن تعلم ما الذي كان يدور في ذهن الرجل الواقف أمامها، وهو يتأملها بصمت.
“…”
كان يتظاهر بأن كل شيء طبيعي، لكن إدموند كان يشعر وكأنه يحلم.
فهو في الثانية والثلاثين، لكنه استيقظ صباح هذا اليوم في جسد شاب في الثانية والعشرين. وفي ذهنه، لم تكن قد مرّت سوى ساعات منذ كان ينهار أمام جثة إيليا الباردة.
“أه… إنها ثقيلة جدًا، يصعب ارتداؤها.”
امرأة ظنّ أنه فقدها إلى الأبد، تقف الآن أمامه حيّة، تتنفس وتتحرك—
يا لفرحه، ويا لعطشه.
احتاج إلى كل ما تبقى له من قوة ليحافظ على بقايا عقله وهو يراها أمامه، تلك التي اشتاقها بعمقٍ يوشك على تمزيقه.
“إذن، أعرتني السترة لأتمكن من فتح الهدية فورًا. ما هي بالمناسبة؟.”
تحركت إيليا نحو الطاولة التي وضعت عليها الهدية، وهي تكاد تترنح تحت ثقل السترة.
‘لو كانت هدية غريبة، لن أسامحه أبدًا.’
حتى لو أرادت التخمين، لم يكن هناك شيء يوحي بما تخبئه.
لم يسبق لها أن تلقت هدية من أحد، ولا من إدموند خصوصًا، لذا كانت الاحتمالات بلا نهاية.
ودّعت الشريط الأنيق في ذهنها، ثم سحبت الطرفين بقوة خفيفة. فانزلقت القماشة كزهرة تنفتح، فظهر صندوق خشبي خشن.
فتحت الصندوق بحذر.
“يا إلهي، ما هذا؟.”
حدّقت إيليا في محتوى الصندوق، عاجزة عن الكلام. التفتت بعيدًا، لكن صوتها لم يصل إلى إدموند الذي كان يختنق من فرط العطش إليها.
وكاد يمد يده ليمسك بذراعها ويجبرها على مواجهته، لكنه اكتفى بمناداة اسمها.
“إيلي.”
أخفى هوسه بمهارة حتى لا تخاف منه إيليا الفتيّة، متقمصًا دور الخطيب الرقيق.
“إن لم يعجبكِ، سأجهّز هدية أخرى. يمكنني أن أرسلها إلى المقاطعة خلال نصف يوم.”
“…هاه؟ ماذا؟.”
“الهدية.”
كانت منشغلة بالنظر إلى صندوق الموسيقى التي بين يديها فلم تفهم ما قاله في البداية. أدركت بعد لحظة أنه يسألها عن رأيها.
“لا، ليس الأمر كذلك. إنها فقط… جميلة جدًا. لم أتلقَّ هدية كهذه في حياتي، هل هي صندوق موسيقى؟.”
“نعم. صندوق موسيقي يعزف «رقصة يوريا».”
“أأنت… أنت حقًا تهديني هذا؟ يبدو ثمين للغاية…”
حتى بعد أن أكّد لها إدموند أنه صندوق موسيقى، لم تستطع تصديق الأمر.
كل خصلة من شعر الدمية منحوتة، وثوبها يرفرف في الهواء، والباقة تتلألأ بالجواهر، وحتى الجرو الصغير يقف على قائمتيه الأماميتين—
‘إن كانت هذا صندوق موسيقى، فكل ما رأيته قبله لم يكن يستحق أن يُدعى كذلك.’
كانت تحفة فنية لا تُقدّر بثمن.
“…شكرًا لك. لقد جئت فقط لتسلمها لي، صحيح؟. هل وصلت إلى الدوقية كهدية؟.”
“جئتُ لأنني اشتقت إليكِ. حقًا.”
عند نبرة اليقين في صوته، شعرت إيليا أن وعيها يوشك على الهرب منها. رغبت في سؤاله عن السبب، لكنها خافت من الإجابة.
ومع ذلك، لم يكن السبب، الحب.
‘حب؟ مستحيل.’
الرجل اللامبالي، الذي كان بالأمس قلبه صحراء، لا يمكن أن تتحول قسوته فجأة إلى حب متلألئ هكذا.
—
«اشتقت إليكِ، وظننت أنك ستحبينها، فاشتريتها.»
بعد أن قال إنه اشتاق إليها مرارًا، غادر إدموند القصر.
‘لقد فعلها فعلًا، أعطاني الهدية وغادر. كنت متأكدة أنه سيرميني برسالة فسخ الخطوبة ثم يختفي.’
ما الذي بدّل الرجل البارد الذي كان بالأمس؟.
وقفت إيليا في غرفة الجلوس، لا يخطر ببالها حتى خلع السترة التي منحها لها خطيبها.
وفي تلك الأثناء، دخل موظفو المقاطعة بعد مغادرة الدوق، وبدأوا يلهجون إعجابًا بسترته التي ترتديها إيليا، وبصندوق الموسيقى الساحر.
“إنه الحب، يا إلهي!.”
‘لا، لا يمكن أن يكون!.’
“الدوق، الذي قيل إنه كتلة جليد، وقع في حب آنستنا!.”
‘لماذا، لماذا يصدّقون الأمر بسهولة هكذا؟.’
“قلت لكِ يا آنستي، لقد وصل حبك.”
‘ديزي، لقد كنتِ هنا بالأمس! سمعتِ كيف عاملني الدوق. كيف تفترضين أنه… حب؟.’
‘هل الحب يفترض أن يأتي هكذا؟ دون أي تمهيد، ثم يتصرف صاحبه تصرفات مجنونة؟ هل… هل هذا هو الحب؟.’
“بدل الوقوف هنا، علينا تجهيز ملابس الآنسة إيليا ليوم الغد…”
“ألا يوجد لكم عمل؟ توقفوا عن التجمّع هنا! هيا، انصرفوا!.”
وحين استعادت إيليا رباطة جأشها، طردتهم جميعًا. فهم الخدم إحراجها، فأخلوا الغرفة بسرعة.
لكن قبل أن تخرج، التفتت ديزي ونادت:
“آنستي.”
“…ماذا؟.”
“هل ستبقين مرتدية…”
“آه! لا، بالطبع لا!.”
نزعت إيليا سترة إدموند عنها بسرعة، وكأنها تتخلّص من حشرة عن جسدها. كانت على وشك قضاء اليوم كلّه بها.
“…”
“ديزي، لا…”
“أنا لم أقل شيئًا.”
لكن نظرتها كانت تقول كل شيء وهي تغادر.
وبقيت إيليا تتساءل بفزع:
‘هل أنا فقط…؟ أأنا الوحيدة التي لا تفهم لماذا يتصرف إدموند فجأة بهذا الشكل؟.’
—
في حياة إيليا ذات الثمانية عشر عامًا، كان إدموند يؤكّد حبّه بلفّ مفتاح صندوق الموسيقى.
فبدأت الدمية الجميلة على سطحها بالرقص في يد إدموند.
ستستمر الراقصة بالدوران ما دام الزنبرك مشدودًا، دون أن تدري أنها أسيرة كفّه.
ولم يكن للأمر مفرّ.
فهو الرجل الذي قرأ القصة كاملة، القصة التي لم تعرف إيليا منها شيئًا.
أما الآن، فلم يكن أمامها سوى أن تنجرف، وتُخدع.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 7"