لم يزر إدموند منزل الكونت رواين منذ يوم زفافه في حياته السابقة. وقبل ذلك، لم يكن يأتي إلا حين كان كبار العائلتين ما يزالون على قيد الحياة.
لم يكن القصر ذا طابع خاص أو جمال يُذكَر. آثار الزمن واضحة في أرجائه، وحتى الحديقة، وهي أجمل ما فيه، كانت خارج موسمها، كئيبة باهتة.
ترجّل إدموند من العربة، وتجاوز بنظره الحديقة غير اللافتة، ورفع رأسه إلى الطابق الرابع من القصر. بعد الزفاف، ووفقًا لتقاليد الإمبراطورية، قضى ليلته الأولى في غرفة إيليا في الطابق الرابع.
يومها، أسدى المدعوون إليه نصائح عديدة:
«وإن بكت عروسك، فلن يكون ذلك لأن الزواج يضايقها، فهدئها بلطف.»
لكن إيليا لم تبكِ، اكتفت بالتذمّر من ثقل فستان الزفاف. ولم يكن مجرّد تذمّر، فالزينة المفرطة كانت تستغرق وقتًا طويلًا لتُزال.
«رويدك، رويدك، لو تمزّق… هذا كان فستان أمي.»
في ذلك اليوم، أظهرت إيليا لإدموند لطفًا للمرة الأولى. لم يأمرها أحد بذلك، لكنها بدت وكأنها اتخذت قرارًا حاسمًا بنفسها: «ابتداءً من اليوم.»
كان الأمر محرجًا، بل إن وجود إدموند نفسه كان يسلبها ثباتها كله، فلم تستطع قول أكثر من بضع كلمات مترددة.
وأثناء استغراقه في ذكرياته، وصل كبير خدم آل رواين مسرعًا.
قال بارتباك:
“عذرًا، أترغب في مقابلة السيد؟.”
فأجاب هانز نيابة عن سيده:
“لقد التقى الدوقُ بالكونت في القصر، ولكن يبدو أن الرسالة لم تصل بعد.”
انحنى الخادم معتذرًا:
“أجل، لم نتلقَّ أي إخطار… أعتذر.”
كان كونت رواين قد أُصيب بالذهول إلى درجةٍ جعلته ينسى إبلاغ الخدم بقدوم الدوق.
“من المؤكد أنه ارتبك. أجل… لو كنت مكانه لتعثّرت الكلمات في فمي بدوري.”
تولّى هانز توضيح الموقف، متغاضيًا بسخاء عن تقصير خدم الكونت في القصر. أما إدموند فلم يكن يكترث.
فارتباك موظّفي الكونت لا يعني شيئًا بالنسبة له، هو شأن خاص بهم وحدهم.
قال كبير الخدم، منحنيًا أكثر:
“أعتذر. جئتم من مسافة بعيدة، ومع ذلك بدا استقبالنا لكم ضعيفًا…”
وبمجرّد أن أعلن أنه الدوق، انشغل قصر رواين بالاعتذارات والاستعدادات على عجل.
قال هانز:
“لن يطيل الدوق الجلوس، إنها مجرد محادثة قصيرة.”
“حسنًا، حسنًا… سنجهّز مكانًا مناسبًا للحوار.”
فقال إدموند ببرود:
“سأنتظر هنا.”
أعرب كبير الخدم عن اعتذاره مرة أخرى بسبب الزيارة المفاجئة، ثم جمع الخدم الواقفين في الممر. ولسوء الحظ، كان اليوم مكتظًا بالزوار من التجار والنبلاء الصغار، لذا تعيّن عليهم أن يأخذوا الدوق إلى مكان منعزل.
“هناك الكثير من الغرباء اليوم. يجب أن نأخذه إلى الطابق الرابع.”
“أجل، ديزي حافظت على الطابق الرابع مرتبًا. المشكلة في الآنسة إيليا…”
كان هانز يختلس السمع من خلف الباب بطريقة موظفٍ متمرّس، فلاحظ النظرات المتأملة.
لو كانوا من خدم الدوقية، لما تجرأ أحدهم على النظر مباشرة نحو سيده، لكن خدم آل رواين كانوا يرمقون إدموند بفضول بريء، لا بخوف. لعلهم يشبهون سيّدهم في هذا.
قال هانز بتمثيل الانشغال:
“سأنقل الهدايا إلى الطابق الرابع وأنتظر هنا.”
ولو سمع فارس الحراسة ذلك لكاد يوبّخه قائلًا: «هذا يخالف بروتوكول الحماية!.»
لكن هانز لم يكن ينوي التورّط بأي شكل في لقاء سيده بخطيبته.
‘أفضل ألف مرة أن أبقى ‘مساعد السيد’ في الطابق الأول.’
كان صخب الخدم لا يزال يتردّد في الممر. وبين صوت كبير الخدم الذي يسأل عن غرفة الاستقبال، وبين أصوات الخدم وهم يركضون للبحث عن ابنة سيدهم، بدءوا ينادونها في كل اتجاه:
“الآنسة إيليا ليست هنا!.”
“ديزي تتفقد غرفة الاستقبال، فلنبحث نحن عنها بأنفسنا!.”
“ليست في المطبخ! هل تأكدتم من غرفة الدراسة؟.”
“آنستي! يا آنسة إيليا!.”
كان إدموند يمعن النظر في الزينة الباهتة في غرفة الاستقبال حين التفت نحو الباب.
سأل هانز:
“لقد أصبح المكان صاخبًا… هل أغلق الباب؟.”
“لا داعي.”
وفي خضم الأصوات المتداخلة، تكرّر اسم إيليا.
واسمها على لسان الآخرين كان يمرّ في صدره كالعسل.
ورغم أن «إيليا» كانت حتى الآن مجرد اسم، فقد شعر وكأنها تناديه بصوتها الذي ظلّ يرنّ في أذنيه طوال تلك الليلة القديمة في هذا الطابق.
«إيد- إيدي… إيدي.»
هلوسة.
كان كل ما يحدث غير مألوف، بل عبثيًا.
‘ربما أصابني الجنون لأنني متّ مرةً.’
—-
قال هانز:
“سأنتظر إذن في الطابق الأول.”
ترك صندوق الموسيقى في غرفة الاستقبال في الطابق الرابع وغادر. كما قدّم الخدم لإدموند فنجان شاي ثم تركوه بمفرده.
جلس ينتظر إيليا، في مكان لم يعرفه من قبل قط.
كان الممر الممتد نحو غرفتها مليئًا بالخطوات والنداءات، فيما بدت إيليا، من دون أن تدري أن أحدًا يبحث عنها، وكأنها تختبئ في مكان ما داخل القصر.
“ثمانية عشر عامًا… ربيع الثامنة عشرة…”
حاول إدموند استحضار صورة إيليا الصغيرة من ذاكرته. كيف كانت مختلفة عن المرأة التي عرفها لاحقًا، المرأة التي رمت أوراق الطلاق في وجهه.
وجهها الذي لم يزد قط وزنًا كان لا بدّ أن يحمل بقايا طفولة.
هل كانت ستحدّق فيه مباشرةً كما فعلت حين احمرّ وجهها ذات يوم؟.
وحين تزداد جمالًا عامًا بعد عام، هل ستهرب منه ثانيةً عندما تبلغ الثامنة والعشرين؟.
ومع ذلك، كان إدموند واثقًا من شيء واحد:
حتى لو لم تحبه إيليا، فسيكون على ما يرام.
‘وإن حاولتِ الرحيل عني ثانيةً، فسأمسكِ بكِ. ولو اضطررت أن أجثو على ركبتي أتوسّل إليكِ.’
لم يكن ليتردد في ارتكاب دناءة، كاحتجاز أحدٍ يهمّها، ليمنعها من المغادرة.
أو اللجوء إلى وسيلة أشد خسة، كأن يُثقل قلبها الواهن بالذنب، ويُخبرها أنه سيموت إن تركته.
فإن لم تبادله الحب، فلا بأس.
لكن، هل يستطيع هو أن يحب إيليا ذات الثمانية عشر عامًا؟.
هل سيحبها الآن، وقد جاء إليها بروحٍ عمرها اثنان وثلاثون عامًا؟.
ربما كانت إيليا هذه مختلفة عن المرأة التي أحبها.
ربما كان الموت قد أعادها إلى الدنيا بشكل يعاقبه به.
وماذا لو أصبح صوتها ضجيجًا؟.
ونظراتها لا توقظ فيه شوقًا؟.
وملامحها، وإن كانت نفسها، لم تعد المرأة التي عشقها حتى الهلاك؟.
وربما… ربما يُفسِد رجلٌ في الثانية والثلاثين فتاةً لم تتفتح بعد، فيحوّلها إلى امرأة مختلفة عما كانت ستصبحه…
هل سيكون ذلك صوابًا؟.
قطعًا لا.
فإن لم يستطع أن يجد المرأة التي أحبّها في هذه الفتاة، وإن عجز عن أن يحبها، فسيكون ذلك هو العالم ذاته الذي خسر فيه إيليا.
‘لا يهمني إن لم أُحَبّ. لكن يا إيليا، إن لم أستطع أن أحبّك أنتِ، فلا حاجة لي بعالم كهذا. ولربما…’
لربما كان عليه أن يموت مرارًا، عشرات المرات، مئات المرات، حتى تعود إليه إيليا التي فقدها.
أن يطعن نفسه في جرحٍ أعمق في كل مرة، على أملٍ واهٍ بأنّ المرأة التي أحبّها ستعود في النهاية.
لكن سيأتي وقت يدرك فيه أن القرابين التي يقدمها للسماء لم تعد صافية، وأن قلبه الملوث وجسده المرهق لن يأتيا له بمعجزة البتة.
وإن لم يستطع استعادتها، وإن انسدّ عليه الطريق إلى عودتها، فماذا يفعل حينئذٍ؟.
بدأ خوفٌ لا أساس له ينهش عقله.
‘إيليا، ربما الأفضل أن أترككِ الآن، في الثامنة عشرة، كما فعلتُ أول مرة. أن أرجو حبكِ من بعيد، دون أن أقترب.’
‘أصبر، حتى أوشك على اليأس، ثم أربطكِ إلى جانبي أخيرًا، كي لا تتمكني من الهرب.’
“…”
نظر نحو غرفة الاستقبال، التي هدأ صخبها.
ولم تظهر إيليا بعد.
تردّد إدموند.
الهرب؟ الكبرياء؟ لم يعد أيٌ من ذلك يعني شيئًا.
‘هل أغادر الآن؟ أخرج من القصر، وأدع الأمور تسير كما كانت؟ وإن عشتُ بشكل مختلف قليلًا، ربما، ربما هذه المرة، لن تتركيني…’
لكن حين انفتح الباب، ودخلت إيليا، يلفّها قماش أزرق مشرق—
“إدموند.”
عاد إدموند في تلك اللحظة إلى الثانية والعشرين من عمره.
وتلاشى خوفه كله مع نظرة واحدة من إيليا ذات الثمانية عشر عامًا.
لقد أحبّ الشخص ذاته، من جديد.
أحبّ نظرتها الثابتة، التي لم تتغير.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 5"