1
الفصل 01
كانت شارلوت واثقة من الأمر. لقد كانت تحلم مجددًا.
في حقلٍ موحش، كانت تهرب مرة أخرى من شيءٍ ما. ومع كل نفسٍ تأخذه، كان الهواء البارد يملأ أنفها وفمها. أما الريح الشمالية القاسية، فقد كانت تلهب تنورتها الطويلة، الداكنة، الخضراء، التي لا نهاية لها.
كان حدسها يهمس. عليها أن تهرب، لا يجوز أن تُؤخذ.
كانت تلهث وهي تركض، دون أن تدري ما الذي تفرّ منه. أنفاسها متقطعة وصدرها يعلو ويهبط بعنف. وما زاد الطين بلة، أن شعرها الأسود المتشابك، الذي فَكّت الريحُ وثاقه، كان يلتف حول عنقها كالحبل، يكاد يخنقها.
كان اليأس يدفعها للمضي قدمًا، لكن الأرض المبتلة بمطرٍ حديث كانت تتشبث بحذائها في كل خطوةٍ يائسة. والريح تعوي، تعبث بشعرها المتشابك وتلهب الضباب المتدلّي، فتدفعه إلى الجنون. خنق ذلك الضباب الصمت الذي كان يلفّ المكان، وحوّل البرية إلى هوّة بيضاء هوجاء تبتلع العالم كله.
كانت أنفاسها تخرج متقطعة، وساقاها تلتهبان من شدة الجهد. اشتدّ الشعور بالاختناق حين حجب الضبابُ الرؤية، حتى باتت تركض كما لو كانت معصوبة العينين. أما وطأة الخطر الخفي فكانت تثقل كاهلها، وتحيل قدميها إلى رصاص.
ثم، جاء صوت.
‘شارلوت.’
كان صوت شاب، عميقًا وعذبًا، لكنه مشوبٌ بجاذبيةٍ مقلقة. أرسل قشعريرةً في عمودها الفقري، كأنه أغنية عروس بحر. جميلة، آسرة، لكنها في نهايتها ناقوس موت.
رغمًا عنها، واصلت الركض. لكن الهمسة الباردة عادت، أقرب هذه المرة، مفعمة بتملّكٍ جليدي.
‘لن تهربي مني.’
فجأةً، اخترق ألم حاد قلبها. شهقت شارلوت وقبضت على صدرها الأيسر. وحتى في تلك اللحظة، لم يتوقّف حدسها عن الهمس.
كان عليها أن ترحل. الرحيل هو الصواب. الرحيل هو سبيل النجاة.
ثم، رأت رجلًا يتلألأ أمام عينيها كأنه سراب.
‘أنتِ ليّ إلى الأبد.’
وفي اللحظة التي مدّت يدها نحوه، استيقظت من الحلم.
* * *
هز يدٌ كتفَ شارلوت، فأفاقت فزعًا. فتحت عينيها المتعبة وقد غمرها شعورٌ بالتيه، لتجد نفسها لا تزال في عربة السفر. لم تكن الرحلة مريحة بأي حال.
تطلّ وجه المرأة العجوز المجعّد من المقعد الأمامي ونظرت إليها بقلق.
“آنسة؟ هل أنتِ بخير؟ كنتِ تتقلبين كثيرًا في نومكِ، وظننتُ أن عليّ إيقاظكِ.”
“آه…….”
تمتمت شارلوت، وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة محرجة.
“شكرًا لكِ. لا بد أنني رأيتُ حلمًا مزعجًا، لكنني لا أستطيع تذكّره.”
كان هذا صحيحًا. لقد كان الحلم حيًّا نابضًا، وقد خلّف وراءه شعورًا بعدم الارتياح، لكن تفاصيله بدأت تتلاشى سريعًا. وهذا للأسف أمر متكرّر في نومها.
مدّت يدها وسحبت الستارة الباهتة، فانكشف أمام ناظريها مشهدٌ لا نهائي من الحقول الممتدة حتى الأفق. كان هذا هو المنظر ذاته الذي رافقها منذُ أن غادرت المدينة الصاخبة قبل يومين. قطع تلك المسافة الطويلة، وداخل عربة متعثّرة، لم يكن بالأمر الهيّن. كان شعرها المصقول بعناية يتفلّت من تحت القبعة، ومؤخّرة جسدها قد خَدِرت من وطأة المقعد الخشبي القاسي. وأي محاولة لتعديل وضعيتها دون أدبٍ بالغ كانت ستجلب عليها بلا شكّ نظرات الاستنكار، وهو الثمن الذي يدفعه المرء للحفاظ على مظهر السيدة المهذّبة.
وبرغم أن مهنتها لم تكن أنثوية بالمعنى الأرستقراطي، فغسّالة الثياب ليست من نبلاء القوم. كانت شارلوت تسير مرفوعة الرأس. فقد بدأت خادِمةً وهي في الثالثة عشرة، وبعد سبع سنوات من الخدمة، باتت ذات خبرة لا يُستهان بها، وكانت تفخر بعملها. لكن الخبر المفاجئ عن مرض والدتها هو ما دفع بها، وهي دومًا الفتاة القادرة، إلى الريف، وذلك قبل انطلاق مهرجان القديسة ميكائيلا الصاخب.
أمّا والدة شارلوت، سينثيا، فكانت تشغل منصبًا فريدًا. مرضعة لوريث تلّة غريدل، ابن إيرل كنسينغتون.
قبل سبعةٍ وعشرين عامًا، حين وُلد الابن الثاني العزيز للإيرل، عمّمت برقيةٌ تطلب مرضعة عبر بلدة إيثلوود. وكانت سينثيا، التي وضعت طفلها حديثًا، الخيار الأمثل. فقد كان زوجها، سيد العائلة، طريح الفراش بسبب إصابة ألمّت به في عمله، والمال آنذاك كان شحيحًا.
وهكذا، رحلت سينثيا، تاركةً وراءها بكاء رضيعها.
وُلدت شارلوت بعد ذلك بسبعة أعوام، وعاشت في كنف والدتها طفولةً هانئة دامت ثلاث سنوات، على النقيض تمامًا من نشأة أختها الكبرى. لكن السلام لا يدوم طويلًا. ففي أحد الأيام العادية، وصلت برقية أخرى من تلّة غريدل. الابن البكر للإيرل أنجب أخيرًا طفلًا بعد أكثر من عقدٍ من الزمان، وكانت الحاجة إلى سينثيا قد تجددت.
فعادت إلى تلّة غريدل. كانت الكونتيسة، وقد عزمت على إرضاع طفلها بنفسها، قد استعانت بـ سينثيا كمربية للعناية بالرضيع، ومنذُ ذلك الحين، لم تعد إلى الديار. لا بعد سبعة أعوام، ولا حتى بعد سبعة عشر عامًا. بدا أن الإيرل والكونتيسة، وفي محاولةٍ ما لتكفيرٍ غامض، لم يتوقفا عن إنجاب الأطفال، الواحد تلو الآخر.
واليوم، كانت سينثيا لا تزال مرضعةً لأصغر أولئك الصغار الثلاثة الذين تحت رعايتها. ومنذُ رحلتها الثانية، لم تتجاوز زياراتهم لها الأربع سنويًا. في الأعياد الكبرى، أو حين يزور السيد الشاب وزوجته منزل والدته. وأحيانًا، حين يمرض ساعي البريد المكلّف بخدمة تلّة غريدل، كانت شارلوت تذهب إلى بيت الإيرل بدلًا منه.
كانت تلك الزيارات لحظاتٍ ثمينة. تحمل شارلوت الرسائل العائلية، وتردّ سينثيا بإرسال النقود لإعالة ابنتها الصغيرة. كانت الرحلة تستغرق يومين على صهوة جواد، ما أتاح لهما أن يقضيا ليلةً دافئة تحت سقفٍ واحد عند الوصول، ذكريات عزيزة حفظتها شارلوت في قلبها.
لكن الحزن كان ينهشها. فقبل عامٍ فقط، قضت أختها في حادثٍ جبلي، وفي العام الذي سبقه، استسلم والدها لليأس وديونه المتراكمة من القمار، فأنهى حياته بيده. والآن، لم يتبقَّ لها من العائلة سوى أمها، المريضة مرضًا شديدًا. أغمضت شارلوت عينيها برهة، منهكةً من عناء الرحلة الطويلة، فيما كانت العربة تهتز وتتوقف ببطء.
“تلّة غريدل، آنسة.”
أعلن السائق بصوته الجهوري، قاطعًا سكون الجو.
تناهى إلى أذن شارلوت صوتٌ رقيقٌ اخترق تعبها. كانت القابلة الطيبة، المرأة العجوز التي رافقتها في الرحلة. سألت.
“ألم تقولي إنكِ ستنزلين هنا؟”
وأوضحت أنها ذاهبة لرؤية حفيدها الذي أوشك أن يُولد.
“آه، شكرًا لكِ.”
همست شارلوت، محاولةً رسم ابتسامة شاكرة. عدّلت معطفها وقبعتها قبل أن يعينها السائق على النزول. التصق الهواء الرطب الثقيل ببشرتها، على النقيض من دفء العربة. وما إن وطأت الأرض غير المستوية، حتى سرت قشعريرة في عمودها الفقري.
“ها هي أمتعتكِ!”
صرخ السائق وهو يقذف حقائبها على الأرض، ثم حرّك لجام الخيل واختفى وسط قرقعة الحوافر. فبقيت شارلوت وحدها، في البرية.
نشرت الخريطة القديمة المهترئة، فانقبض قلبها؛ لم تكن ذات نفع يُذكر في هذا الضباب المتلاطم. سلكت طريقًا ضيقًا يتعرّج كخيطٍ ضائع، وسرعان ما تراءت لها من خلال الضباب ملامح بيوتٍ بعيدة، لكنها بدت أبعد من أن تُطال.
ولحسن الحظ، كانت شارلوت تسافر بخفة. فقد كانت تظن أن زيارتها ستكون قصيرة، وستعود سريعًا بعد الاطمئنان على والدتها، لذا لم تحمل سوى القليل. أما الآن، فقد غدا همّها الأكبر هو الوصول إلى قصر الإيرل وسط هذا الضباب الكثيف.
“سأدبّر أمري بطريقةٍ ما.”
تمتمت وهي تأخذ نفسًا عميقًا وتواصل السير. اعتمدت على ذكريات الطفولة الضبابية، لكنها سرعان ما شعرت بأن الطريق لا نهاية له. بدأ اليأس ينهشها. تُراها ضلّت السبيل؟ أضاعت الطريق؟
وفي اللحظة التي أوشكت فيها قواها أن تخور، التقط بصرها ومضة حركة في البعيد. ضيّقت عينيها وهي تحدّق وسط الضباب، فرأت.…..شيئًا.
توهّجت في داخلها شرارة من الذعر. راودها خاطرٌ سريع. هل يحتفظ قصر الإيرل بكلاب صيد؟ لكن المشهد الذي بدا أمامها دحض ذلك الظن. لم يكن كلبًا مربوطًا له سيد، بل وحشٌ شرس، تكشّر أنيابه، يخرج من الضباب. كان حيوانًا بريًا.
انطلق حدسها. ضمّت شارلوت ذراعيها إلى صدرها، وقد اجتاحها رعبٌ غريزي من مفترس. انتصبت شعيرات جسدها، وجسدت الرهبة صرخةً صامتة في أوصالها تأمرها بالفرار. لكنها لم تستطع الحراك، كأن الرعب شلّ قدميها.
اقترب المخلوق، وكان ذئبًا يتوشّح بالضباب. وبره الرمادي أكّد أسوأ مخاوفها. ارتجفت، وهمست بصوتٍ واهن.
“هذا لا يمكن أن يكون حقيقيًا!”
لكنه كان حقيقيًا، والوضع كان على وشك أن يزداد سوءًا.
انبثقت ذئاب أخرى من بين الضباب، اثنتان، وربما ثلاث، قطيع صيد كامل. وقد ثبت القائد نظره الوحشي في عيني شارلوت، ووميض الافتراس يلمع فيهما. ارتطم قلبها بأضلاعها بعنف. كانت وحيدة، مجرّدة من أي وسيلة للدفاع. وتسلّلت إلى مخيلتها صورة مروّعة لجسدها يتمزق بين أنياب ذلك القطيع، فغمرتها قشعريرة باردة كالموت.
فجأةً، تعثّر قدمها بصخرةٍ خفية تحت الأرض، وارتطمت بجسدها إلى التراب الرطب. كانت هذه فرصتها.…..فرصة الذئب. دوّى زمجرٌ خافت، أجش، في الهواء، فأغمضت شارلوت عينيها بإحكام، متوقّعة الهجوم الوشيك.
لكن الهجوم لم يأتِ.
بدلًا منه، انشقّ السكون بانفجارٍ مدوٍّ، طلقة نارية تبعتها عواءات الألم من أفواه الذئاب. تتابعت الطلقات، ثم خيّم الصمت.
فتحت شارلوت عينيها بحذر. كان القطيع يئنّ ويتقهقر إلى عمق الضباب، مذعورًا، متقهقرًا.
حينئذٍ، تردّد في الجو صوتُ خيولٍ تقترب. رفعت شارلوت رأسها، ووميضٌ من رجاءٍ انبعث في صدرها. وهناك، في نهاية الدرب، على خلفية الضباب، وقف رجلٌ على صهوة جواده، كهيئةٍ مرسومة بالظل والنور.
يُتبع….
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 منتدى المانهوا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 منتدى الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 1"