بعد أن أخذتْ نَفَسًا عميقًا، فتحت إيليا باب غرفة الاستقبال، وكان إدموند راسبي موجودًا بالفعل.
دوق الإمبراطورية الشاب. سيد أسرة راسبي، ذو العقل اللامع، والعزيمة التي لا تُقهر، والقسوة التي يخشاها الجميع. الذئب النبيل الوحيد.
وخطيب إيليا. الرجل الذي ستتزوجه ما لم يقرر تركها، كان ينتظرها هناك.
“…لماذا أنت هنا؟.”
كان رأسها يؤلمها بعد أن عبث الخدم بشعرها. لم تستطع أن تفرك فروة رأسها أمام إدموند، فاكتفت بتشديد قبضتها على شالها.
ورغم التوتر الذي خنق صدرها، لم تنسَ إيليا أن تغلق باب غرفة الاستقبال بإحكام. لم تكن تريد لأحدٍ في الخارج أن يسمع حديثهما، ولو بالصدفة.
“إدموند، لماذا جئت؟ يوجين في القصر. وسمعتُ أنّك لم تحدّد موعدًا مسبقًا…”
“إيليا… إيلي.”
“…ماذا؟.”
ظنّت إيليا أنها لم تسمع جيدًا. لم يخطر ببالها قطّ أن إدموند، الذي توقّعت أن يصرح بأمره بصراحة ثم يغادر، سيناديها بذلك الاسم الدافئ.
وفوق ذلك، بدا صوته مختلفًا كليًا. كان صوت إدموند دائمًا باردًا، ساكنًا كبحيرة متجمّدة، حتى عندما يُلقي التحايا العادية.
كانت تشعر بالاختناق كلما سمعته، لذلك، وبعد أن نضجت قليلًا، لم تَعُد تحاول حتى بدء حديث معه.
‘لطيف…؟ هذا غير ممكن.’
لم يكن هذا الوصف يومًا ملائمًا لإدموند. ومع ذلك، كان صوته قبل لحظة يبدو لطيفًا بلا شك.
‘لماذا؟.’
بالأمس فقط عاملني كغبار عالق على ثوبٍ أبيض. حتى حين ذكرني يوجين على طاولة العشاء، تجاهلني كعادته، ولم يرمِني ولو بنظرة!.
والآن، بعد أن بدأ يهتم بها فجأة، أصبح حذر إيليا مضاعفًا. شدّت قبضتها على شالها حتى ابيضّت أناملها.
لكنني سيّدة هذا المنزل ما دام يوجين خارج رواين! لا يمكنني أن أُصغّر نفسي أمامه! حتى الأرنب الآكل للعشب يملك أسنانًا.
قررت أن تعضّ قبل أن تُعضّ، ثم تهرب.
ستخترق الممر وتصرخ: “الدوق سيغادر! أسرعوا لتوديعه!” ثم تهرب إلى غرفتها.
وما دامت ترغب في فعل أمرٍ متهوّر، فلا ينبغي أن تتردّد. فتحت إيليا فمها فورًا، وأظهرت أسنانها التي لم تُخلق إلا لمضغ العشب.
“ما الذي أصابك…؟ أعني، يا إدموند. لماذا جئت فجأة وتناديني بذلك الاسم الطفولي بطريقة مخيفة؟.”
“كنتِ تحبينه، يا إيلي.”
ورغم أنها حاولت دفعه بجفاء، لم يفعل إدموند سوى أن اقترب أكثر.
خطيبها هذا لا يبالي عادةً برأي أحد، ولكن ما فعله الآن كان مبالغًا فيه.
ما الذي يقوله؟ لم ينادِني به قط من قبل، والآن يقول إنني أحبه؟.
كان نادرًا أن ينطق حتى باسمها “إيليا”. كان اهتمامه بها ضئيلًا إلى حد أنه لم يكن يذكر اسمها أصلًا!.
“إيلي.”
يا إلهي. عند سماعها الصوت مجددًا، عضّت إيليا لسانها بتوتر.
وفجأة، أصبح إدموند أمامها تمامًا. أقرب مما كان في أي وقت مضى.
هيئته الطويلة على بُعد ثلاث خطوات فحسب، صوته ونظراته اللطيفة إلى درجة قادرة على خداع أي شخص، والعينان اللتان تشدّانها إليه بلا رحمة.
كان قريبًا، قريبًا إلى درجة جعلت أنفاسها تتقطع. أما عيناه، بلونهما العميق الموشّى بالزرقة، فقد ثبّتاها في مكانها تمامًا.
‘هذا غير منطقي، لا يمكن أن يكون…’
لكن الأمر لم يكن وهمًا. إيليا، رغم ارتباكها، كانت ما تزال قادرة على التفكير. ولم تستطع التظاهر بعدم الفهم.
مناداته لها بلقبها، بصوت لطيف، والنظرة التي بدت وكأنها مقدمة لاعتراف حب…
هكذا يُعامل المرءُ خطيبته العزيزة.
على الأقل، ظاهريًا، كان يتصرّف كعاشقٍ مثالي، وأي أحمق كان سيلحظ ذلك بسهولة.
‘يمثل. لابد أنه يمثّل. لا أعرف ما الذي يخطط له، لكن لا تفسير غير هذا. وإلا…’
أقنعت نفسها بأن إدموند ممثل بارع، أو أنه مجنون.
‘نعم، هذا منطقي أكثر. ربما كتم مشاعره حتى انفجر فجأة. يا إلهي…’
وإن كان هذا صحيحًا، فهذه كارثة. فهي الآن وحدها في مواجهة إدموند المجنون!.
‘إدموند، المجنون، لا يمكنني البقاء هنا. يجب أن أهرب… لكن كيف؟.’
كانت خطتها الأصلية أن تعضّ ثم تهرب. لكن الآن أعادت التفكير بالكامل. الهرب أولًا، الهرب فورًا.
رغم أن ساقيها تجمدتا، ورغم أن عينيها أسرتا بنظراته، ورغم أن أنفاسها تكاد تنقطع، كان عليها الهرب مهما حدث.
كان الرجل أمامها يبدو مجنونًا تمامًا.
فمن منظور إيليا، كان إدموند قبل لحظات في الحديقة، ثم ظهر فجأة في الطابق الرابع!.
لو أنه صعد من الطابق الأول تدريجيًا، خطوة خطوة مثل الآخرين، لكانت ربما تقبّلت الأمر ولو قليلًا. لربما فكرت: رغم بروده، يبدو أنه إنسان في النهاية.
ربما كانت ستلين، وتُفتح قلبها قليلًا لذلك الحب الذي تمدحه ديزي كل يوم.
لكنّ إدموند لم يستعمل السلالم. لا حرفيًا ولا مجازيًا.
لقد قفز من الطابق الأول إلى الرابع دفعة واحدة.
لا، جسديًا وعاطفيًا، تجاوز الثاني والثالث! هذا مستحيل!.
وبما أنّ المستحيل حدث فعلاً، فكان طبيعيًا أن تخاف.
وفي النهاية، سقطت إيليا في خوف غير منطقي أمام خطيبها. أرادت أن تهرب من هذا الرجل المجنون والعودة إلى الواقع.
“…إدموند.”
قررت إذن أن تستفزه. كانت تأمل أن يتصرف بغضب، أي شيء أكثر “إدموندية” من هذا التمثيل الغريب.
“لماذا فجأة… لا تقل لي إنك جُننت؟.”
كانت تفضّل أن يغضب، أن يعود إلى طبيعته القاسية، أكثر من أن يواصل ادّعاء اللطف والحب ومناداتها بلقبها.
“أم أنك جئت تنتقم لأنني ارتكبت خطأ ما؟ لم أفعل شيئًا لك، لذا توقف عن هذا الجنون… فقط قل لي لماذا جئت.”
لم تكن تقصد إضحاكه، لكنه، ولأول مرة، ابتسم كما لو سمع نكتة.
ارتفاع بسيط في زاوية شفتيه، ضحكة خافتة، كل هذا كان جديدًا بالكامل. لم تكن تعرف أن إدموند قادر على الابتسام هكذا.
‘أنا… لا أستطيع التنفس.’
أكان ذلك بسبب جماله؟ أم بسبب الخوف الذي ينهشها؟ لم تعرف. صدرها ضاق حتى شعرت أنها تختنق. ابتلعت ريقها لتتنفس.
“إيلي… اشتقتُ إليكِ.”
آه، أما هذا، فقد جعل قلبها—
“لن تفهمي على الأرجح، لكن…”
‘لا أفهم! اشتقتَ إليّ؟ لقد رأيتني أمس! صحيح؟.’
بالأمس، تجاهلها كأنها لوحة معلّقة على جدار مهجور. واليوم، يتصرّف وكأن الأمس لم يكن.
أرادت الاحتجاج، لكن شفتيها المتجمدتين لم تنطقا حرفًا.
كانت تتمنى لو يصمت. كانت تخاف مما سيقوله بعد ذلك. نظرت إليه برجاء صامت.
‘إدموند، رجاءً، فقط ببطء، ببطء…’
لكن رجاءها لم يصله.
“اشتقتُ إليكِ… كثيرًا.”
أفرغ إدموند مشاعره بإصرار، وإيليا لم تستطع سوى تلقيها.
—
‘أنا… اشتاق إليّ؟.’
خفق قلبها. وارتجفت إيليا دون أن تعرف السبب.
لم تستطع التمييز، هل كان هذا الخفقان خوفًا؟ أم بسبب صوته الملهوف، أم نظرته؟.
لم تكن تعرف الحب، فلم تستطع قراءة ما في قلبها.
‘لا أعلم. هذا قلبي، ومع ذلك لا أفهمه.’
شعرت بأنها قد يُغشى عليها من شدّة المشاعر التي أغرقها بها إدموند.
انتظر إدموند، لكن الانتظار لم يهدئها. ربما كان الأفضل أن يغيّر مجرى الحديث.
“إيلي.”
“ها… هاه؟.”
“أحضرت لكِ هدية.”
“…ماذا؟.”
وسط واقع يصعب تصديقه، سمعت إيليا إدموند يقول إنه أحضر لها هدية.
‘آه، إدموند… وهدية…؟.’
كانت مرهقة إلى درجة جعلتها تستقبل كلماته كما هي، بلا مقاومة.
لم تحاول حتى التفكير، لماذا يهديها شيئًا؟.
نظرت إلى الاتجاه الذي أشار إليه، فرأت صندوقين ملفوفين بساتان فاخر، وقد شدّ حولهما شريط ببراعة.
“إن أردتِ، يمكنكِ فتحهما بنفسكِ.”
بدا عليها مرة أخرى ذاك الذعر الأرنبّي. فقد كان صوته مهذّبًا للغاية، على نحوٍ صدمها.
‘«إن أردتِ»؟ هل قال ذلك لي حقًا؟.’
حتى الإمبراطور نفسه ربما لم يُعامل هكذا يومًا من إدموند.
“إذًا، تريدني أن أفتحهما الآن؟ آسفة، لكن يداي مشغولتان… ألا يمكنني فتحهما لاحقًا؟.”
كانت فضولية بطبيعتها، وتريد معرفة ما في الهدية، لكنّها لم تستطع تحرير يدٍ واحدة. لو فعلت، لانزلق الشال الأزرق فورًا.
لم يهمها كثيرًا أن ثيابها الداخلية بدت كخرقٍ بالية. لكن هذا الشال هو درعها الوحيد الآن.
‘يا إلهي، ماذا كنت سأفعل لو لم أستمع لنصيحة ديزي؟ لولا هذا الشال، لكنت الآن كالأرنب المسلوخ أمام إدموند.’
حتى الآن، شعرت إيليا بأنها أرنب صغير واقع في فخ نظراته، مستعد لأن يبتلعها دفعة واحدة.
“آسفة، سأفتحها لاحقًا، أعدك. إذًا، قلت إنها هدية لي، صحيح؟ هاه… أنا فضولية جدًا لمعرفة ما بداخلها.”
حاولت رفض طلبه دون أن تبدو مذعورة. بدا صوتها غريبًا حتى على أذنيها.
لكن حين رُفض طلبه، تركت عيناه عينيها أخيرًا. ثم…
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 6"