2
إدموند راسبي، دوقٌ من دوقات الإمبراطورية، ابن عمّ الإمبراطور، وربما الإمبراطور التالي نفسه.
أمامه، كانت تُقدَّم المدائح لقوة الإمبراطورية المهيبة كأنها قرابين، أمّا خلفه فكانت تلاحقه لعناتٌ منسوجة من الخوف.
الدوق الدموي. الملعون بالموت، العاجز عن محبة أي شيء.
كل تلك الألقاب المشؤومة كانت ألقابه الأخرى.
«دوق راسبي… لقد سئمتُ منك.»
كان يومًا ما زوجًا لامرأة. إيليا رواين… لا، إيليا راسبي، كانت زوجته.
ولكن حين بلغ إدموند الثانية والثلاثين، وبلغت إيليا الثامنة والعشرين، انتهى زواجهما الذي دام ثماني سنوات…
بورقة طلاق واحدة قدّمتها إليه إيليا.
«أأنتِ راحلة؟.»
«سأرحل… ولن أعود إليك أبدًا.»
كان لقاؤهما الأول حين كانت إيليا في الثانية من عمرها، وإدموند في السادسة.
الطفلة التي لم تفارق حضن والدها كانت، في الحقيقة، خطيبة إدموند منذ ذلك الحين.
«إيدي… إيدي!.»
ولكن لم يكن من الممكن أن يُعجب أبدًا بطفلةٍ لا تفعل سوى البكاء والتشبّث به وهي تناديه بـ’إيدي’.
وبالطبع، حتى بعد أن كبرت إيليا، لم تتغيّر مشاعره نحوها.
شعرها المتلألئ كالذهب تحت ضوء الشمس، شفاهها المتورّدة كالدم فوق بشرتها الصافية…
كل ذلك لم يكن يعني شيئًا لإدموند.
كانت إيليا مجرد زهرةٍ تتفتح في الحديقة.
ولم يمدح إدموند يومًا جمال زهرة. كان يمرّ بقربها دون أن يلتفت.
الشيء الوحيد الذي التقطه بصره كان عينيها.
«مرحبًا، إدموند.»
لم يجرؤ أحد على النظر مباشرة في عينيه، إلا إيليا. كانت دائمًا تحاول أن تلتقي بنظره.
وفي كل مرة تفعل، بدا وكأن زهرة تتفتح في عينيها بلون الخريف.
لماذا كانت إيليا وحدها؟ هل لأنها الوحيدة التي تجرأت على النظر إليه؟.
‘لأنها الوحيدة… ربما صارت الوحيدة لي.’
لذا، حين اضطر للتفكير في خطيبته، لم يكن يرى سوى عيني إيليا.
وحتى حين صار كل شيء فيها مميزًا بالنسبة له، ظل يتذكر عينيها أولًا.
عينان كزهرتين، عميقتان، حمراوان.
‘في البداية، كانت العينان فقط، أليس كذلك؟.’
كانت عيناها فريدتين… ولكن متى أصبحت إيليا نفسها مميزة له؟.
لم يكن هناك ما يدعوه للتفكير في الماضي.
حين أدرك مشاعره، كانت إيليا بالفعل امرأته، والعالم كله كان ينظر إلى إدموند كالرجل الوحيد المناسب لها.
ولذا، حتى بعد أن اعترف لنفسه بمشاعره، لم يتغير شيء في سلوكه الظاهر.
غير أنّه، منذ تلك اللحظة، كان يقبّل الجلد حول عيني إيليا كلما حلّت بينهما ليالٍ مشتعلة بالعاطفة.
برغبةٍ جائعة لالتهام تلك العينين الجميلتين.
وبطبيعة الحال، كانت إيليا تكره ذلك.
«أوه… انتظر، إيدي. هذا غريب، أشعر بشيء غريب…»
وأحيانًا، حين يعض الجلد حول عينيها، كان يترك أثرًا بلا قصد.
وحين يرى الدم يسيل من جانب صدغها، كانت إيليا تبكي، بينما كان إدموند، وقد أثارته دموعٌ هُدرت لأجله، يفقد السيطرة مثل مجنون.
كرجلٍ مسعور بالحب، ورغم معرفته أن إيليا لم تكن ترى في الأمر سوى تنفيسٍ همجي، كان ينتزع منها أنينًا ورعشة.
كانت كل تلك الليالي واجبًا ثقيلًا على إيليا.
أما إدموند، مدفوعًا بالغريزة، فكان يريد أن يبتلعها في لهيب شغفه.
لكن… هل كان هناك حب؟.
هل أحبت إيليا إدموند يومًا؟.
لم يكن متأكدًا، لكن كان هناك ما ينهش ذاكرته.
«لقد باتت تزور الدوقية كثيرًا مؤخرًا.»
«أليس من المفترض أن يتزوجا قريبًا؟ لا بد أنها تحاول التقرب منه، رغم أنني أشك أن هذا سيؤثر على الدوق.»
حين جرى الحديث جديًا عن زواجهما، كانت إيليا تأتي كثيرًا إلى الدوقية بصحبة شقيقها، كونت رواين.
«إيلي، تتذكرين تلك الرواية التي ذكرتِها؟ كانت ممتعة… ربما عليكِ التحدث مع الدوق عنها؟.»
«…انسَ الأمر. لن يجدها ممتعة.»
«…المعذرة. كما تعلم… إيلي خجولة جدًا.»
كانت إيليا دائمًا ترتدي ثيابًا اعتنت بها الخادمات بعناية، تجلس متكلفة، ثم تغادر بسرعة.
ذلك كان جوهر علاقتهما.
لم يكن لإدموند أي اهتمام، وإيليا لم تكن تخاطبه.
ولكن، في يومٍ صيفي، وبعد أن أنهت وجبتها كعادتها دون اعتراض، سألت فجأة:
«إدموند، لماذا تُقدّمون البط في كل مرة أزورك فيها؟ هل هناك قاعدة تقضي بأن يكون عشاء الدوقية من البط؟.»
كانت إيليا تخاطب إدموند دون ألقاب، رغم أنه دوق وهي ابنة كونت.
لم يهتم إدموند إن كانت مهذبة أم لا، فهو لم يكن مهتمًا أساسًا.
«لقد سأل كبير الخدم عن طعامكِ المفضل.»
ولأن إيليا كانت تتكلم كأن بينهما حديثًا وديًا، أجابها إدموند دون تفكير:
«قلتُ له إنه حين كنتِ صغيرة، كنتِ تأكلين البط هنا كثيرًا… وبدوتِ مستمتعة به.»
عندها فقط… احمرّ وجه إيليا بلون عينيها.
ولأول مرة، نظر إدموند حقًا إلى وجهها.
الطفلة التي كبرت بعيدًا عنه… صارت الآن امرأة.
ولكليهما، ربما كان ذلك اليوم اللحظة الحقيقية الوحيدة التي خُتمت في ذاكرتهما.
ولم يمضِ وقت طويل حتى تزوجا.
ظن البعض أن إيليا سترفض، لكن الزواج تم دون عوائق.
ولو قالت إيليا إنها لا تريد الزواج…
لو رأى إدموند المرأة التي ظنها له تحاول الهرب…
هل كان سيدرك مشاعره باكرًا؟.
لا سبيل لعودة الزمن، ولا فائدة في التساؤل.
كانت مجرد ندامة… بلا معنى.
—
في اليوم الذي غادرت فيه إيليا، زوجة الدوق سابقًا، القصر ومعها أوراق الطلاق، هطل مطر غزير… تمامًا كاليوم الذي مات فيه والداهما.
وغادرت إيليا، التي تخلّت عن إدموند، إلى حيث يرقد أبواها، وكأنها تخشى أن يطاردها.
«سموك… عربة السيدة إيليا… انزلقت في المطر…»
حادث عربة. لماذا حتى هذا كان لا بد أن يتكرر؟.
هل كانت اللعنة حقًا قد حلت على عائلتي رواين وراسبي كما يقول الناس؟.
أم أنها عقوبةٌ لذلك الرجل الذي ترك المرأة التي أحبها؟.
«دوق… ترتيبات الجنازة… اكتملت.»
جثمان إيليا، الذي عاد إليه، كان في حالة مروّعة.
ولولا أنه إدموند راسبي، القاسي، الخالي من الشعور، لما سمحوا له بالقرب منها.
فسمحوا له بدخول غرفة الحجارة تحت الأرض دون اعتراض.
المرأة الملقاة هناك كانت في المكان نفسه الذي وُضع فيه أبواها يومًا.
ساقاها مسحوقتان، ذراعٌ مبتور، لكن بالنسبة لإدموند… لم تكن مختلفة.
مهما حاولوا إصلاحها، كانت مظهرها صعبًا على العين،
لكن بالنسبة له… ظلت جميلة.
جثة تتظاهر بأنها إيليا الحية.
تتظاهر بالحياة، وتستلقي هناك.
«الزوج العادي… حين يرى زوجته الميتة… يسترجع لحظاته السعيدة معها.»
لكن إدموند، وهو يقف أمامها، تذكّر الليالي.
بكاءها تحت وطأة حرارته، نداءها لاسمه بين أنين. كم كان ذلك قبيحًا.
لم يستطع السيطرة على نفسه. كانت تلك الذكريات كل ما امتلكه.
فمدّ يده إلى وجهها البارد.
غطّوا وجهها المحطم بطبقات من المعجون ومساحيق التجميل…
جعلوها لامعة كأنها ما تزال حية.
رفع يده إلى المنطقة حول عينيها، المكان الذي طالما عضّه.
‘هل… اختفت عيناها أيضًا؟.’
هل اختفت العينان اللتان أحبّهما تحت جفنيها المطبقين؟.
هل ملأوا تجويفهما معجونًا، كحشرات تنخر لحمًا؟.
لكن… لم يهم.
فإدموند لم يحب إيليا بسبب عينيها فحسب.
كانت عيناها مميزة، لأنها الجزء الوحيد الذي التفت إليه يومًا.
«إدموند، لقد أحببتك. أحببتك حقًا، لكنني لم أعد أحتمل.»
وقف أمام جثتها، يسترجع كلماتها الأخيرة.
اعترافًا، بصيغة الماضي.
حبًا انتهى في حاضرها.
«أنت نار، تلتهم كل شيء، حتى حبي… ولا تُعيد شيئًا. لم يبقَ لي سوى رماد.»
لقد أعطته حبًا، ولم تتلقَّ شيئًا.
ولو أنه أنكر قولها، هل كان يستطيع إيقافها؟.
إنقاذها من الموت؟.
لو أنه اعترف.
بأنه أحبها بالفعل، حتى لو كان حبه ملتويًا ويخالف المنطق…
أنه كان حقيقيًا.
هل كانت ستبقى؟.
“إيليا…”
ناداها وهو ينظر إلى عينيها اللتين لن تفتحا له أبدًا.
“إيليا…”
ناداها مرارًا.
ناداها بحبٍ افتقده في الثامنة عشرة، وخسره في الثانية والثلاثين.
ولم تجبه.
لم يبقَ له سوى حبٍ لن يستطيع أن يمنحه لأي أحد آخر.
أخرج سيفه.
ثم استدار.
لم يطق أن يسفك دمًا قربها.
فوجّه السيف نحو موضعٍ آخر، حيث الألم أقسى.
تكفيرٌ أحمق.
عقابٌ لا يعزّي إلا معذِّبه.
ولا يمنح الميت أي سلام.
لم يكن الألم فظيعًا كما توقع.
لكن ما ندم عليه في اللحظة الأخيرة، أنه أراد رؤيتها من جديد.
ومع نزيف جسده، لم يستطع أن يدير رأسه.
ندم لأنه لم يتمكن من النظر إليها مرة أخيرة.
“سيدي إدموند… هل أنت بخير؟.”
بعد الألم المهول… حين استيقظ من جديد، وقبل أن يرى رئيس الخدم الذي مات منذ زمن—
ندم حقًا.
—
“سيدي، كم عمرك هذا العام؟.”
أجاب كبير الخدم بهدوء، رغم أن سيده كان يتعرّق بشدة:
“ستون عامًا يا سيدي. وبعد ثلاث سنوات، ستتم خمسون سنة منذ بدأت خدمتي هنا.”
خمسون سنة.
كان كبير الخدم قد مات بعد خمسين سنة خدمة، عندما كان إدموند في الخامسة والعشرين.
إذًا… إدموند الآن في الثانية والعشرين.
‘هل هذا… حلم؟ أم لا؟.’
كان حيًّا أكثر مما يسمح به الحلم، وحلوًا أكثر مما يسمح به الواقع.
عاد إلى الماضي. من جديد.
كبير الخدم، الذي مات وإدموند في الثانية والعشرين، كان أمامه.
وإذن، إيليا يجب أن تكون…
في الثامنة عشرة، ربما التاسعة عشرة.
هل بلغت السن القانونية بعد؟ أم لا؟.
“…الجو بارد اليوم.”
“نعم يا سيدي. لقد تساقط الثلج بالأمس. ورغم أننا في مارس، فلا يبدو أن الربيع قد حل بعد.”
‘عيد ميلاد إيليا في الخريف… إذًا هي ما تزال في الثامنة عشرة.’
حاول إدموند أن يستعيد صورة إيليا قبل عشر سنوات، أن يتخيلها تتحرك، تتنفس.
لكن، بالطبع، لم يكن ذلك كافيًا.
كان يحتاج لرؤيتها… بعينيه.
“سأذهب إلى غرفة الحجارة تحت الأرض.”
“…عفوًا؟.”
غادر إدموند غرفته بملابس النوم، واتجه نحو الغرفة تحت الأرض.
أسرع كبير الخدم خلفه، متذكرًا المفتاح بذكاء.
“سيدي، لقد أحضرت المفتاح، فهل أ—”
لم يكمل كلامه.
فالدرْف الحديدي انفتح في يد إدموند، صريره يخدش الهواء.
“لا بد أن أحد الدخلاء دخل المكان يا سيدي. سأستدعي السيد بيلزن حالًا.”
“لا داعي. ابقَ هنا.”
أخذ إدموند المصباح، ودخل وحيدًا.
مرّ بالتماثيل المنحوتة على صورة الموتى، حتى انفرجت المساحة الواسعة أخيرًا.
كانت إيليا ترقد هناك، في المكان الذي أغلق إدموند فيه عينيه للمرة الأخيرة.
لكن الآن…
لا شيء.
رائحة المواد التي تُستخدم لتنظيف الجثث، الجسد المسجّى، كل شيء اختفى.
لم يتبقَ سوى الفراغ.
“لقد كان هذا… حقيقيًا. أنا متأكد.”
دقّق في كل زاوية.
مرّر يده على الموضع الذي وُضعت فيه إيليا، ونظر إلى الأركان السوداء التي لم يصلها ضوء قط.
“نعم… كان هنا.”
وفي النهاية، وجد الدليل الذي أراده.
البقعة الداكنة في المكان الذي استدار فيه عن جثة إيليا ورفع سيفه.
بقعة دمٍ كثيف.
وعلى نصله…
أثر الموت لا يزال عالقًا.
ربما كان أثرَ دخيل، لكن إدموند اختار أن يؤمن بما يشاء.
أنه لم يكن حلمًا.
وأنه، بعد الموت، عاد إلى ماضٍ تعيش فيه إيليا.
عاد إلى الحاضر، ملامحه تستعيد سكونها المعتاد.
“هل رأى سيدي في حلمه الدوق الراحل والدوقة؟.”
ظنّ كبير الخدم أنه مجرد كابوس.
وعادا إلى غرفة النوم، كما لو لم يحدث شيء.
“تحقق من سبب عدم إغلاق الغرفة. وأما بشأن إيليا…”
“آه، تقصد سيدة منزل الكونت رواين. لقد لمحتها بالأمس بعد طول غياب، وأدركت أنها باتت قريبة من سنّ الرشد.”
“كان البط الطبق الرئيسي.”
“نعم. قلتَ مرة إن السيدة إيليا تفضله. وقد أنهت طبقها بالكامل أمس، فسُرّ طاقم المطبخ.”
حتى في صوت كبير الخدم…
كانت إيليا حيّة.
لا كسيدة الدوقة، بل كابنة الكونت رواين.
حيّة…
“قدّموا شيئًا مختلفًا في زيارتها القادمة. وجهّزوا العربة فورًا.”
“حاضر، عندما تزور السيدة إيليا المرة القادمة، سن—”
“سأسألها بنفسي عن ذوقها.”
“…عفوًا؟.”
اتجه إدموند نحو حوض الماء.
في سطحه الصافي، انعكس وجهه في الثانية والعشرين.
اثنان وعشرون.
وبالعودة عشر سنوات…
كل شيء أُعيد ضبطه:
صعود ابن عمه للعرش، انتقامه من قتلة والديه. كل ذلك لم يحدث بعد.
“سأذهب لأراها بنفسي.”
كم كان ذلك… رائعًا.
“إيليا، إن كنتِ قد أحببتِ حتى النسخة الماضية مني، فإني واثق من أنني قادر على امتلاككِ الآن.”
إيليا ذات الثمانية عشر عامًا، التي استعادها…
ستصبح زوجته في النهاية.
ستكون امرأته.
تمنحه حبًا لا يبادله شيئًا.
ولذا، هذه المرة…
لن يسمح لها بالهرب.
‘لن يكفيني مجرد معرفة أنكِ حيّة. إيليا، حتى لو هربتِ إلى الموت، ها أنتِ تعودين إليّ. هذه المرة، حتى لو كان عليّ أن أستولي عليكِ بالكامل، حتى لو خسرتُ كل شيء، سأفعل كل ما يلزم. كي لا تفكّري يومًا… بالرحيل عني.’
هذه المرة، سيبتلعها كليًا.
التعليقات لهذا الفصل " 2"