في كلتا الحالتين، لن يؤدي التذكّر إلا إلى ألمٍ في القلب، لذا كان النسيان هو الأفضل.
ثم ظلّ جي وون ينظر إلى داجون لبعض الوقت وهو يستمع إلى أنفاسها المنتظمة.
***
في الصباح، نهضت داجون بشقّ الأنفس وهي تمسك برأسها الذي يكاد ينفجر، ثم اتسعت عيناها بدهشة حين أدركت أنها في مكانٍ غريب.
“أين أنا؟”
حاولت داجون أن تعيد تتبّع ما حدث خطوةً خطوة منذ قبل أن ينقطع شريط ذاكرتها، لكنها لم تستطع أن تتخيل حتى أين استيقظت.
وفوق ذلك، أن تشرب وتفقد ذاكرتها!
كانت هذه أول مرة تمرّ بها بتجربةٍ كهذه، فشعرت بارتباكٍ شديد.
تذكرت على نحوٍ غامض كلمات صديقةٍ لها كانت تجيد الشرب مثلها، حين قالت أن السوجو لا يؤثر فيها، لكنها تثمل بشكلٍ غريب مع البيرة.
فهل كان نوع الشراب هو المشكلة؟
لقد فقدت وعيها تمامًا بسبب أول كأس ويسكي تشربه في حياتها.
وبينما كانت تلتفت حولها بخوفٍ مفاجئ، سمعت صوت باب المدخل يُفتح.
فتصلب جسدها كله من شدة التوتر، ثم ترددت قبل أن تخرج من غرفة النوم. كان لا بد أن تتأكد أولًا من هو ذلك الشخص.
وحين خرجت إلى غرفة المعيشة، وقع بصرها على جي وون وهو يدخل حاملاً طعامًا مُغلفًا.
“أوه؟”
كان متجهًا نحو المطبخ، ثم التقت عيناه بداجون المستيقظة.
“متى استيقظتِ؟”
“قبل قليل.”
عندها فقط أدركت داجون أن هذا المكان هو شقته.
كانت غرفة النوم غريبةً عنها لأنها لم تدخلها من قبل، أما غرفة المعيشة فبمجرد أن خرجت إليها استطاعت التعرف عليها.
كانت هذه أول زيارةٍ لها منذ ذلك اليوم الذي احترق فيه كل شيء وغمرها اليأس.
مرّت في ذهنها ذكرى ذلك اليوم المزعج سريعًا كأنها مشهد بانورامي عابر. وتعمدت داجون الاقتراب من جي وون لطرد تلك الأفكار.
وبدأ جي وون يفرد الطعام على سطح الطاولة الواسعة.
“ماذا اشتريتَ؟”
“طعام لإزالة أثر الثمالة.”
“ماذا؟”
كان واضحًا من النظرة الأولى أن الطعام المُغلف لا علاقة له بالثمالة، فارتسمت على وجه داجون ملامح الذهول.
“علينا أن نشرب كأسًا آخر، أليس كذلك؟ هذا القدر لا يُعد ثمالةً أصلًا.”
فعقدت داجون حاجبيها بسبب كلامه الغريب.
“من وجهة نظري يبدو حساء سمكٍ مجفف، فهل هناك خللٌ في بصري؟”
توقف جي وون، الذي كان يفتح الأغلفة بعناية، وحدّق في داجون بصمت.
وبسبب نظرته شعرت داجون بالحرج، فمدّت يدها تتحسس وجهها بلا وعي.
“ماذا، هل اتسخ وجهي بشيء؟”
و صرف جي وون نظره، ثم استدار وفتح الثلاجة وأخرج الكيمتشي.
“لو كنتِ تعلمين، فاذهبي واغسلي وجهكِ أولًا.”
“حقًا؟”
“نعم، حقًا.”
في تلك اللحظة شعرت داجون بالخجل، فاندفعت مسرعةً نحو الحمّام.
“سنأكل مباشرة، فاغسلي وجهكِ فقط وعودي.”
صاح جي وون في أثرها، لكنها لم تكن لتسمعه.
دخلت داجون مسرعةً ظانةً أنها دخلت الحمّام، ثم توقفت متفاجئةً حين أدركت أن الغرفة التي دخلتها كانت غرفة تبديل الملابس.
“كنتُ واثقةً أن الحمّام هنا تقريبًا.”
يبدو أن توترها أربكها.
وبينما كانت تهمّ بالخروج من غرفة الملابس، وقعت عيناها على ملابس نسائية معلقة في أحد جوانب الخزانة المدمجة.
كانت الملابس معلقةً بشكل منفصل عن ملابس جي وون، ومع ذلك بدت وكأنها تعود لصاحبة المنزل بشموخ.
وتذكرت أن جي وون، حتى في اليوم الأول الذي جاءت فيه إلى الشقة، كان قد أعطاها ملابس نسائية لا تعرف لمن تعود.
‘هل هي ملابس صديقته؟’
وحين خطرت لها فكرة أن لديه حبيبة، تسللت خيبة أملٍ غريبة لتحتل جانبًا من صدرها.
ثم استغربت داجون من شعورها نفسه وسخرت من ذاتها.
‘لماذا تشعرين بخيبة أمل أصلًا، يا داجون؟’
فلو فكرت في الأمر، لكان غريبًا أكثر لو لم يكن له حبيبة. كان رجلًا جذابًا في نظر أي أحد.
وفوق ذلك، حتى لو لم تكن تعرف حقيقته جيدًا، فهو من الخارج رجلٌ يعمل في شركة شين كيميكال. وليس من المنطقي أن تسيء الفهم لمجرد أنه يركز عليها.
يبدو أنها، بعدما جاءت إلى هنا بلا سند تعتمد عليه، قد اعتمدت على جي وون أكثر مما ينبغي.
وبينما كانت توّبخ نفسها ألّا تختلط عليها الأمور مرة أخرى، خرجت من غرفة الملابس.
وحين خرجت بعد أن غسلت وجهها غسلًا سريعًا كما قال، كان جي وون ينتظر وقد فرش الطعام.
“اجلسي.”
قال ذلك وهو يضع الملعقة أمامها. فاقتربت وجلست طبيعيًا في الجهة المقابلة له.
“هل أنتَ من أحضرني إلى هنا البارحة؟”
“إذًا انقطع شريط ذاكرتكِ تمامًا.”
قال جي وون ذلك وهو يلتقط أول لقمة من طعامه بنبرة جافة.
“……في العادة أجيد الشرب، لكن الويسكي كان أول مرة.”
“إذًا، من الآن فصاعدًا لا تشربي الويسكي.”
“…….”
لم ينزل حساء سمك البولّاك في حلقها بسهولة. و شعرت داجون بعدم ارتياح، فاختلست نظرةً سريعة نحو جي وون.
وكأنه شعر بنظرتها، تحدّث من دون أن ينظر إليها.
“اسرعي في الأكل، يجب أن أذهب إلى العمل.”
“في وقتٍ مبكر إلى هذا الحد؟”
سألت داجون باستغراب وهي تتحقق من الساعة.
“يجب أن أوصلكِ أولًا، لذا عليّ أن أخرج أبكر من المعتاد.”
“آه…….”
كانت تدفع الطعام إلى فمها على مضض، لكن شهيتها لم تكن مفتوحةً فعلًا.
وحين لاحظ جي وون أنها تأكل على استحياء، وضع لها بعض الكيمتشي فوق طبقها.
“إن لم تستطيعي الأكل، خذي على الأقل ملعقةً واحدة أخرى ثم توقفي.”
وبدل أن تجيبه، سألت داجون عن أمر آخر كان يثير فضولها.
“لم يحدث شيءٌ غريب البارحة، أليس كذلك؟”
ويبدو أن جي وون كان على وشك التوقف عن الأكل أيضًا، إذ صب ماءً في الكوب وشرب.
“اتصل بي المدير هان وقال أنكِ ثملتِ، فذهبت لإحضاركِ. أما ما الذي حدث بعدها، فأظن أن من الأفضل أن تسألي المدير هان بدلًا مني.”
“إذًا هذا يعني أنكَ لا تعرف شيئًا؟”
لم يعد يبدو أن لدى جي وون أي معلومةٍ يمكن استخراجها.
“سوى أن لديكِ عادةً سيئة حين تثملين.”
“عادةً سيئة؟ أنا؟”
ارتفع صوت داجون دون شعورٍ منها. لكن جي وون، غير مكترث بذلك، سكب لها الماء بهدوء ودفع الكوب نحوها.
“لذلك أقول لكِ، لا تشربي الويسكي مرةً أخرى.”
رغم أن داجون رأت في كلامه مبالغة غير معقولة، إلا أن الجدية في نبرته جعلتها تعجز عن الرد.
“انهضي الآن، سأوصلكِ.”
ثم قال جي وون ذلك وهو ينهض من مكانه.
***
وأثناء دخولها إلى المنزل، كانت داجون تُجهد عقلها لتختلق عذرًا مناسبًا.
أن تعود في اليوم التالي ثملةً في يوم خطوبتها!
لكن ذلك القلق كان بلا أساس. فلم تكن يوهي موجودة، ولا موهان الذي كان لا يفارقها كظلها، ولا حتى جاهي.
والشخص الوحيد الذي استقبلها عند دخولها المنزل كانت العاملة التي كانت تنظف.
“هل أُحضّر لكِ الطعام؟”
“لا، لقد أكلت.”
ثم نظرت داجون إلى الطابق الأول الهادئ وسألت بفضول.
“هل خرج الجميع؟”
“نعم، الجميع خرجوا، وحتى السيد غادر منذ قليل.”
أي أن العائلة بأكملها غير موجودةٍ الآن، باستثناء داجون ويونغ غيل، بعد استثناء الخدم.
“وماذا عن جدي؟”
توقفت المرأة التي كانت على وشك تشغيل المكنسة، ونظرت إلى داجون من جديد.
“على الأرجح أنه يتناول طعامه.”
“آه……فهمت، حسنًا.”
ابتسمت داجون ابتسامةً محرجة.
وحين نظرت المرأة إليها وكأنها تسأل إن كان بإمكانها العودة لعملها، استدارت داجون لتفسح لها الطريق.
وفي تلك اللحظة بالذات، لاحظت أن باب الغرفة الذي كان مغلقًا دائمًا مفتوح.
ومن خلال فتحة الباب، رأت النافذة في الداخل مفتوحةً على مصراعيها، كما رأت الستائر تتمايل بفعل الريح الداخلة منها.
وحين شعرت المرأة بنظرة داجون، فتحت فمها،
“لقد طلبوا مني أن أنظفها قبل أن يخرجوا، لذلك أقوم بذلك الآن.”
“لكنها فارغة؟”
في تلك اللحظة أدركت داجون أنها زلّت بلسانها، لكن المرأة أومأت برأسها من دون أن تُبدي أي استغراب.
“صحيح، لقد غيّرت غرفتها فجأة، وما تزال تتركها فارغة.”
‘غيّرت غرفتها؟’
هذا يعني أن هذه الغرفة كانت غرفة يوهي. وكانت هذه أول مرة تسمع داجون أن هذه الغرفة كانت تخص يوهي.
فكتمت كلامها حتى لا تقع في زلّةٍ أخرى. وحين اكتفت بابتسامة خفيفة دون أن تؤكد أو تنفي، واصلت المرأة حديثها بلا ترتيب.
“في البداية تعجّبت لأنها انتقلت إلى غرفةٍ أضيق، لكن يبدو أنها حين بدأ الحديث عن زواجكِ شعرت بالاضطراب.”
“نعم…….”
قصة تغيير الغرفة كانت خبرًا جديدًا تمامًا عليها. فمنذ أن دخلت داجون هذا البيت، كانت يوهي تستخدم الغرفة الحالية.
“حتى في ذلك اليوم كنتُ في نوبة الصباح، لكن الغرفة كانت قد تغيّرت بالفعل.”
“إذاً هكذا كان الأمر.”
ابتسمت المرأة ابتسامةً ودودة.
“اقضي معها وقتًا أكثر قبل الزواج.”
“سأفعل ذلك.”
و عندما أجابت داجون بسهولة، تحدّثت المرأة بنبرة اعتذار.
“تدخّلت فيما لا يعنيني.”
“لا بأس.”
“يبدو أنني أتأثر أكثر لأن لدي ابنة.”
“لديكِ ابنة؟”
“نعم، ما تزال صغيرة. ولا يزال أمام زواجها وقتٌ طويل.”
ابتسمت المرأة، فبادلتها داجون الابتسامة، لكن صدرها ضاق بلا سبب. فقد تداخل وجه المرأة مع وجه لي سوك في ذهنها.
“وبما أن للسيدة ابنةٌ واحدة فقط، فلا بد أنها تشعر بهذا أكثر.”
“……نعم.”
“آه، ما الذي أقوله وأنا أحتجز الآنسة في الحديث هكذا.”
ابتسمت المرأة ابتسامةً محرجة. أما داجون التي ابتسمت معها، فقد كان طعم ابتسامتها مرًّا.
كان هناك وقتٌ اعتادت فيه أكثر على رؤية لي سوك تبتسم هكذا وهي تنظر إليها وجهًا لوجه، لا وهي مغمضة العينين بملامح جامدة.
لكن ذلك الزمن بات يبدو الآن كأنه ماضٍ سحيق.
في كل مرة تذهب فيها مع جي وون إلى المستشفى وترى عيني لي سوك لا تزالان مغمضتين، كانت موجات القلق تجتاح صدرها فجأة.
هل تأخر العلاج كثيرًا؟ ألن تفتح عينيها أبدًا؟
كلما راودتها تلك الأفكار، كان جي وون يؤكد لها أنه يبذل كل ما في وسعه من وسائل علاج. وكانت داجون تتقبل كلماته على أنها ربما طريقته في المواساة.
ورغم أن لي سوك في حالةٍ لا تستطيع فيها التحدث، كانت داجون تحاول أن تتكلم بمرحٍ وتثرثر كثيرًا، لعل صوتها يصل إليها، وكان جي وون ينظر إليها بنظرةٍ غريبة في كل مرة تفعل ذلك.
في الأيام التي تعود فيها من زيارة لي سوك، كانت داجون تقلّ كلماتها. فمشاهدة لي سوك التي لا تتحسن حالتها كانت مؤلمة.
ومع ذلك، فإن كونها قادرةً على فعل شيء من أجل لي سوك كان يمنحها عزاءً غريبًا لا تفسير له.
زفرت داجون نفسًا عميقًا كي لا تغرق في الكآبة.
لا ينبغي لها أن تنهار على هذا النحو. فهي الوحيدة التي تملكها لي سوك، ولا يجوز لها أن تضعف.
أعادت المرأة تشغيل المكنسة وبدأت التنظيف من جديد. أما داجون، فصعدت بهدوءٍ إلى غرفة الطابق الثاني حتى لا تعيق عملها.
وحين دخلت الغرفة وألقت بجسدها المتعب على الأريكة، رنّ صوت إشعار في هاتفها.
“<هل وصلتِ إلى البيت بسلامٍ أمس؟>”
كان من تشا شين. وفي تلك اللحظة انقبض صدرها كأنها ارتكبت ذنبًا. فقد تبخرت كل ذكريات الأمس من رأسها، ولم تعرف ماذا ترد.
لكنها كانت قد قرأت الرسالة بالفعل، ولا يمكنها تجاهلها، فبعثت إليه ردًا مبهمًا تسأله فيه إن كان قد وصل بسلامٍ أيضًا.
فجاءها الرد كأنه كان ينتظر.
“<وصلتُ بسلام. لا أنا ولا سايو نثمل بهذه السهولة أصلًا.>”
“هاه؟”
تذكرت فجأةً أن جي وون قال لها كلامًا مشابهًا، فمالت داجون برأسها في حيرة.
و عندما لم ترد، أرسل تشا شين رسالةً أخرى يسأل فيها إن كان بإمكانه الاتصال. وحين أخبرته بالموافقة، جاءها اتصاله على الفور.
و كان أول ما فعله تشا شين في المكالمة هو الاعتذار. قال أنها مزحةٌ ثقيلة من الأصدقاء، وإنه يعتذر لأنه اضطرها لتحملها، بل ووعدها بأنها ستكون الأولى والأخيرة.
كانت داجون تستمع إلى اعتذاره، لكنها لم تكن قادرةً على التركيز بسبب حديث جي وون عن عادتها حين تثمل.
ترددت بين أن تسأله أو لا تسأله عشرات المرات في داخلها، لكنها في النهاية أضاعت التوقيت المناسب للسؤال.
التعليقات لهذا الفصل " 26"