لحسن الحظ، لم ينتبه الداخلون إلى وجود داجون وتشا شين.
و بدا أنهم هم أيضًا دخلوا قاعة الاجتماعات ليأخذوا قسطًا من الراحة في مكانٍ هادئ.
فحبست داجون أنفاسها وبذلت أقصى جهدها كي لا يُكتشف أمر جلوسها حافية القدمين على الأرض بلا ترتيب. و شعرت فجأة بأن تشا شين ينظر إليها بنظرةٍ مستمتعة، لكنها تجاهلته بخفة.
ظنت أنه إن بقيا هادئين فسيغادرون من تلقاء أنفسهم، وبينما كانت تنتظر، وصل إلى مسامعها حديثهم.
“أن يصبح الابن الثاني للرئيس هان مديرًا للشركة…..حقًا الحياة لا يمكن التنبؤ بها.”
“صحيح. كنا نظن أنه بعد موت الابن الأكبر بعد سيُترك منصب الوريث شاغرًا.”
‘ماذا؟ الابن الأكبر مات؟’
فزعت داجون من الحديث، فغطّت فمها بيدها ونظرت إلى تشا شين بلا وعي. وقد كان يخفض عينيه بتعبيرٍ لا يمكن قراءة ما يخفيه.
“مع ذلك، أليس مدهشًا؟ لقد أسكت كل المخاوف في لحظة.”
“نعم….هذا صحيح.”
“لكن اسمع.”
وفجأة انخفض صوت المرأة وصار أكثر سرية.
“يقال أن الأخ مات بسبب أخيه الأصغر….هل هذا صحيح؟”
‘ماذا؟’
تجمدت داجون في مكانها. و شعرت وكأنها تسمع أمرًا لم يكن ينبغي لها سماعه.
و هذه المرة لم تستطع حتى أن تنظر إلى تشا شين، وقد تيبّس جسدها.
“شش! من الأفضل الحذر عند الحديث عن هذا. رغم أنها تبدو مشرقة، إلا أن زوجة رئيس مجموعة هانشين لم يمضِ وقتٌ طويل على تعافيها من الاكتئاب.”
ثم خفت صوتاهما سريعًا. لكن داخل داجون لم يهدأ.
لم تكن تعلم إن كانا قد غادرا قاعة الاجتماعات أم أنهما واصلا الحديث بصوتٍ منخفض، لكن لم يعد يُسمع شيء.
ومع حلول الصمت، خيّم صمتٌ ثقيل على داجون وتشا شين أيضًا. لم يجرؤ أيٌّ منهما على فتح فمه.
وبينما بدأت داجون تتساءل إن كان بطل حفل تنصيبه قد غاب طويلًا أكثر من اللازم، جاءها صوت تشا شين.
“كنتُ أنوي إخباركِ بعد مرور بعض الوقت. لم أكن أريد أن تسمعي الأمر بهذه الطريقة.…”
لا، لم يكن مهمًا كيف سمعت القصة.
“إنه موضوعٌ صعب. لستَ مضطرًا للكلام.”
لم يكن أمرًا سهلًا يُقال. فحاولت داجون أن تقطع حديثه بلطف، لكن تشا شين ابتسم ابتسامةً مستسلمة.
“أنتِ الوحيدة التي لا تعرفين، أما في الحقيقة فالجميع يعرف هذه القصة.”
“……”
أسند تشا شين ظهره إلى الحائط وحدّق في الفراغ.
بدا وكأنه يفكر من أين يبدأ. فاختارت داجون أن تنتظر بصبرٍ حتى يصبح مستعدًا للكلام.
“أخبرتكِ من قبل أن حلمي كان أن أصبح طاهيًا، أليس كذلك؟”
“نعم.”
بدأ حديثه من قصة التحاقه بمدرسة الطهي في نيويورك. قال أن الجميع عارض حلمه حينها، إلا أن أخاه وحده وقف إلى جانبه.
فقد كان متفقًا منذ البداية أن الأخ الأكبر هو من سيرث الشركة، ولذلك أراد أن يعيش تشا شين حياته وهو يفعل ما يحب.
كان أكثر من فرح بدخوله معهد الطهي العريق CIA هو أخاه، وكان يحرص على لقائه في كل مرة يزور فيها أمريكا في رحلة عمل، رغم ضيق جدول أعماله.
كانا أخوين متحابين بحق.
لكن في أحد الأيام، حين جاء أخوه إلى أمريكا كالمعتاد لزيارته، أصرّ على اصطحابه إلى مطعمٍ شهير بحجة أنه مكانٌ لا يُفوَّت.
“كان ذلك اليوم غريبًا فعلًا. لم يكن من النوع الذي يُلحّ هكذا، لكنه كان مصرًّا على أن يجعلني أتذوق طعام ذلك المطعم.”
كان صوته هادئًا إلى حدٍّ مؤلم، فزاد ذلك من عمق الحزن الكامن فيه.
قال أن ذلك اليوم كان غريبًا عليه من كل النواحي. فشل في التدريب العملي فساء مزاجه، ثم استوقفه أحد أصدقائه طالبًا منه مساعدةً فتأخر قليلًا، وحتى في المطعم تأخر الطعام على غير العادة.
“المطعم الذي أخذني إليه أخي كان مشهورًا جدًا بالمأكولات الكورية. أطباقٌ عادية يمكن تناولها في كوريا، لكنها قُدّمت هناك كوجباتٍ فاخرة ضمن قائمة. ربما كان يريد أن يطعمني طعم الوطن، فأنا كنتُ قد تذمرت سابقًا من اشتياقي لطعام البيت.”
واصل تشا شين حديثه بابتسامةٍ ساخرة عند طرف فمه.
“في الحقيقة، ما حدث بعد ذلك أمرٌ شائع في أمريكا. حادثة إطلاق نار عشوائي….تلك التي نراها أحيانًا في الأخبار.”
“آه….”
كانت داجون قد صادفت أخبارًا عن حوادث إطلاق نار تودي بحياة كثيرين في أمريكا. لكنها لم تتخيل أن شيئًا كهذا قد حدث له.
نظرت إلى جانبه بصدمة. و وجهه، الذي لا بد أنه بكى وتألم طويلًا، كان الآن يخفي حزنه بلا تعبير.
“فقدتُ الوعي للحظة. وعندما استيقظتُ، كان كل شيءٍ قد انتهى. مطعمٌ تحول إلى ساحة فوضى. جثث….ومصابون….و….”
عجز تشا شين عن إكمال كلامه، وعضّ شفته السفلى.
أرادت أن تقول له إنه ليس مضطرًا للاستمرار إن كان يتألم، لكنها لم تستطع قول شيء. و لم تستطع حتى مقاطعته ولا إيقافه.
ثم فتح فمه عن أصعب لحظة، وعيناه محمرتان.
“أخي تلقّى ثلاث رصاصاتٍ وهو يحميني بجسده. قالوا أن إحدى الرصاصات اخترقت رأسه مباشرة، لذلك توفي في الحال.”
“…….”
حدّقت داجون به في صدمة، لكنه تابع حديثه بلا اكتراث.
“نجوتُ من ذلك الجحيم من دون أن أُصاب حتى بخدش، لأنني استخدمتُ أخي درعًا لي.”
“….…”
“كنتُ واحدًا من قلّةٍ قليلة نجت من هناك.”
ابتسم ابتسامةً مرة، ونظر مباشرةً في عيني داجون.
“ما الذي كان يفكر فيه أخي أصلًا حين فعل ذلك؟”
“….…”
“كان بإمكانه أن ينجو بنفسه فقط……”
لم تستطع داجون أن تجيب على كلماته بشيء.
وبعد ذلك، لم تعد تتذكر جيدًا كيف خرجا من غرفة الاجتماعات الصغيرة.
ظلت قصة تشا شين تدور في رأسها طوال حفل تنصيبه مديرًا. وبعد سماعها لقصته، بدأت ترى تشا شين، وكذلك الرئيس هان جينهُو وحماتها شين آي، بعينٍ مختلفة عمّا سبق.
وحين رأت شين آي تبتسم لها بقلقٍ وتسألها إن كانت متعبة، اغرورقت عيناها بالدموع من غير وعي، فاندفعت إلى الحمام كأنها تهرب.
شعرت بنظرات شين آي المستغربة، لكنها لم تستطع أن تُظهر دموعها أمامها. وحين خرجت داجون من الحمام، بذلت جهدًا مضنيًا كي لا يبدو عليها شيء.
لم يكن بإمكانها أن تفسد حفل تنصيب تشا شين الذي نجا وبقي حيًّا. فعادت إلى جانبه وابتسمت بصفاءٍ وكأن شيئًا لم يكن.
وبعد أن انتهت حفلة التنصيب الممتدة حتى المساء، وعادا إلى المنزل، نادت داجون تشا شين بعدما خرج من الحمّام.
التعليقات لهذا الفصل " 36"