ارتدى إدموند ثيابًا رسمية كانت رائجة قبل عشرة أعوام، ثم توجّه نحو القصر الإمبراطوري. استقبله القصر كما حفظه تمامًا، لم يتغيّر فيه شيء.
حتى النظرات التي وُجّهت إليه، هو الذي أصبح دوقًا وهو لم يتجاوز التاسعة عشرة، كانت ذاتها: حسد، غيرة، ريبة.
لكن بالنسبة لرجلٍ يبلغ في آنٍ واحد الثانية والثلاثين والثانية والعشرين، لم تكن تلك النظرات سوى غبارٍ يتطاير على الأرض.
قال هانز هامسًا:
“السيد بيلزن، هل حدث شيء في القصر هذا الصباح؟ يبدو الدوق في مزاجٍ جيد.”
“لا أراه مختلفًا عمّا كان عليه.”
“بل إنه أكثر سعادة من المعتاد، صدّقني.”
لم يتوقف مساعده هانز عن الإصرار على أن الدوق يبدو أكثر ارتياحًا، رغم تعبير بيلزن غير المتحمّس.
وفي الحقيقة، كان إدموند في مزاجٍ حسن فعلاً، كما قال هانز. وكيف لا يكون كذلك؟.
أن يرى أولئك الذين ماتوا، أو قتل بعضُهم بعضًا، أحياءً يتحركون أمامه. كان الأمر أشبه بمشاهدة مسرحية تؤدّى من أجله وحده.
بل راوده شعور بأن كل ما يحدث لم يكن إلا تمثيلية كبرى مُعدّة له هو، الذي فقد إيليا، ثم مات.
هل سيكون المشهد ذاته في مقاطعة رواين؟.
ترى… هل أُعدّ له هناك عرض آخر ينتظره؟ كانت الفكرة تسعده أكثر.
لكن لا حاجة إلى العجلة. فمن الواضح أنه ليس حلمًا، وإن كان حلمًا، فسيعود إليه مهما تكرّر.
وإن حدث، حين يفتح عينيه، إن وجد نفسه في عالمٍ ما بعد موت إيليا، فلن يتردد لحظة في سحب سيفه وطعن صدره.
وسيعيد المحاولة، بقدر ما يلزم من مرات.
وصل إلى ممرٍّ طويل، فحنى الخدم الواقفون هناك رؤوسهم له باحترام. تذكّر إدموند أن أحدهم كان جاسوسًا أرسله بيت الماركيز.
كيف يتعامل معه؟.
لو كرّر كل ما فعله في حياته السابقة، سيصعد ابن عمّه إلى العرش، وستُمحى قائمة أعدائه كلّها.
لكن إدموند تردّد.
لا ضرورة لأن يتكرر كل شيء كما كان.
هذه المرة، ستكون حياة إيليا مختلفة. وكذلك حياته.
أليس من الطبيعي أن تتغيّر حياة أولئك الذين كُتب عليهم الموت أيضًا؟.
استباق موت الغد إلى اليوم، وانتزاع سلطة الشهر المقبل قبل موعدها بأسبوع، ذلك وحده كافٍ.
سيتغيّر كل شيء. وسيحدث كما يشاء.
عند وصوله إلى المكتب في الطابق الثاني، فتح الفارس بيلزن الباب وتفقّد الداخل قبل أن يسمح بإدخاله.
كان الانتظار ممّلًا، لكنه كان عرفًا اتّبعه إدموند طويلاً حتى يتأكد من زوال أعدائه.
يا للشفقة…
حتى المكتب بدا في نظره، بعيني رجلٍ عاش اثنين وثلاثين عامًا، قديمًا وباليًا.
مع أن قليلين في القصر امتلكوا مكاتب خاصة كهذه، إلا أن إدموند كان يعرف مقدار ما يمكنه الحصول عليه، لذلك لم يعد شيء هنا يرضيه.
“هانز.”
“نعم يا سيدي.”
“أحضر لي كل الوثائق الخاصة بالشهر الماضي.”
“…كلها؟ حتى التي وقّعت عليها مسبقًا؟.”
“كلها، بما فيها المرفوضة.”
“آه… إذن سأبدأ بأوراق الأسبوع الماضي.”
كان مجرد أسبوع كافيًا لملء سطح المكتب، فكيف بشهر كامل؟.
“لنرَ، إن كان الأسبوع يحوي ثلاثين ملفًا تقريبًا، فالأسبوعان…”
وكعادته، بدأ هانز يفكّر في طريقة لتخفيف الحمل، لكن إدموند أضاف أمرًا آخر حاسمًا:
“شهرٌ كامل. حالًا. وأبلغ الكونت رواين أنني أرغب أن نتناول الغداء معًا.”
“م-ماذا؟ سيدي؟.”
هانز، وقد خدم الدوق أربع سنوات كاملة، لم يتمالك نفسه من الدهشة أمام هذا الأمر غير المسبوق.
أما إدموند، فأخذ يتفحّص المكتب ببطء، وكأنه ليس مكتبه بل غرفة غريبٍ عنه.
وهذا وحده جعل هانز يفقد القدرة على الكلام.
“هانز.”
“أنا… أنا ذاهب.”
هرب مساعد الدوق إلى الخارج مطيعًا أمرًا لا يمكن تفسيره إلا بأنه طلب الاختفاء فورًا.
عليه أن يرتّب الغداء مع الكونت رواين بسرعة بينما يراجع الدوق وثائق هذا اليوم.
ومع ذلك، لم يستطع أن يمنع نفسه من التذمّر لبيلزن عند الباب:
“حقًا، ألم يحدث شيء؟.”
لم يغب هذا السؤال عن ذهنه طوال اليوم.
هذه سنتي الرابعة. أربع سنوات كاملة، لكن الدوق اليوم ليس الدوق الذي أعرفه!.
—
كان إدموند يراجع المستندات القديمة بسرعة مذهلة، بسرعةٍ تفوق قدرة هانز على حملها إليه.
لم يقرأ شيئًا فعليًا، فقط مرّر عينيه على الأغلفة، ثم بدأ يصحّح الملفات التي تذكّر أنه لم يكن راضيًا عنها مسبقًا.
لذا… بدا الأمر سريعًا للغاية.
أما بالنسبة لهانز، فكان المشهد مرعبًا.
كان دائمًا سريعًا، لكن هذا؟ هذا جنون! أنهى كل شيء قبل موعد الغداء!.
هل ينوي الدوق تدمير الإمبراطورية؟.
كيف لشخص أن يحلّ كل شيء بنظرة واحدة على الأوراق؟.
وفي كل مرة أحضر فيها الوثائق، لم يستطع هانز منع نفسه من إلقاء نظرة خاطفة على الأوراق التي توقّف عليها الدوق.
كانت نظيفة بشكل مريب، حتى ظنّ أن الدوق لم يقرأها أصلًا…
إلى أن وصل إلى الصفحة الأخيرة.
كانت التعليمات الجديدة دقيقة ومحددة، لا ثغرة فيها.
غريب، الدوق لم يُبدِ اهتمامًا قبل اليوم بمفاوضات التجارة مع إمارة كيرنتن. لم أسمع بها أصلًا، إنها منطقة مناجم حجر الليل؟.
ولم يكن ذلك وحده ما أقلقه.
التقى بعيني الدوق ثلاث مرات اليوم.
ثلاث مرات!.
إدموند لم ينظر إليه يومًا، لا تحية ولا دعابة.
كان هانز أكبر منه بخمس سنوات، لكن إدموند يتصرّف كعجوز سئم الدنيا.
لا بدّ أن شيئًا ما حدث!.
وظلّ الشعور يلاحقه حتى وصل هو وإدموند إلى ملحق الطعام حيث ينتظر الكونت رواين الغداء.
حتى الدعوة بحدّ ذاتها غريبة.
عادةً ما يكون الكونت هو من يطلب لقاء، وحتى حينها، يوافق الدوق مرة واحدة من بين ثلاث متذرعًا بانشغاله.
لكن أن يوجّه الدعوة بنفسه…
‘لا بدّ من وجود أمر خطير.’
وافقه الخدم اللطفاء في رواين. الدوق مختلفٌ اليوم.
لكنهم رأوا الأمر إيجابيًا.
قال أحدهم مبتسمًا:
“أليس ذلك رائعًا؟ لا بد أنك شعرت بالوحدة، أيها السير هانز، فالدوق دائمًا يتناول طعامه بمفرده.”
لكن أهل رواين الطيبين لم يستوعبوا قلق هانز.
كل ما رأوه هو خبرٌ سار.
أما يوجين رواين، شقيق إيليا، فقد كان أكثر سرورًا من فضوله.
هذه أول مرة يدعوني فيها دوق راسبي إلى الطعام.
كثيرون أعجبوا بالدوق، لكنهم تراجعوا أمام بروده، بينما بقي يوجين إلى جانبه بعناد.
وقد جرحه ذلك البرود مرارًا، لكنه لم يفكر يومًا في الابتعاد.
فالدوق هو المنقذ الوحيد الذي ساعده في الحفاظ على لقبه.
ومهما كانت أسباب الدوق، فقد بقيت أسرة رواين مدينة له بالكثير.
وفوق ذلك، كانا يعرفان بعضهما منذ الطفولة.
يوجين كان يرى فيه أخًا بلا عائلة.
«إدموند ذئبٌ وحيد، ونحن عائلة أرانب تختبئ معًا في جحر، فمن يرحم الآخر؟.»
كانت إيليا تضحك ساخرة وتقول إنه لا فائدة من ذلك، لكن يوجين كان يؤمن بأن حتى الدوق يشعر بالوحدة.
وتمنى يومًا أن يفتح قلبه لأحدهم، وها هو اليوم يدعوه بنفسه إلى الغداء.
‘سأخبر إيليا الليلة. ستظن أنني أحلم.’
ولشدّة حماسه، بدأ يتخيّل حتى تحسّن العلاقة بين إيليا وإدموند.
ليس أمامهما خيار آخر للزواج، لذا سينتهي الأمر بزواجهما. وعندما يصبحان عائلة، سيلين الدوق في النهاية. ممتاز، سأجلب إيليا إلى الدوقية الأسبوع القادم.
ابتسم يوجين للدوق. ورغم أن وجه إدموند بقي بلا تعبير، إلا أن الجو لم يكن ثقيلًا كما اعتاد.
قال يوجين:
“لقد زرت الدوقية البارحة وتناولنا العشاء، لكن أشكرك على دعوتك لي اليوم، يا دوق.”
“لماذا كل هذا التكلف؟ سنصبح عائلة عمّا قريب.”
“آه… نعم، بالطبع.”
كانت تلك المرة الأولى التي يذكر فيها الدوق خطوبته بنفسه.
هل أثّر إحضاري لإيلي إلى الدوقية عليه؟ لكنهما لم يتبادلا حرفًا، ماذا كان مختلفًا بالأمس؟.
ظلّ يوجين يقلب الأمر في ذهنه وهو يمضغ مقبّلات الروبيان.
‘الخدم قالوا إنها بدت جميلة على غير العادة اليوم… لكن إيليا هي إيليا، لم ألحظ شيئًا. هل كانت جميلة حقًا؟.’
بالنسبة له كأخ… لم يكن يظن ذلك.
أيُّ أخٍ يظن أن شقيقته جميلة؟.
حتى لو بدت بجمال إبنة بواتييه، لن يظن سوى أنها ‘تبدو طبيعية’.
إيلي لطيفة فقط عندما تأكل، إنها لا تطلب الكثير، لكن إن وضعت الطعام أمامها ستلتهمه كله. البارحة تركت لها بعض الطعام، لكن حتى الحلوى أنهتها. ربما الدوق يعجبه النوع الذي يأكل جيدًا…
كان الغداء صامتًا كعادته، لا يُسمع سوى صوت أدوات يوجين وهي تطرق الطبق بخفة.
وبدون حديث، ظل يوجين يحاول الربط بين أحداث الأمس واليوم، إلى أن وصل الحلوى.
بعد كل التفكير، الشيء الجيد الوحيد الذي فعلته إيليا أمس هو تنظيف طبق البط.
“كونت رواين.”
“ن-نعم… المعذرة. تفضل، يا سمو دوق.”
رفع رأسه مذعورًا حين ناداه إدموند.
“بعد إنهاء جدول اليوم… أفكر في المرور على رواين.”
“رو… تقصد مقاطعتنا؟ سيكون شرفًا كبيرًا استقبالكم، لكن للأسف، أنا…”
“أكمل أعمالك. لديّ ما أناقشه مع خطيبتي.”
—طقطقة.
سقطت ملعقة الحلوى من يد يوجين فورًا.
ومع ذلك، لم يبدُ أحد في قاعة الطعام مهتمًا بالازعاج.
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 3"