1
كان يومًا ماطرًا بشدة. و كانت تلك أول مرةٍ أرى فيها جدتي في حياتي، لكن اللقاء الأول كان في دار العزاء، يا لها من سخرية.
كانت الجدة مرتديةً كفنًا ناعمًا ومكياجًا خفيفًا على وجهها حين أُودعت في التابوت.
ولأنني رأيتها لأول مرة عندما كانت عيناها مغمضتين، فسيبقى هذا المشهد هو الصورة الوحيدة التي ستظل محفورةً في ذاكرتي، ولن أستطيع يومًا أن أستحضر وجهها وهي حية.
وحدها صورة الجنازة، بابتسامتها الغامضة التي لا تُفهم، كانت توحي ببعض ملامحها في حياتها.
راقبت داجون أفراد العائلة الذين يستقبلون المعزين، بوجهٍ يحمل مزيجًا من المشاعر.
لم تكن قادرةً بعد على تمييز من هم أفراد أسرتها بالضبط، إلا أن بعض الوجوه كانت مألوفةً بوضوح.
أمها البيولوجية، التي ما زالت تحتفظ بجمالها الرقيق وضعفها الطفولي. وزوج تلك الأم، ثم الرجل الذي يشبهه إلى حدٍّ كبير…..جو جي وون.
ذلك الرجل هو من جلب داجون إلى هذا المكان.
حدّقت داجون في وجهه الجامد الخالي من التعابير، كما لو أنه يرتدي قناعًا.
“الأشخاص الذين يعرفون بوجودكِ يا نا داجون، بمن فيهم أنا، قلةٌ نادرة.”
تلك كانت أول جملةٍ قالها لها. ثم توالت كلماته، لتصدمها صدمةً جعلت عقلها يكاد يتجمد.
***
“إذًا…..ما تحاول قوله هو أن والدتي كانت أمًّا بديلة؟”
“صحيح.”
“وأن لي أختًا توأمًا؟”
أخرج جي وون صورةً لامرأةٍ تشبهها تمامًا، وكأنه يريد أن يؤكد كلامه.
بدأت داجون تتصفح الصور بيدٍ مرتجفة، وكلما قلبت ورقةً أخرى شحب وجهها أكثر فأكثر.
الفرق الوحيد كان الشعر الطويل الذي يصل حتى أسفل الصدر. كانتا متطابقتين إلى حدٍ يجعل من السهل القول أنهما الشخص نفسه.
صحيح أن المرأة في الصورة بدت أكثر أنوثةً ورقة، لكن الفرق كان طفيفًا جدًا، يصعب ملاحظته ما لم يعرف المرء إحداهما جيدًا.
“وكيف تأكدت من أننا توأم؟”
ابتسم جي وون بخفة، وكأنه كان ينتظر هذا السؤال منذ البداية.
“لقد أجرينا فحص الحمض النووي بالفعل.”
“ماذا؟”
ما الذي حدث دون علمها؟
نظرت داجون إليه مذهولة، وقد فقدت القدرة على النطق من هول الموقف.
“لم يكن من السهل معرفة الحقيقة. كان الأمر يتم بسريةٍ تامة بأمر من رئيس العائلة، ولم يكن يعرفه سوى قلةٍ قليلة من أفرادها المقربين. وفوق ذلك، كان علينا أن نجد الطبيب الذي اختفى في ذلك الوقت بصعوبة بالغة-”
“انتظر! لحظةً واحدة فقط!”
قاطعت داجون حديثه، فتوقف على الفور، ونظر إليها بدهشة.
كانت نظراتها مليئةً بالارتباك، وكلما سمعت أكثر زاد اضطرابها حتى شعرت أن رأسها سينفجر.
“أنا لا أفهم أي شيءٍ مما تقول.”
تنهد جي وون بهدوء، ونظر إلى ساعته. ثم بعد لحظة تفكير، بدا وكأنه استسلم، فأشار إلى المقعد المقابل له و وهو يربّت على فخذه بإصبعه،
“اجلسي أولًا.”
لكن الجلوس لم يكن أبدًا ما يشغلها الآن، فردّت بحدة وهي تحاول كبح انفعالها،
“وهل الجلوس مهمٌ الآن؟”
“نعم، لأنكِ بحاجةٍ إلى الهدوء.”
نظرت إليه مذهولة من بروده، لكنه لم يتزحزح، بل ظل ينتظرها بصبرٍ وثبات.
بدا واضحًا أن عناده لا يُستهان به. و شعرت داجون بضيقٍ في صدرها من هيبته التي لم تعرفها إلا منذ ساعةٍ واحدة، فعضّت شفتها السفلية.
لكنها لم تكن أقل عنادًا منه. ومع علمها أن الجدال بلا جدوى، حدّقت فيه بكل قوتها بعينين مليئتين بالتحدي.
التقت نظراتهما في منتصف المسافة، فابتسم جي وون بخفة.
“هل تريدينني أن أنهض إذًا؟”
وعندما لم تُجب، وقف واقترب منها خطوةً بخطوة. كان أطول مما ظنت، فوجدت نفسها تتراجع غريزيًا خطوةً إلى الوراء.
“لا داعي لأن تكوني حذرً هكذا. لن أؤذيكِ أبدًا. كل ما أريده هو أن أنفعكِ لا أن أضركِ.”
“نفعٌ أو ضرر، لا أعلم شيئًا بعد، لأنني لا أفهم كلمةً مما تقول.”
“أتفهم ذلك. لو كنتُ مكانكِ لشعرت بالذهول نفسه.”
تحولت نظراتها إلى الريبة وهي تتجنب عينيه. و لم تعرف من أين تبدأ أو ماذا تسأله أولًا.
“دعينا نغير طريقة الحديث.”
‘نغير؟ ماذا؟’
رفعت رأسها إليه في حيرة. بينما كان يتحدث بهدوءٍ تام بينما يحدّق في وجهها المتجهم.
“اسألي أنتِ، وسأجيب أنا. ما رأيكِ؟”
ضحكت بسخرية، فأكمل هو بتوضيحٍ أكثر رقة،
“سأجيبكِ سؤالًا بعد سؤال، إلى أن تفهمي كل شيء. حسنًا؟”
كانت ملامحه للوهلة الأولى تبدو هادئةً ورقيقة، لكن حين نظرت إليه عن قرب أدركت كم كانت عيناه حادتين.
ربما كانت نظارته هي ما منحت وجهه ذلك الهدوء المضلل. فقد ابتسم ابتسامةً لطيفة، لكن عينيه ظلّتا جامدتين بلا دفء. و أثارت تلك المفارقة قلقها ودفعتها للحذر أكثر.
“جيد. فلنبدأ الحديث عن أمي.”
“عن أي أمٍ تريدين أن نتحدث؟”
تشنجت ملامح داجون عند سماع تلك العبارة. و التقط جي وون ذلك على الفور، وأكمل ببرودٍ لا يخلو من تفهم،
“لابد أنكِ مشوشة. حتى أنا لم أصدق وجودكِ في البداية.”
وحين عجزت داجون عن الرد، أطلق جي وون تنهيدةً طويلة، وبدأ يسرد الحقيقة دفعةً واحدة.
“الشخص الذي كنتِ تظنينه حتى الآن والدتكِ، من الناحية الجينية، لا يربطكِ بها سوى القليل، بل تكاد تكون غريبةً عنكِ.”
‘غريبة؟’
شحب وجه داجون أكثر، والصدمة لم تخفّفها إعادة التوضيح بل عمّقتها.
“لقد باعت رحمها فحسب، أما كل ما تحملينه من صفاتٍ ودم وجينات فهو من والديكِ البيولوجيين.”
“هذا غير معقول! كم هو مقزز!”
“لكن من تلك الفوضى المقززة وُلدتِ أنتِ وأختكِ التوأم، نا داجون.”
حدّقت داجون في جي وون بعينين تومضان غضبًا حادًا كالشفرة.
“حين تلتقين بها، ستكتشفين كم تشبهين أمكِ الحقيقية إلى حدٍّ مدهش.”
“وأيُّ أمٍّ تقصد بالضبط؟”
قالت داجون ذلك بسخرية، لكن جي وون قابل نظرتها بعينين ثابتتين ونبرةٍ باردة تتخللها لمحة تفهم.
“الحقيقة دائمًا قاسية.”
“يبدو أنكَ تستمتع بهذا، أليس كذلك؟”
لم يُجبها، بل ظلّ صامتًا يحدّق بها مطولًا. لم يكن صمته تهرّبًا، بل حذرًا متعمّدًا حتى لا يستفزها أكثر.
“ليس في الأمر أي متعة. لو لم يكن الوقت ضيقًا، لكنتُ انتظرت أيامًا…..بل شهورًا لأشرح لكِ كل شيءٍ بهدوء. لكن للأسف، الوقت ليس في صالحنا، لا أنا ولا أنتِ.”
ضحكت داجون بمرارة.
“الوقت ليس في صالحكَ أنتَ، لستُ أنا من تُلاحِق.”
ولم يُنكر جي وون.
“صحيح، لكن على الرغم من اختلاف الأسباب، فالوقت ليس في صالحكِ أيضًا.”
تشنج جسدها. كان محقًا. فالأم التي وصفها ببرودٍ بأنها “شبه غريبة” كانت قد تعرّضت قبل أيامٍ فقط لحادث دهس وفرار.
خضعت لعمليةٍ عاجلة، لكنها ما تزال فاقدةً للوعي حتى الآن. تكاليف العملية الهائلة وتزايد فواتير العلاج اليومية تجاوزت كل قدرة داجون على التحمل.
المستشفى طالبها بدفع تسويةٍ مؤقتة، لكنها لم تكن تملك سوى الفتات، وفي خضم يأسها ظهر هذا الرجل فجأة.
والأسوأ من ذلك أن أمها، نا لي سوك، كانت بحاجةٍ إلى عمليات إضافية بعد تلك الجراحة المستعجلة. التأجيل كان يعني موتها المحتوم دون أن تفتح عينيها مجددًا.
كانت لي سوك قد عاشت قبل ولادة داجون مع أمها فقط، لكن أمها توفيت باكرًا، فتركت ابنتها وحيدةً في العالم.
ومنذ ذلك الحين، لم تعرف لي سوك سوى الوحدة حتى جاءت داجون، لتصبح كلّ عالمها، كما أن لي سوك كانت هي كلّ ما تملكه داجون.
“صحيح، أنا بحاجةٍ إلى المال. عليّ أن أنقذ أمي.”
ابتسم جي وون ابتسامةً خفيفة، وكأنه أخيرًا بدأ يرى خيطًا للتفاهم بينهما.
“تحتاجين إلى المال، ونحن نحتاج إليكِ يا نا داجون.”
قال ذلك بنبرةٍ حاسمة لا تحتمل جدالًا، كأن النتيجة قد حُسمت سلفًا.
لكن الأمور كانت غريبةً جدًا، وكل ما حولها يثير الشك. و أكثر ما أزعجها هو ذلك الهدوء البارد الذي كان يتحدث به عن قصةٍ قادرة على نسف حياتها من جذورها.
“أنتَ لا تُعجبني.”
“مؤسف، لأنني أجدكِ على العكس تمامًا…..مثيرةً للاهتمام.”
ابتسم أخيرًا ابتسامةً حقيقية، فاتسعت عيناها قليلًا، كانت تلك المرة الأولى التي تراها فيها داجون يضحك.
لكنها، بدلًا من الارتياح، شعرت برغبةٍ جارفة في لكمه. غير أنها كانت تعلم أن الانفعال الآن خطأٌ قاتل. فقد كان عليها أن تُبقي عقلها صافياً، لتفهم مكاسب هذه الصفقة وخسائرها، وتعرف كيف تخرج منها بأقل ضررٍ ممكن.
“حسنًا، فلأسمع على الأقل سبب حاجتكم إليّ.”
لمعت عينا جي وون للحظة، وكأنه تفاجأ بتغيرها المفاجئ من الذهول إلى الهدوء. و بدت له مثيرةً للإعجاب أكثر مما توقع.
“مذهلٌ فعلًا.”
قال ذلك دون مواربة، فابتسمت بسخرية وهي ترد،
“وهل هناك ما هو أدهى من هذا؟”
أومأ برأسه موافقًا، قبل أن تنظر إليه داجون وتسأله سؤالها التالي.
“سبب حاجتكم إليّ؟ لا أفهمه إطلاقًا. فليست أمي أو أبي الحقيقيان هما من جاؤوا لرؤيتي بعد كل هذا الوقت، بل أنتَ، شخصٌ لا أعرفه، ولا أعرف حتى لماذا ظهرتَ الآن.”
“محقّة.”
أجابها جي وون بنبرةٍ هادئة لا تخلو من برود.
“لم يقل أحدٌ أنه يريد رؤيتي، أو أنه مصدومٌ أو متأثر أو حتى أنه أبي أو أمي. كل ما أسمعه منكَ هو أنكَ ‘تحتاج إليّ’، ولا أفهم حتى معنى ذلك.”
“وما الذي يثير فضولكِ أيضًا؟”
“أليس من المفترض، حين يُعثر على ابنةٍ ضائعة، أن يكون اللقاء الأول لقاءً مليئًا بالدموع والعناق؟”
“عادةً، نعم.”
“ثم..…”
لم تكمل جملتها، إذ بدأت مشاعرها تتصاعد بلا إرادة منها.
كانت تظن أنها تماسكت، لكنها كانت مخطئة. مع كل كلمة، كانت مشاعر الغضب والضيق تتدفق في صدرها كبركان.
“ثم ماذا؟”
سألها جي وون بصوتٍ هادئ يشجّعها على المتابعة، لكن تلك النبرة اللينة جعلتها تغلي أكثر، فحدّقت فيه بغضبٍ حاد.
“كنتُ أسأل سؤالًا واحدًا، وأنتَ، أعني..…”
“جو جي وون.”
“صحيح، السيد جو جي وون. ألسنا متفقين أن تجيب على أسئلتي؟”
“بلى، لكن المشكلة أن أسئلتكِ لا يمكن الإجابة عنها بجملٍ قصيرة.”
بدا عليه أنه ما زال يحاول جاهدًا ألا يثير أعصابها، وكانت تدرك ذلك، لكنها لم تستطع تجاهل الانزعاج الذي تشعر به.
لم تعد تعرف إن كان ذلك الهدوء منه نابعًا من لطفٍ حقيقي، أم أنه مجرّد طريقةٍ مدروسة لتحقيق مصلحته التي تحدّث عنها.
“أريد الحقيقة فقط، بأكبر قدرٍ ممكن من الدقة.”
ارتسمت ابتسامةٌ خفيفة على شفتيه سرعان ما تلاشت. و بدا أن شيئًا في داجون أثار اهتمامه.
“كما تشائين يا نا داجون. سأكون صريحًا قدر الإمكان.”
ثبت نظره عليها و تحدّث بوضوح،
“والداكِ الحقيقيان لم يظهرا لأن وجودكِ، كما ذكرتُ سابقًا، لا يعرفه سوى قلةٌ قليلة جدًا، وأنا أحدهم.”
“ولماذا لم يُعلن الأمر بشكلٍ واضحٍ إذًا؟”
“لأن والدكِ البيولوجي توفي.”
“ماذا؟”
ظنّت داجون أن لا شيء يمكن أن يفاجئها بعد الآن، لكن جسدها تجمّد من الصدمة.
“تـ…..توفي؟”
“نعم.”
قال ذلك ببساطة، كما لو أنه يقدّم لها الحقيقة خالصةً دون زخارف، كما طلبت. وانتظر بصمتٍ حتى تستوعب وقع الخبر.
بقيت داجون صامتة، لا تنطق بكلمة.
كانت لطالما تشعر أن وراء صمت أمها إزاء أي سؤالٍ عن أبيها سرًا غامضًا، لكنها لم تتخيل أن الحقيقة ستكون بهذه القسوة.
لم يخطر ببالها يومًا أن هناك “أمًا أخرى” في مكانٍ ما، لذا انحصرت تساؤلاتها دائمًا حول الأب وحده.
من يكون؟ كيف كان شكله؟ ما طباعه؟ هل كان سيفرح لو رآها؟
على مرّ السنين التي عاشتها من دونه، كانت تلك الأسئلة تتراكم في قلبها. أما الآن، وقد حان الوقت أخيرًا لتعرف من هو، فقد فاتها الأوان تمامًا—فلم يعد ثمة من يمكن أن يجيب.
___________________
وش الصدمات ذي من اول فصل تحت شوي شوي حتى ماقلنا السلام😂
الغلاف حلو والقصه عجبتني والاسم واو بس ماتوقعت كذا صدق دراما بس عادي هاعا
اول سي لازم تعرفونه الي جاي يتلكم معها الحين مب البطل ذاه اخوها😘 البطل في الجايات ومره غريب زي غرابة الروايه
المهم وضع الروايات العصريه عجبني بعد سيان وجوون فاخترت ذي عشان غلافها وفصولها قصيره وكلش✨
وذي حساباتي عشان اثبات الوجود وكذا
انستا: dan_48i توتر: Dana_48i تلقرام: dan_xor
Dana
Chapters
Comments
- 5 - سأتوقف عن هذا منذ يومين
- 4 - أول لقاء مع ذلك الرجل منذ يومين
- 3 - جاء لرؤيتكِ منذ يومين
- 2 - لأنكِ يجب أن تحضري كأختكِ منذ يومين
- 1 - جنازة الجدة منذ يومين
التعليقات لهذا الفصل " 1"