لم يدم ارتباك جي وون طويلًا؛ فسرعان ما شرع يمسح شعره المبتلّ بمنشفةٍ كأن شيئًا لم يحدث.
“سأرتدي ثيابي وأنزل حالًا، هلّا تنزلين إلى الطابق الأول وتنتظرينني هناك؟”
و داجون، التي تجمّدت في مكانها بلا حراك، سحبت نفسًا طويلًا كأن سحرًا انحلّ عنها.
“نـ….نعم! سـ، سأ…..سأنتظركَ في الطابق الأول..…”
كانت قد اعتادت رؤيته ببدلته المهندمة ومظهره المصقول، ولذلك حين رأته بلا قميص، اختلط عليها كل شيء.
تمتمت بإجابةٍ مضطربة ثم هرعت مبتعدة. وكانت خطواتها على الدرج مستعجلة، وكلما أحسّت بنظراته في ظهرها أسرعت أكثر.
‘مـ….ما هذا.…! يمشي بلا أي ثياب.’
نزلت داجون إلى الطابق الأول، وضغطت يدها على صدرها محاولةً تهدئة نبضها.
عندها فقط توصّلت إلى نتيجة: الغريب لم يكن كونه بلا قميص، بل كونها هي من اقتحمت مساحته الخاصة دون إذن.
و بتردد، جلست على الأريكة في وسط غرفة المعيشة. وقدا بدا الصمت الذي لفّ البيت خانقًا، يثير فيها حرجًا بلا مبرر.
وحين بلغت ذروة ما يمكنها احتماله من غربة الجو، نزل هو.
“كنت أفكّر بطريقةٍ للتواصل معكِ.”
التفتت داجون إلى مصدر الصوت عند السلم.
“فلم أستطع الوصول إلى هاتفكِ.”
“يبدو أنني فقدته البارحة.”
ربما منذ لقائها بمرابي المال. لم تنتبه داجون لضياع هاتفها إلا ذلك الصباح.
“بل هو أمرٌ جيّد.”
“جيّد؟ كيف؟”
سألت بدهشة، فأوضح جي وون،
“على أي حال، لا يمكنكِ الاستمرار باستخدام هاتفكِ القديم. سأشتري لكِ واحدًا اليوم. من الآن فصاعدًا ستستخدمين ذلك الهاتف.”
“أه…..”
بهذا تكون كل الأرقام التي عرفتها سابقًا قد اختفت. أرقام أصدقائها، وأماكن عملها المؤقتة…..
لم يبقَ رقمٌ تحفظه عن ظهر قلب. وبالمثل، لم يعد أحدٌ يستطيع الوصول إليها.
“سأضع في هاتفكِ رقمي ورقم العائلة.”
ارتبكت داجون قليلًا من كلمة “العائلة”.
“ورقم مدير الشؤون، هان تشا شين.”
فرفعت داجون بصرها إليه.
“صحيح…..يجب أن أكون على تواصل مع ذلك الرجل قبل الجميع. هذا هو دوري في النهاية.”
لكن جي وون لم يجب. و تجاهل كلامها كما لو أنه لم يسمعه أصلًا، وتابع،
“قلتِ أن بطاقتكِ ضاعت أيضًا، لذا ستصدر لكِ بطاقةٌ جديدة قريبًا. استخدميها لشراء ما تحتاجينه.”
“واو، حتى بطاقة؟”
لكن صوتها كان خاليًا من أي فرح، فارتفع حاجب جي وون قليلًا.
“ما زال الوضع لا يعجبكِ، أليس كذلك؟”
“ليس…..مبهجًا تمامًا.”
“لكن عليكِ تقبّله.”
“لقد تقبّلتُه، ولهذا….لهذا أنا هنا أمامكَ.”
“هذا جيد.”
رغم نبرة داجون المتجهمة، لم يُعرها جي وون اهتمامًا.
“رجاءً، أوفِ بوعودكَ.”
شدّت داجون عينيها وكأنها تأخذ منه عهدًا، فأومأ.
“سأفي، طالما لم تخلّ أنتِ.”
“إذاً…..أنا موافقة.”
“حسنًا.”
استدار كمن أنهى كل ما لديه، أما داجون فبقيت جالسة.
وعندما شعر بنظراتها عليه، توقف متسائلًا وهو يلتفت إليها بعبوسٍ معتاد.
“هل هناك شيءٌ آخر؟”
“قال لي والدكَ…..أن نتناول الطعام معًا.”
“طعام؟ والدي؟”
هذه المرة ظهرت الدهشة واضحةً على وجهه.
“نعم. لذا…..سنأكل معًا.”
بدت ملامحه وكأنه تلقى معلومةً غير متوقعة على الإطلاق. فابتسمت داجون بخفة، وارتفعت أطراف حاجبيها بنعومة.
“للعلم…..أنا دائمًا أتناول الفطور. لا أفوّته أبدًا.”
“…….”
“وفطور الشخص لوحده…..بات مملًا. يذكّرني بأمي….ويجعلني أشعر بالسوء.”
استبقت داجون أي محاولةٍ للرفض. و لم تترك له الفرصة ليقول أنه لا يأكل صباحًا، أو أنه لا رغبة له الآن.
هي مضطرةٌ للبقاء، لكنّها قررت أن تتأقلم بالكامل. تلك هي نا داجون، بقوةٍ تكيفها الغريبة وحساسيتها الاجتماعية التي لا تخذلها.
ورغم أنه كان غامضًا ولا يروق لها تمامًا، فإن الشخص الوحيد الذي يمكنها الاعتماد عليه الآن هو جي وون، لذلك قررت أن تحاول التقرب منه.
ألم يقولوا: صديقكَ قريبٌ وعدوكَ أقرب؟ ولأنها لا تعرف إن كان صديقًا أم عدوًا، فقد قررت أن تقترب منه.
“ما دمتَ ستأكل، فلنأكل معًا.”
نظر جي وون إلى داجون بملامح يغمرها الذهول قليلًا.
ظل يحدق بها طويلًا ثم تنهد مستسلمًا. وبعد لحظات، اتصل بشخصٍ ما طالبًا أن يُحضَر لهما طعام لشخصين.
ويبدو أنه اتصل بأحد العاملين في مطبخ المبنى الرئيسي.
“هل أنتِ راضيةٌ الآن؟”
“نعم. ما قائمة الطعام؟”
“لم أسأل عن ذلك.”
“حسنًا، سنعرف عندما يصل.”
“…….”
لم تكن داجون تعلم أن تناول الطعام في المبنى الملحق كان أمرًا يحدث لأول مرةٍ بالنسبة لجي وون.
ثم جلس جي وون أمامها في توترٍ ظاهر.
“هل يمكنني أن أسألكَ شيئًا؟”
“وإن قلتُ لكِ لا تسألي، ستسألين على أي حال.”
يبدو أنه صار يفهمها قليلًا بعد أن رآها عدة مرات.
ففتحت داجون فمها بنبرة تحاول جعلها خفيفة قدر الإمكان.
“لماذا لا يعرف أحدٌ أنني نا داجون الحقيقية؟”
حاولت أن تسأل كأن الأمر عادي، لكن النتيجة كانت فاشلة تمامًا. فمع خدّها المتورّم وشفتيها المشقوقتين لم يكن بإمكانها إخفاء شيء.
“وكيف ما حدث أمس تحوّل فجأة إلى حادث سير؟”
بلا أي إجابة، نظر إليها جي وون مطولًا. ثم ردّ بلهجة فاترة وكأنه يلقي بكلماتٍ مبعثرة.
“إحضاركِ أمس لم يكن ضمن الخطة. لكن والدي يعلم. أما بالنسبة للمديرة……فسوف نخبرها قريبًا.”
“……فهمت.”
وصل الطعام في تلك اللحظة، فلم يعد بإمكانها متابعة الأسئلة.
***
“ماذا؟”
كان ذلك رد فعل تشا شين على الجملة الأخيرة التي رواها جونغ يول وهو يسرد جدول العمل.
“قلتُ أن هذا هو جدول اليوم بالكامل.”
كان جونغ يول يفصل تمامًا بين العمل والحياة الشخصية؛ ففي الشركة يعامل تشا شين كمديره بكل رسمية، بينما يعود ليكون صديقه في المناسبات الخاصة.
“لا، الجملة التي قبلها.”
ارتعش حاجبا جونغ يول عند ذكر “الجملة التي قبلها”.
“تقصد السيد كيم سايو؟”
“نعم، هذا بالضبط!”
“وصل اتصالٌ منها، وقد بلغتُها بما أمرتَ به سابقًا: أن اللقاء القادم تتركه للسيدة كيم سايو لتقرر موعدها.”
حدّق تشا شين في جونغ يول بعينين ضائعتين، متسائلًا إن كان قد أصدر فعلًا مثل هذا الأمر.
وبالعودة إلى ذاكرته، وجد أنه أصدره بعد لقائه الأول الشكلي مع سايو. تلك المرأة التي جلست كدمية، لا تفعل شيئًا سوى الجلوس، جعلته يتساءل ما الذي عليه فعله معها في اللقاء التالي.
وعندما بدأ جونغ يول يسأله بعد المقابلة، رمى تلك الجملة بلا أهمية تُذكر. بدا وكأنه يهتم، لكن الحقيقة أنه كان متضجرًا فحسب.
إلا أن هناك أمرًا غريبًا: لماذا اتصلت بالشركة؟
“لماذا اتصلت بالشركة؟”
ولم يكن جونغ يول يعرف الجواب هو الآخر.
“سؤالٌ وجيه.”
“ألا تعرف رقمي.”
“ألم تتبادلا الأرقام؟”
“تبادلناها. ربما أضاعته.”
“إن كانت لا تعرفه أو أضاعته فهناك جوابٌ واحدٌ فقط.”
“وما هو؟”
“أنها غير مهتمة، غير مهتمةٍ إطلاقًا!”
“ماذا؟”
أطلق تشا شين ضحكةً قصيرة كأنه سمع أسوأ نكتة في العالم.
“أظن أن ذلك مستبعدٌ جدًا.”
كان في نبرة صوته ثقةٌ تتقاطر، فدار جونغ يول بعينيه وقد اعتاد ذلك منه.
“بالنسبة لشخصٍ يخدم مديرًا مثلكَ، فأنا من عليه أن يجد الأمر صعبًا، لا هي.”
“السكرتير بارك، يبدو أنكَ ترغب في العمل الإضافي اليوم أيضًا؟”
عند كلمات تشا شين، بدّل جونغ يول نبرته بابتسامةٍ فورية.
“لا توجد امرأةٌ في هذا العالم تستطيع مقاومة جاذبية المدير. فهذا أمرٌ طبيعي كطلوع الصباح بعد الليل.”
كان المديح الفج أشبه بسخريةٍ ثقيلة جعلت ملامح تشا شين تنقبض في انزعاج، بينما ظل جونغ يول واقفًا ببراءةٍ مصطنعة.
“بارك جونغ يول، توقف.”
“أنتَ من بدأ أولًا يا مدير.”
كان إصرار جونغ يول على عدم الخسارة مضايقًا، فنظر إليه تشا شين بحدة ثم تجاهله وسأل شيئًا آخر.
“وماذا عن الموعد؟”
“قالت أنها ستتصل مرة أخرى.”
“على رقم الشركة؟”
“لم أسأل عن ذلك.”
لم يعجبه ذلك الاهتمام الغريب، لكنه لم يستطع فعل شيء.
فمنذ أن اختفت المرأة من المستشفى دون كلمة، ظل يشعر بقلق غريب. وكذلك لقاء جي وون في الاستراحة على الطريق ترك أثرًا آخر.
تساؤلاتٌ فوق تساؤلات جعلته فضوليًا على نحوٍ مريب عمّا يجري بينهما.
لم يكن تشا شين من النوع الذي يمنح اهتمامًا كبيرًا للآخرين. حتى مع امرأة قد تصبح خطيبته، لم يكن مختلفًا.
تعامل معها بأدب، لكنه ظل يراقب الوقت في لقائهما الأول. وهذا وحده يوضح كم كان يشعر بالملل.
لكن اللقاء الثاني، أي في الجنازة، غيّر شيئًا. أصبح فضوليًا تجاهها.
ما الذي جعل عينيها العسليتين اللطيفتين، التي كانت تموج بالمشاعر، تخمد وتغدو معتمةً خلال ساعاتٍ قليلة فقط؟ لم يخطر بباله قط أنه قد ينشغل إلى هذا الحد بشخصٍ بعد ثلاث لقاءاتٍ فقط.
“ولم تقل متى ستتصل؟”
“لم تقل.”
وعندما ظهرت علامات الضيق واضحةً على وجهه، قدّم جونغ يول حلًا كأنه طوق نجاة.
“اتصل بها أنتَ أولًا.”
كان الأمر بسيطًا في الواقع. بدل الانتظار، كان بإمكانه فعلًا الاتصال كما قال جونغ يول.
لكن بما أنه قال لها أن تحدد هي موعد اللقاء المقبل، فقد أصبح متشوقًا لمعرفة كيف ستتصرف. و الاتصال الآن لن يكون خيارًا جيدًا.
“بما أنها قالت حسنًا، فستتصل في وقتٍ ما.”
كان جوابه الخفيف غريبًا حتى أن جونغ يول بدا عليه الذهول.
“قد يستغرق ذلك وقتًا طويلًا جدًا.”
“حتى لو كان كذلك.”
“يعني أنكَ ستنتظر؟”
“لا.”
قطع تشا شين فضول جونغ يول بجملة حازمة.
“كفى حديثًا عن هذا. لنعمل، هيا! إن كنتَ لا تريد ساعاتِ عمل إضافية.”
فتمتم جونغ يول بشكوى خافتة عن أنه دائمًا يهدده بالعمل الإضافي إذا نفذ الكلام، لكن تشا شين تجاهل ذلك.
“متى ستتصل يا ترى.”
وبهذه الجملة التي خرجت منه بلا قصد، عاد تشا شين إلى عمله.
***
عندما دخلت لأول مرة مكان سايو كبديلة، كانت داجون تعتقد أن حياتها ستتحول لمشهدٍ درامي متواصل.
لكن باستثناء لقائها بالجد المصاب بالزهايمر، لم يحدث شيءٌ استثنائيٌ حقًا.
وظنت أنها ستلتقي تشا شين، الذي يُقال أنه قد يخطب سايو، ليلًا ونهارًا، لكن ذلك لم يحدث. ولعاشت كسايو تحت توتر دائم في المنزل، لكنها لم تحتج لذلك أيضًا.
كانت حياتها اليومية أكثر عاديةً وهدوءًا مما توقعت.
كان يونغ غيل يبدو في غاية التهذيب والترتيب لدرجة يصعب تصديق أنه مصابٌ بالخرف. ولم تشعر داجون بمرضه إلا من خلال وجود اثنين يلازمانه كالظل: السكرتير تشوي والممرضة كو.
بل إن عيني يونغ غيل كانتا في بعض اللحظات تتلألآن بحدةٍ ذكاء لافتة. وكانت داجون تشعر أنه حين كان بصحةٍ جيدة، فلا بد أن وجوده في هذا العالم كان مهيبًا.
ما أدهشها حقًا هو أول شيء قاله عندما نظر إليها.
“أنتِ لستِ سايو.”
“نعم؟”
“لستِ سايو.”
“…….”
في تلك اللحظة اتسعت عينا داجون من الصدمة، بينما ظل السكرتير تشوي والسيد كو هادئين كأنهما اعتادا ذلك.
نظر يونغ غيل إليها طويلًا كأنه يعرف الحقيقة، ثم اختفى البريق الحاد من عينيه.
“أنا جائع. أحضروا الطعام.”
“نعم، نعم. سنحضره حالًا، تماسك قليلًا يا رئيس!”
اختفت الممرضة كو إلى المطبخ لتجهز الوجبة، وبقي يونغ غيل والسكرتير تشوي وداجون وحدهم.
التعليقات لهذا الفصل " 12"