3
الفصل 03
“الأم وابنتها لا تشبهان بعضهما حقًا، أليس كذلك؟”
كان هناك شخص مفقود في تصريح جانيس. وما إن أدركت ذلك، وكأنها قرأت أفكار شارلوت، حتى تابعت كلامها.
“هل تعرفين أخ الإيرل، السير ريتشارد؟”
بالطبع كانت تعرفه. لقد كان الابن الذي أرضعته أمها وربّته طيلة سبع سنوات. وكان أيضًا الرجل الذي أنقذها للتو من هجوم الذئب.
ومع ذلك، لم يسبق لها أبدًا أن رأت وجهه بوضوح. ففي إقامتها السابقة هنا، كانت منطوية على نفسها، هادئة كالفأر، وآنفًا، في البرية، حال ضوء الشمس من خلفه دون أن ترى ملامحه جيدًا.
ولم يكن ثمة داعٍ لذكر أنهما التقيا للتو. أومأت شارلوت برأسها وقد اتخذت قرارها.
“نعم، أنا أعرفه.”
“أفضل ألا تذكري اسمه أمام والدتكِ.”
كان الرد غير متوقّع. شعرت بالارتياح لأنها لم تذكر لقاءهما بعد. ويبدو أن تعبير الحيرة ارتسم على وجهها، إذ تنهدت جانيس تنهدًا خافتًا، وكأنها تفكّر إن كان عليها أن تمضي بالكلام، ثم استأنفت حديثها.
“الأمر فقط أن والدتكِ، سينثيا…….”
بدت جانيس مترددة، تنتقي كلماتها بعناية، ثم تابعت بعد أن أخذت نفسًا.
“بسبب ضعف صحتها، باتت أعصابها واهنة بعض الشيء.”
“انهيار عصبي؟”
كان ذلك كاختناق مفاجئ، وهبوط حاد في القلب، كأن أحدهم قبض على قلبها. وحين رأت جانيس شحوب وجه شارلوت، وضعت يدها على كتفها، وكأنها كانت تتوقّع هذا التفاعل.
“ليس بالأمر الخطير. فقط، أحيانًا لا تتعرّف على من في القصر. لكن لا تقلقي كثيرًا، سرعان ما تعود ذاكرتها إليها.”
تنفست شارلوت الصعداء عند سماع الجملة الأخيرة.
“لكن المشكلة تكمن في شخصٍ واحد……ربما لأن الفُرقة طالت بينهما، لكنها لم تستطع التعرّف على السير ريتشارد طيلة الأشهر الستة الماضية. تصاب بالذعر حين تراه، وتتخذ موقفًا دفاعيًا.”
“…….”
“ولهذا ظننتُ أنه من واجبي أن أُحذّركِ، بصفتكِ ابنتها.”
كانت شارلوت تدرك بالفطرة أن ثمة ما لم يُقل بعد. لكنها لم تستطع الاستقصاء أو الضغط للسؤال.
“نعم، أفهم. سيدتي.”
عند ردّ شارلوت المطيع، نطقت جانيس بلطف وقد بدا الارتياح على وجهها.
“سيعود اللورد عند الواحدة. يجدر بكِ أن تبدّلي ملابسكِ وتغتسلي قبل ذلك.”
* * *
“فيليكس.”
“نعم؟”
“غطِّ أذنيك.”
بانـغ!
مع سحب الزناد، ملأ رائحة البارود الهواء. ارتدّت البندقية بقوة، وتوقف الصداع النابض الذي كان يعاني منه فجأةً.
أصابت الرصاصة صدر الفريسة من الطلقة الأولى. كان الغزال يحاول الهرب بيأس، ينزف وهو يعدو قليلًا، ثم سقط أرضًا بصوت مكتوم. ترجّل ريتشارد عن سرجه. وتقدّم بخطى هادئة نحو الحيوان الذي ارتجفت قوائمه في محاولة يائسة لإطلاق صرخة، مقاومة لا جدوى منها.
راح يراقبه لبرهة، ثم صوب بندقيته مرة أخرى نحو رأس الغزال. لم يكن صوت الطلقة هذه المرة عاليًا، إذ أطلقها مباشرةً على الفريسة. مسح ريتشارد الدم المتناثر على خده وجبهته بظهر يده، فتقدّم فيليكس وقدّم له منديلًا.
“الصيد في يوم أحد مقدّس؟ أما تخشى أن ينتهي بك الأمر في الجحيم؟”
“لا تتدخل في ما لا يعنيك. فأنتَ أيضًا لم تذهب إلى الكنيسة.”
“لكنني، على الأقل، لم أقتل شيئًا اليوم.”
رفع فيليكس كتفيه بلا مبالاة، واستعاد المنديل الملطخ بالدم، ثم قال بصوت خافت.
“تعلم……لقد تغيّرت كثيرًا.”
بدلًا من الرد، أدار ريتشارد وجهه جانبًا.
“كنتَ فيما مضى، كيف أصفك……دودة كتب خجولة، لا تعي من العالم شيئًا سوى دراستك.”
نموذج الطالب المثالي. تجسيدٌ للجدّ والاجتهاد.
هكذا كان ريتشارد دانيال كنسينغتون. خجولًا بطبعه، وذو مظهر لافت لم يكن يريحه، ارتدى النظارات ليصرف الأنظار عنه. فما الذي قلب كيانه رأسًا على عقب هكذا؟
كل شيء بدأ منذُ أن التحق بالخدمة العسكرية.
مثل كثيرين غيره، تلقّى ريتشارد رتبة عسكرية وأُرسل إلى الخارج فور تخرّجه من الكلية. ولم تمضِ فترة طويلة على تمركزه هناك، حتى أشعلت القوات الحكومية الاستعمارية تمرّدًا، وفي خضمّ الفوضى التي تلت، أُعلن عن فقدانه.
ورغم أن القوات الوطنية خرجت منتصرة، فإن المعركة قيل إنها كانت ضارية. الجميع أيقن آنذاك أن ريتشارد لا بد أن يكون قد هلك في الأدغال. لكن، وعلى نحوٍ غير متوقَّع، عاد ريتشارد. وكان قد تغيّر بطريقة ما.
كانت ليلةً عاصفة. وكما جرت العادة في مثل هذه الليالي، تجمع الناس في قاعة البلياردو في قصر ميستي مور.
فجأةً، انفتح الباب بقوة، ودخل خادم شاحب الوجه، كمن رأى شبحًا.
‘السيد……قد عاد.’
وكأن البرق أُرسل خصيصًا لتأكيد الحدث، ضرب خارج النافذة خلفه. الرجل الذي دخل القاعة المذهولة لم يكن سوى نفس الشخص الذي أُعدّ له قبر فارغ، إذ اعتقد الجميع أنه مات.
تذكّر فيليكس حين سأل الرجل بهدوء، وهو يزيح خصلات شعره المبتلّة.
‘هل رأيت شبحًا؟’
شعر فيليكس بنغزةٍ من الاضطراب، وكأنه يرى شخصًا آخر، ومع ذلك، لم يكن هناك شكّ. إنه ريتشارد دانيال كنسينغتون. ما لم يكن شبيهه، فلا مجال للخطأ.
على خلاف البرقية التي أفادت بأنه أُصيب بجراح بالغة وفُقد، بدا ريتشارد الذي عاد سالمًا. شعره البني الناعم، وعيناه الأرجوانيتان كالأحجار الكريمة، لا لبس فيهما. والآن بعد أن تخلّى عن نظاراته التي كان يخفي بها ملامحه، صار محطّ أنظار السيدات المعجبات.
ما تغيّر، كان في الداخل. ثمة أمرٌ جوهري تبدّل فيه نتيجة ما اختبره في تلك الجزيرة الاستعمارية.
“فيليكس.”
ربما استشعر اضطراب صديقه، فارتسمت على شفتي ريتشارد ابتسامة باهتة.
“إن كنتَ خائفًا، فقط قل ذلك.”
“ماذا؟”
“كفّ عن هرائك الذي يثير اشمئزازي.”
قالها وأدار ظهره، دون أن يمنح مجالًا للرد. فسارع فيليكس للحاق به.
“لم أقل إنني خائف. فقط شعرتُ أنك تبدو مختلفًا بعض الشيء.”
لم يأتِه أي رد. وفي النهاية، مد فيليكس يده ووضعها على كتف ريتشارد الذي كان يواصل سيره. وقبل أن يتمكن ريتشارد من دفع يده، باغته فيليكس مجددًا.
“بما أنك انضممت إليّ في الصيد، تعال إلى منزلي اليوم.”
“هل تنوي أن تستدعي بعض البغايا وتقيم حفلة عربدة أخرى؟”
وقبل أن يُصدر ريتشارد رفضًا قاسيًا، بادره فيليكس قائلًا.
“ليس كذلك. سترى ما يسعدك.”
ركل فيليكس خاصرة حصانه فانطلق به إلى الأمام، متقدّمًا بخطاه. وما إن خرج الحصانان من الغابة الكثيفة، حتى ظهرت آنسة تنتظر غير بعيد. لوّح لها فيليكس.
“كيارا!”
كانت امرأة آسرة، بشعرها الأحمر المجعّد المعقوص لأعلى، وقوامها الممشوق المثير. ترجّل الاثنان أمامها، وكان فيليكس أول من مد يده نحو قريبته.
“لم أعلم أنكِ وصلتِ باكرًا. هل أتيتِ مشيًا؟”
“خرجتُ للقائك عندما سمعتُ أنك هنا.”
قبّل فيليكس خد كيارا قبلة تحيّة، وقال بمودّة.
“كيارا، هذا ريتشارد. الذي كنتُ أحدثكِ عنه.”
ثم التفت إلى ريتشارد وقدّمه.
“ريتشارد، طال غيابك. هذه ابنة عمي، كيارا.”
“……كيارا؟”
ردّد ريتشارد الاسم وكأنه يحاول أن يُنعش ذاكرته، فتجهّمت كيارا، كما لو شعرت بالإهانة.
“هذا قاسٍ! أعلم أن الزمن طال منذُ آخر مرة رأيتني فيها، لكن ألا تتذكرني؟ كنا نلعب معًا كثيرًا ونحن صغار، نحن الثلاثة.”
عند كلماتها، رمش ريتشارد بصمت، ثم بعد هنيهة، ارتسمت على شفتيه ابتسامة خافتة.
“آه، نعم. لقد مضى وقت طويل.”
لكنها لم تكن ابتسامة حنين. بل كابتسامةِ مفترسٍ يراقب فريسته من خلف الأدغال.
* * *
استقبل الإيرل والكونتيسة كنسينغتون شارلوت بحفاوة. كانا معروفين بلطفهما واستقامتهما حتى في الأيام العادية.
عبّر الإيرل عن أسفه لحالة سينثيا الصحية لـ شارلوت التي جاءت لتقديم التحية، وأخبرها بأنها موضع ترحيب في القصر طالما رغبت في البقاء. ومع أنه قال، ‘طالما تشائين’، فقد كان من المفهوم ضمنًا أن أقصى مدة للبقاء هي شهر واحد.
وحين انتهت التحيات، دعت جانيس شارلوت إلى المطبخ حيث كان الخدم مجتمعين.
“هذه ابنة سينثيا، وستقيم معنا لبعض الوقت. وقد طلب السيد أن نُعاملها كفرد من العائلة.”
بعد أن تبادلت التحية مع اثني عشر من أفراد الطاقم، باستثناء جانيس، تبعت شارلوت الأخيرة، التي راحت تشرح لها تفاصيل بنية القصر وأروقته. انقضى الوقت سريعًا، وسرعان ما جنّ الليل وغابت الشمس خلف الأفق.
وبعد العشاء، انهمر المطر فجأةً خارج النوافذ. ومع حلول الظلام، ناوَلت جانيس شارلوت شمعة قبل أن تعود إلى أداء مهامها.
كانت شارلوت تصعد السلم وفي يدها الشمعة، حين هبّت فجأةً نفحة ريح من حيث لا تدري، فأطفأت لهب الشمعة، وغرقت الدنيا في ظلام دامس. ارتجفت من المفاجأة، وتلبّسها قلق مباغت.
“ما العمل الآن؟ لا أملك أعواد ثقاب…….”
تمتمت لنفسها وهي تتنهّد، ثم حاولت أن تُطمئن قلبها بأن ما يبدو مُقلقًا الآن، سيتلاشى مع نور الصباح، وواصلت الصعود متلمّسة الجدار بيديها. لكن في اللحظة التالية، باغتها شيء كاد يُسقطها من أعلى الدرج.
ووش.
شيء أسود مرّ بمحاذاتها. وفي اللحظة التي أبصرت فيها عينيه الصافرتين، المتقدتين كالجمر، خفق قلبها بقوة وهبط إلى قدميها.
تسمّرت في مكانها، لا تكاد تلتقط أنفاسها المرتجفة، إلى أن سمعت مواء خافتًا ينبعث من الخلف. تنفّست بعمق، واستدارت ببطء، فما إن أبصرت ما خلفها حتى ارتاح صدرها.
“مياو.”
كان الكائن الغامض الذي بالكاد يُرى وسط العتمة، قطة. فراؤها الأسود حال دون تمييزها بسهولة وسط الظلام. ابتسمت شارلوت بخجل على ردة فعلها المذعورة، ثم رفعت رأسها وأسرعت في خطواتها.
وعندما بلغت الطابق العلوي، لاحظت أن الباب الذي كانت متأكدة من أنها أغلقته، كان مواربًا قليلًا، ويتسرّب منه خيط من الضوء.
“أمي……؟”
كانت أمها، تلك التي لم تُحرّك ساكنًا رغم الرائحة القوية للدواء، والتي لم تستفق حين دخلت ابنتها. تسارعت دقات قلب شارلوت بالأمل في أن تكون أمها قد استيقظت أخيرًا، فأسرعت خطاها ودَفعت الباب على وسعه. عندها، استدارت سينثيا برأسها نحو الصوت، وهي جالسة مستندة إلى لوح السرير.
يُتبع….
التعليقات لهذا الفصل " 3"