6
حاولت داجون طوال طريق عودتها إلى المنزل أن تطرد من رأسها تلك الهواجس التي كانت تتوالد كذيلٍ يتبع آخر، لكنها لم تستطع.
لا يمكنها العيش متجاهلةً كل شيء بالكامل، لكنها كما قال جي وون، لم تستطع أيضًا أن تنتقل للعيش في بيت عائلتها البيولوجية. و قبل كل شيء، لم يكن بإمكانها ترك أمها لي سوك وحدها.
وإن كانت أمها الحقيقية يوهي ترغب بذلك، فربما تكتفيان برؤية بعضهما بين حين وآخر. لكن داجون لم تشأ أن تكون عودتها عبئًا يثقل كاهل يوهي. لذا، إن لم تكن يوهي راغبة، فالأفضل أن تبقى حياتهما كما هي.
في الحافلة السريعة المتجهة نحو بلدتها، قررت داجون تبسيط الأمور قدر المستطاع. أن تعيش على ما هي عليه الآن، بلا تغييراتَ كبيرة، ودون أن تُسبب متاعب لأحد.
و ما إن رتّبت أفكارها بهذه الطريقة ووصلت إلى البيت، حتى باغتتها حادثةٌ لم تخطر لها على بال. بدأ الإحساس الغريب منذ مدخل الزقاق المؤدي إلى منزلها.
لقد مرّ وقتٌ طويل منذ آخر مرة عادت فيها إلى البيت بسبب انشغالها برعاية لي سوك. منذ أن أُدخلت لي سوك إلى المستشفى، كانت تنام إلى جوارها وتعود إلى المنزل فقط لجلب الملابس أو للاستحمام. لذلك عادت داجون هذه المرة وهي تفكر بهدوء أنها ستبدأ فورًا بتنظيف البيت وترتيب ما تراكم فيه.
غير أنّ شيئًا ما كان غير طبيعي. فكلما اقتربت من البيت، ازدادت الضوضاء من حولها.
خرج أهل القرية جميعًا، وملأت صفارات الإنذار العالية أرجاء المكان. و تسارعت خطوات داجون وقد بدأ قلبها يهبط في قاع صدرها. وما إن اقتربت، حتى اندفعت نحوها إحدى الجارات التي تعرفها جيدًا، تركض في هلع.
“داجون! لماذا جئتِ الآن فقط؟!”
لم تفهم داجون شيئًا، فحدّقت في وجه الجارة المتجهم.
“ما الأمر يا خالتي؟”
كانت الخالة تربطها علاقةٌ جيدة مع لي سوك.
“يا إلهي……ماذا سنفعل؟ ماذا نفعل الآن……”
في صوتها المرتجف شعرت داجون بانقباضٍ يضغط قلبها رغم أنها لم تسمع السبب بعد.
“ما الذي حدث……؟”
“أمكِ ترقد في المستشفى، وفوق ذلك……يا الهي، ماذا نفعل الآن……”
مرّ خاطرٌ مخيف في رأس داجون. ولم تستطع الجارة إكمال كلامها قبل أن تنفجر بالبكاء. وكلما سألتها داجون عمّا يجري، لم تكن الخالة تجيب إلا بجملة: يا مسكينة… يا مسكينة…
ركضت داجون نحو البيت بجنون. و كلما اقتربت، ازداد الدخان اللاذع يخترق أنفها، وتعالت أصوات صفارات الإنذار أكثر فأكثر.
وعندما وصلت أمام البيت، تجمّدت في مكانها.
كانت ألسنة اللهب الحمراء تلتهم المنزل بالكامل. لم يكن حريقًا عاديًا، بل نارًا كأنما تعتزم محو كل شيءٍ حتى آخر رمق.
“منزلي……”
التف الناس حولها وهم يضربون أقدامهم في الأرض قلقًا، بينما يتحرك رجال الإطفاء بجديةٍ وسط الفوضى. بينما لم يبدُ المشهد حقيقيًا لداجون.
“هذا……غير ممكن……”
ذلك البيت الذي عاشت فيه طفولتها مع أمها. فيه كل ذكرياتهما، وكل ما تملكهما من حياة. كان بيتًا متواضعًا، لكنه الشيء الوحيد الذي امتلكتاه.
ورغم أنها اضطرّت لرهنه مقابل تكاليف المستشفى، فإنها لم تفكّر يومًا أن تتركه يُنتزع منهما. كانت تنوي أول ما تكسب مالًا و أن تسدد الدين كي لا يضيع منزلهما.
“لااااا! لااااا!”
فاضت دموعها فجأة، وخرج صراخها وكأنه يشرخ قلبها. و حاولت الاندفاع نحو النار، لكن أحدهم أمسك بخصرها بقوة.
“داجون! لا تفكري حتى في الاقتراب!”
“أمي……”
انهمرت دموعها بلا توقف.
لطالما حاولت أن تكون قويةً أمام مأساة أمها. كانت تعرف أنه لا أحد يستطيع الاعتناء بلي سوك إن انهارت هي. ولهذا قاومت، حتى أمام أمها المغمى عليها، كي لا تبكي. لأنها إن بكت لن تتمكن من التوقف.
“أمي……منزلنا……”
كانت تشجع نفسها دومًا كي لا تفقد الأمل.
حين رهنت البيت وكانت تغرق في الديون، كانت تردّد في قلبها أن الظروف ستتحسن. وعندما عرض عليها جي وون عرضه المجنون، عزّت نفسها بأن تكاليف المستشفى قد حُلّت وأن بمقدورها الادخار الآن لتسديد الديون.
لكنها الآن، أمام حريقَ لا ينطفئ، رأتها كل تلك الآمال تنهار دفعةً واحدة. فسقطت داجون على ركبتيها ممزقة، وأسرعت بعض الجارات للإمساك بها قبل أن تهوي تمامًا.
شعرت بدوارَ شديد لكنها لم تفقد الوعي. و تمنّت لو أنها غابت عن الواقع للحظة، لكن حتى ذلك لم يمنحها القدر إياه.
“داجون، تعالي لبيتنا الآن.”
“نعم، بقاؤكِ هنا لن يفيدكِ……”
“يا للمسكينة……لقد صُدمت تمامًا.”
اقتربت إحدى الجارات اللواتي كنّ دائمًا يعتنين بداجون، ومسحت دموعها المنهمرة دون توقف.
لكن داجون لم تشعر بأي شيء. كلمات الشفقة التي أحاطتها لم تصل إلى مسامعها. كل شيءٍ بدا بعيدًا، كأن صوت رجال الإطفاء يأتي من حلمٍ بعيد.
وبشكلٍ ساخر، لم يخفت الحريق إلا بعد أن التهم كل شيء.
جلست داجون هناك تحدّق بصمتٍ في القِطع المحترقة التي كانت يومًا بيتها. وقد رحلت عربات الإطفاء بعد إتمام عملها، وبقي بعض رجال الإطفاء يفحصون الأنقاض السوداء بحثًا عن سبب الحريق.
بينما بقيت الجارات الثلاث إلى جانب داجون، غير قادرات على تركها وحدها.
“داجون، عودي معنا للمنزل. هيا، يا ابنتي.”
شعرت داجون بحرارة يدٍ تمسك يدها، فرفعت عينيها أخيرًا نحو الخالة. التي كان القلق يملأ وجهها.
لكنها، رغم امتنانها، لم تستطع التفكير بشيء. لقد كانت روحها منهكةً تمامًا.
“يجب أن أذهب إلى أمي.”
قالت ذلك دون أن تدرك ما تقوله.
“إذًا تناولِ لقمةً أولًا……أرجوكِ.”
“لا بأس.”
توقفت الدموع منذ فترة، لكن عينيها ما زالتا حمراوين منتفختين. و لم يكن من الممكن أن يدخل الطعام حلقها.
ورغم محاولات آخر امرأةٍ في الحي لثنيها، دخلت داجون إلى البيت المحترق بالكامل.
كان كل شيء قد احترق بلا أي أثر حتى شعرت بالفراغ، ومع ذلك بدا تفتيشها عن أي شيءٍ يمكن إنقاذه أمرًا سخيفًا. فلم يتبق شيء لم يحترق، حتى أنها لم تستطع تخمين ما الذي كان موجودًا في المنزل أصلًا.
“هل أنتِ صاحبة هذا المنزل؟”
عندما التفتت نحو الصوت، رأت رجلًا يبدو كأحد رجال الإطفاء.
“ما رقم هاتفكِ؟ علينا معرفة سبب الحريق، وإن كان هناك ما يستوجب التأكد منه فسنتصل بكِ.”
أعطته داجون رقم هاتفها ثم خرجت من المنزل المحترق. وحتى السيدة التي كانت تقف معها عادت إلى بيتها، فبقيت داجون وحدها.
لم يكن لديها مكانٌ تذهب إليه. كانت تنوي إنهاء بعض أعمال البيت ثم أخذ ملابسها والتوجه إلى لي سوك، لكنها لم تستطع أخذ أي شيء، واضطرت للذهاب مباشرةً إلى المستشفى حيث توجد لي سوك.
كانت المسافة بين المنزل والمستشفى طويلة، لكن داجون بدأت تمشي دون تفكير. فقد كان كل ما تملكه في جيب سترتها هو المال الذي أعارها إياه جي وون كأجرة طريق. وحتى ذلك صرفته في تذكرة الحافلة السريعة أثناء عودتها، فلم يبق معها إلا بضع آلاف وون.
ولأن جي وون جاء يبحث عنها في المستشفى، كان كل من محفظتها وحقيبتها هناك. وباتت تلك الأشياء ملكيتها الوحيدة الآن.
***
خرج تشا شين من ردهة المستشفى الريفي المتواضع وهو ممتلئٌ غضبًا. فقد عادت عمته قبل مدة قصيرة من أمريكا بعد طلاقها، وبدأت تتصرف بغرابة، لتصبح مشكلة العائلة.
وكانت تدخل في شجاراتٍ مستمرة مع والد تشا شين، فصار الاهتمام بها يقع على عاتقه.
جاءه اتصالٌ تطلب فيه الحضور دون علم العائلة، فاضطر للقدوم إلى منطقة ريفية مجهولة وهو غاضبٌ لأقصى حد.
“كيف كانت الأمور معكَ؟”
“كان الأمر صعبًا قليلًا، لكني أنهيت التسوية.”
كان المتحدث سكرتيره وصديقه القديم من الجامعة قبل انتقاله إلى أمريكا، جونغ يول.
ورغم أنه جاء معه في يوم إجازته، ظل يتذمر طوال الطريق، لكنه لم يكن من النوع الذي يجيد الرفض.
“وأين هي العمة؟”
عندما سأله جونغ يول، ضغط تشا شين على صدغيه من شدة الصداع.
فقد تزوجت فجأة ثم رحلت إلى أمريكا وكأنها ريحٌ عابرة، لكنها عادت قبل مرور عامين. ولم تقل كلمةً واحدة عن سبب الطلاق، مما ترك سيلًا من التخمينات.
ورغم أنها كانت مثيرةً للمشاكل دائمًا، إلا أن تصرفاتها الأخيرة تجاوزت الحدود. وظن أفراد العائلة أن زوجها كان يخونها.
“لا أعرف. ولا أريد التفكير في الأمر.”
“يبدو أنها أصيبت، أليس كذلك؟”
“اصطدمت بسيارتها في واجهة محل. كيف تكون بخير؟!”
“لا يبدو أنها كانت تحت تأثير الكحول……”
“كانت في مكالمة. مكالمة فيديو وهي تقود أيضًا!”
“فلنرتح على أنه لم يصَب أحد.”
وعندما سُئلت عمته عمن كانت تكلم، أغلقت فمها بإحكامٍ مثل صدفة.
‘لابد أنه كان زوجها السابق.’
لم يكن من الصعب توقع ذلك. فزوج العمة لم يكن شخصًا يبعث على الألفة، حتى أنه لم يستطع أن يرى فيه قريبًا من العائلة.
وفوق ذلك، رحل إلى أمريكا مباشرة، فلم يعد يتذكر ملامحه بوضوح.
“ألا يجب نقلها إلى مستشفى في سيول؟”
“هي ترفض.”
لم يحاول تشا شين حتى إخفاء تعبيره المليء بالضجر.
“تقول أنها تريد قضاء فترة نقاهة في الهواء النقي، وكأنها في نزهة.”
كان حلّ المشاكل سريعًا وسهلًا بالنسبة لهم، حتى أنها لم تدرك خطورة ما تفعله، وتستمر بسلسلةٍ لا نهاية لها من الحوادث.
وحتى عندما هددها تشا شين بأنه سيخبر والده بكل شيءَ وأنه لن يجيب على اتصالاتها مجددًا، لم تُعره اهتمامًا. وقالت له بكل بساطة أنه إن لم يجب، فوالدته ستجيب.
“شكرًا على تعبكَ، خصوصًا في يوم إجازتكَ.”
“بما أنكَ استدعيتني في يوم إجازتي، فسأطالب بأجر دوامٍ يوم العطلة.”
“حسنًا، اطلب ما شئت.”
ابتسم تشا شين قليلًا من كلام صديقه.
“أوف، أندم على أني وافقت عندما طلبت أن نعمل معًا.”
“بفضلكَ، صار عملي أسهل قليلًا.”
فتجهم وجه جونغ يول من كلام تشا شين المـُستفز.
“لنعد. علينا الذهاب للعمل غدًا.”
“سأتولى القيادة في طريق العودة.”
“بالطبع، فأنا قدت في طريق القدوم.”
وفجأة……
“هاه؟”
توقف تشا شين، الذي كان يسير أمامه، فجأة.
‘هل رأيتُ خطأ؟’
لكن عندما تبع حركة المرأة بعينيه، أدرك أنه لم يخطئ. فملابسها كانت متسخةً و فوضوية، ووجهها متورد. وكانت تدخل المستشفى بخطواتٍ مألوفة وكأنها جاءت إليه مرارًا.
“أتعرفها؟”
لاحظ جونغ يول توقف تشا شين المفاجئ، فنظر إلى المرأة أيضًا.
“……لستُ متأكدًا.”
رغم أنه رأى وجهها بوضوح، لم يكن واثقًا.
هل هي فعلًا الشخص الذي يعرفه؟ ساهم مظهرها البائس في الشك، لكن الأمر الأهم أنها ليست من النوع الذي يمكن رؤيته في هذا المكان النائي.
فلو لا العمة، لما جاء تشا شين إلى مثل هذا الريف طوال حياته. وحتى المستشفى الذي بدا وكأنه أكبر مستشفى في المنطقة كان قديمًا لدرجةٍ تثير الدهشة.
“اذهب أنتَ إلى السيارة أولًا.”
كان يفترض بتشا شين أن يتجاهل الأمر ويرحل، لكن فضولٌ غريب دفعه للاستدارة.
_______________________
ياعمري يا داجون مدري تلقاها من اهلها الي توها تدري عنهم ولا الحريق😔
يوجع بس صدق شلون فجأه شب وهي بنفسها تقول ماتدخل الا عشان ملابس؟
وناسه تشا شين هنا شكله بيكتشف انها مب سايو ويقول خل نتزوج كذا ولا كذا؟
المهم لايكون عمته هي الي صدمت ام داجون😦 عادي دامها زفته تبرا منها بسرعه
Dana
Chapters
Comments
- 8 - أنا أخوها منذ 12 ساعة
- 7 - الوداع منذ 12 ساعة
- 6 - على حافة الهاوية منذ 12 ساعة
- 5 - سأتوقف عن هذا 2025-11-13
- 4 - أول لقاء مع ذلك الرجل 2025-11-13
- 3 - جاء لرؤيتكِ 2025-11-13
- 2 - لأنكِ يجب أن تحضري كأختكِ 2025-11-13
- 1 - جنازة الجدة 2025-11-13
التعليقات لهذا الفصل " 6"