لقد كانوا قد صُدموا بما فيه الكفاية حين نطق الدوق كلمة ‘خطيبتي’، فلم يعد في مقدورهم أن يُفاجَأوا بشيء آخر.
“بما أنّني سأتوجّه للزيارة من غير موعد مسبق، أودّ أن أحمل معي هدية اعتذار عن عدم الترتيب. هل من شيء تحبه شقيقتك على وجه الخصوص؟.”
لم يكن إدموند يعرف ما تحبه إيليا ذات الثمانية عشر عامًا. كان يعرف ما تحبه إيليا في الثامنة والعشرين، لكن حتى ذلك كان معرفة غير مباشرة عبر سجلات نفقات الدوقية.
محل الأحذية الذي كانت تزوره كل شهر بلا انقطاع،
متجر الحلوى الذي تعاقدت معه الدوقة لتوفير ما تشتهيه، الموسيقي الذي كانت إيليا تدعوه إليه في كل ذكرى زواج…
هذا فقط.
إدموند كان يحبها إلى حدّ يهلكه فقدانها، ومع ذلك، كان جاهلًا بها إلى درجةٍ يعجز معها عن اختيار هدية يسيرة.
ومع ذلك، لم يشعر بالقلق. فقد عاد إليه الوقت.
“إيلي تحب الكتب، همم… هل هناك شيء آخر تحبه غير المال…؟ آه، لا، لا أقصد أنها مهووسة بالمال! إنها… إنها فقط بارعة في إدارته!.”
“تسك. يا كونت رواين، لم يتبقَّ لك الكثير من السنوات للعيش مع شقيقتك. ألا يجدر بك أن تبذل جهدًا لتتعرّف إليها، ولو الآن؟.”
كان من غير المعتاد أن يعظ الدوق أحدًا، ولكنه فعل ذلك حين رأى أن الكونت عاجز عن الإجابة.
‘مهلًا… هل يؤنّبني لأنني لا أعرف ما تحبه إيليا؟! أليس هذا طبيعيًا بين الإخوة؟ إيلي ربما لا تعرف حتى تاريخ ميلادي!.’
كاد الكونت ينفجر من الظلم الواقع عليه، لكنه لم يستطع أن يقول: “الدوق لا يعرف لأنه نشأ بلا إخوة.”
فاكتفى بالاعتذار بصوت خافت:
“أجل… أنت محق تمامًا.”
قال الدوق واقفًا عن مقعده:
“سأنصرف.”
“أأنت… ذاهب حقًا إلى إيليا؟ نعم، حسنًا… اذهب بسلام، وأعتذر لأنني لا أستطيع مرافقتك.”
رحل الدوق بعد أن قال ما لديه، وترك الكونت وحده غارقًا في محاولة فهم تأنيبه الغريب.
“آه…! تذكرت أين سمعت هذا الكلام من قبل!.”
«لم يبقَ لي الكثير من السنوات مع شقيقتي، ألا يجدر بنا أن نتعرّف إلى بعضنا، ولو الآن؟.»
“أليس هذا ما قلته للدوق أمس…؟!.”
—-
هانز، المساعد المخلص لدوق راسبي، استسلم لفكرة محاولة فهم ما أصاب سيده فجأة.
‘مهما يكن، فليكن. همّي لن يغيّر شيئًا. الأفضل أن أستمتع بالنزهة. منذ متى لم أخرج في هذا الوقت من النهار؟.’
كان يذهب إلى القصر الإمبراطوري فجرًا كل يوم، ولا يرى إلا الوثائق، ووجوه المرؤوسين المملّة، ووجه الدوق، الوسيم لكن عديم الفائدة في نظر هانز. أمّا أن يغادر القصر تحت ضوء الشمس، متوجهًا إلى منزل الكونت رواين…
“من كان يظن أن يومًا كهذا سيأتي؟!.”
جلس في مقعده الثابت في عربة الدوقية، حتى بدا له أنّ غاية هذه الرحلة نفسها أصبحت جميلة.
“زيارة يقوم بها الدوق لخطيبته دون إخطار، يا للروعة!. طبعًا، نصف الرومانسية تتلاشى لأن الدوق هو إدموند راسبي.”
لقد عاش الدوق حياته وكأنه لا يملك أحدًا، فما الذي جعله يتجه فجأة نحو خطيبته؟ لم يعرف هانز السبب، لكنه لم يهتم. ربما كان الدوق مخبولًا اليوم.
وإن كان جنونًا، فليته لا يعود إلى رشده غدًا.
حتى السماء بدت وكأنها تمنح هانز يومًا مثاليًا، فكان الطقس جميلًا حدّ الكمال.
مدح نفسه بخفة وهو ينظر إلى معطفه الجديد من خياط الشارع الثاني.
‘لا بد أن كل السيدات ينظرن إليّ…’
مع أنّه يعلم أنهن ينظرن إلى العربة الفاخرة التي تحمل شعار دوقية راسبي، لكنه آمن بحق المرء في أوهامه الجميلة. ومن يدري؟ ربما كنّ ينظرن بالفعل إلى مساعد الدوق الوسيم.
‘ما القدر حقًا؟ ربما سترسل إحدى السيدات رسالة إلى الدوقية لأنها لم تستطع نسيان الرجل على مقعد العربة…’
قاطع الدوق خياله بصوته الهادئ:
“هانز، أوقف العربة.”
انتفض هانز من شروده، وأعاد الأمر إلى السائق الذي أوقف العربة بسلاسة رغم المفاجأة.
سأل هانز وهو يفتح الباب للدوق:
“إلى أين أنت ذاهب يا سيدي؟ لا يوجد شيء حولنا.”
كان يعلم أنه لن يسمع جوابًا، لكنه حاول، كي لا يبقى كلامه طوال اليوم محصورًا بين: ‘وصلت؟.’ و ‘هل ستغادرون؟.’
وكما توقع، خرج إدموند من العربة بصحبة قائد الحرس من غير كلمة، واتجه نحو متجر قديم بلا لافتة.
لم يفهم هانز ما يجري إلا حين تبع سيده إلى داخل المحل ذي النوافذ الزجاجية المعتمة.
لقد كان متجرًا لصناديق الموسيقى.
‘صندوق موسيقى؟ مستحيل… ربما… مكانٌ سري لاجتماعات الدوقية؟.’
استعاد هانز فكرة من رواية تحقيق قرأها مؤخرًا، لكنه صُدم حين رأى أن المتجر عاديّ للغاية.
شعر بخيبة أمل من المظهر المتواضع للمحل، لكن حتى هو أدرك أن الصناديق المعروضة ليست رخيصة أبدًا.
سأل هانز:
“يا سيدي، أتشتري هدية؟ هل تحب السيدة رواين صناديق الموسيقى؟.”
“من يدري.”
حاول هانز الإدلاء برأيه:
“حسنًا، الصندوق فريد وسيعلَق في الذاكرة، لكن أليس متجر المجوهرات في الشارع الخامس أفضل؟ المجوهرات هدية محبوبة للجميع. سمعتُ أن الجمشت من الشمال الشرقي رائج جدًا.”
قال الدوق دون اهتمام:
“تقصد الجمشت من أراضي الفيكونت ليمان.”
وبينما كان هانز يستعرض معرفته، أخذ إدموند يتفحص المكان بحثًا عن شيء، أو بالأحرى ليختبر شيئًا.
وبعد أن دار حول المعروضات، أشار إلى صندوقين مزخرفين في وسط المحل، ونادى صاحب المتجر:
“هذان… هل لهما نسخ أخرى؟.”
تفحص البائع القطعتين، وابتلع ريقه أمام الهالة النبيلة التي أحاطت بالدوق.
لقد كانت القطعتان تحفته الكبرى، مصنوعتين من خشب الأبنوس النادر، ويظن أنهما تصلحان لأن تُقدّما لجلالته الإمبراطور.
“لا يا سيدي، كلاهما فريد. صنعتهما خلال خمس سنوات، وحتى لو عرض أحدهم ثروةً كاملة، فلن أستطيع صنعهما مجددًا.”
ساد صمت ثقيل، فأسرع البائع يقول بتردد:
“هـ… هل تود سماعهما؟.”
أخذ واحدًا من الصندوقين ولفّ نابضه بيد مرتجفة، ثم انطلق لحنٌ مألوف للأطفال المتعلمين على البيانو. وفي الوقت نفسه، دارت فتاة صغيرة تحمل باقة زهور مع كلب صغير فوق الصندوق، في رقصة بديعة.
تنفّس هانس مدهوشًا:
“آه…”
كان المشهد ساحرًا. حتى هو، الذي اقترح شراء المجوهرات، شعر بتأثر عميق من النغم والحركة.
أمّا إدموند فقد بدا راضيًا.
كان الصندوق مطابقًا تمامًا لما ظلّ محفورًا في ذاكرته.
‘لو سارت الأمور كما كانت سابقًا، فسيشتهر صانع هذا المتجر بعد عامين…’
حين كان إدموند في الرابعة والعشرين، اشترى كاتب مسرحيات معروف من المقاطعة الجنوبية صندوقين من هذا المتجر. وقدّم أحدهما لحبيبته الممثلة عند طلب يدها، باعتباره مصدر إلهامه.
ثم انتشرت القصة، وتوافد النبلاء إلى المتجر، واغتنى صاحب المحل وأصبح مشهورًا.
لكن الآن، أصبح الصندوقان في يد إدموند.
فهل سيظل صانعها محرومًا من ذلك الحظ؟.
وهل سيفقد الكاتب هدية عرضه فيفقد معها حب حياته؟.
وإلى أي مدى ستتغير الدنيا بعد أن تدخّل إدموند؟.
الزمن وحده سيكشف.
قال إدموند بصوت حاسم:
“سآخذهما.”
توقّفت أنغام الصندوق شيئًا فشيئًا مع ارتخاء النابض.
وببطء، بدأ الزمن الذي غيّره إدموند يعيد تشكيل نفسه.
—
كانت الصناديق ملفوفة تغليفًا رديئًا لا يليق بجودتها. لم يحتمل هانز ذلك، فألحّ غير مرة على صاحب المتجر أن يحسّن التغليف، ثم انفجر أخيرًا وسحب الدوق إلى الخارج.
قال محتجًا:
“رجاءً يا سيدي! أنا مساعدك منذ أربع سنوات، ولا يمكنني السماح لك بحمل صندوق مغلف بهذه الطريقة!.”
عبر الشارع إلى متجر الأقمشة، واشترى قطعة قماش فاخرة كاملة مقابل قطعة ذهب. ثم عاد إلى العربة، ولفّ الصندوقين بنفسه.
اقتصر عمله على لفّهما بالقماش وربطهما بخيط المحل، لكن النتيجة كانت أنيقة بشكل يبعث على الفخر.
قال هانز معتدلًا جلسته، منتظرًا ثناءً:
“أهم. ما رأيك؟ ألا أبدو نافعًا خارج المكتب أيضًا؟.”
تحرّكت العربة من جديد، تحمل معها المساعد المتطلّع للمديح، والدوق الصامت، والفارس الحارس. ولم يكن منزل الكونت رواين بعيدًا جدًا عن منطقة المتاجر.
وكلما اتجهت العربة جنوبًا، تبدّل المشهد وامتدت السهول الخضراء المنعشة.
قال هانز مبهورًا:
“واو… العيش في الريف لن يكون سيئًا إن كان المنظر هكذا.”
اعتاد ضوضاء الأسواق وزحمتها، فاستسلم لصفاء الطبيعة، يدندن وهو يراقب الطريق الهادئ. وما هي إلا لحظات حتى ظهر قصر رواين في نهاية الطريق المستقيم.
‘لسبب ما… أشعر بأنني سأزور هذا الطريق كثيرًا في المستقبل.’
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 4"