أجابت آدورا بهدوء أنّه بدا في غايةِ الصحة، وأضافت أنّه يبدو وكأنّه تماثل للشفاء إلى حدٍ كبير و أصبحَ جسده أكثر قوة، إلا أن علامات الذهول وعدم التصديق كانت مرتسمة على وجه كالتون.
كان رد فعله مفهومًا، ففي الحقيقة كانت آدورا نفسها هي أكثر من لم يصدق عرض زواج الأمير الرابع.
حكت آدورا رقبتها في حرج.
“كيف، بل.. لِمَ تقدم لخطبتكِ؟ آه، لا تفهميني خطأ، أنا لا أعني أنكِ لستِ كفؤًا لتكوني زوجة لسموه، ولكن..”
“أدرك ما ترمي إليه. لم يمضِ وقت طويل على طلبه، ولم أسمع منه سببًا.”
“ألم تسأليه؟”
“ليس الأمر كذلك، ولكن..”
لقد سألته بالفعل، لكنها لم تتلقَّ جوابًا شافيًا.
فالأمير ليونيل قال ما لديه ثم غادر، تاركًا علامات الاستفهام تلاحقها وحدها.
قطبت آدورا جبينها وهي تستحضر في ذهنها ذلك الوجه البديع الذي فاق كل وصف، وبينما كان كالتون يراقب ملامحها، عاد ليسأل بحذر: “هل ستوافقين؟”
“أخبرته حاليًا أنني سأفكر في الأمر.”
“.. هكذا إذن.”
بدت على كالتون ملامح الارتباك؛ فالحصول على عرض زواج من العائلة المالكة يعني رفعةً في شأنها ومكانتها، وهذا ليس بالأمر السيئ، ولكن من بين الجميع، كان الخاطب هو الأمير الرابع ذاته.
كانت آدورا ألفريد فارسةً فذة، بل ومُبشرة بمستقبلٍ باهر.
وكأنها تعيد أمجاد عائلة ألفريد التي ذاع صيتها قديمًا، برزت آدورا كفارسة استثنائية رغم حداثة سنها.
في الرابعة عشرة من عمرها، تقدمت تلك الآنسة النبيلة الصغيرة بطلبٍ لتكون فارسة متدربة في القصر الملكي.
كانت فرق الفرسان الأربع التابعة للقصر تختار متدربين جددًا كل عام. وكان يُشترط في المتقدم أن يكون قد تجاوز الرابعة عشرة، سليم البنية، ومن خلفية عسكرية، أو ممن تتلمذوا على يد مدربي فنون القتال منذ الصغر ليحصلوا على رسالة توصية عند بلوغ السن القانونية.
ومن يتم اختيارهم يخضعون للتدريب في القصر الملكي، و إذا بلغوا الثامنة عشرة، أُقيمت لهم مراسم التقليد ليعينوا كفرسان رسميين.
لكن جميع المتقدمين كانوا دائمًا من الذكور.
“إنني أعرف قدر عائلة ألفريد جيدًا، فهي عائلة نبيلة سطر التاريخ أسماء أبنائها بمداد من ذهب. ويسرني حقًا أن تقرر وريثة تلك العائلة أن تصبح فارسةً، ولكن.. لا يمكن لامرأة أن تكون فارسة.”
هكذا صاح بها كالتون ببرودٍ، كمن يوبخ شخصًا يسلك دربًا واهيًا، بينما كانت آدورا تقدم طلبها بإصرار رغم علمها بالرفض الوشيك.
تعالت من حولهما همسات الاستنكار من البعض ممن اعتبروا فعلتها استهانة بلقب الفارس، بينما اكتفى آخرون بضرب كفٍ بكف.
“إذن، سأتخلى عن كوني امرأة.”
ردت آدورا بجرأة ألجمت لسانه. كانت نظرات عينيها المحدقتين فيه تشي ببأسٍ لا تملكه ابنة الرابعة عشرة.
“سأتلقى التدريبات كبقية زملائي تمامًا، لا أريد تمييزًا، وبالأخص لا أريد تمييزًا لكوني أنثى.”
“…”
“إذا تبين أنني لا أستحق لقب الفارسة، فسأنسحب طواعية. أما إذا رأيت فيّ ولو ذرة من أمل، فاسمح لي أن أهب حياتي لخدمة العائلة الملكية.”
تردد كالتون في قراره. فالفتاة التي تقف أمامه هي السليلة الوحيدة المتبقية لعائلة ألفريد، وهي عائلة عُرفت بتخريج أعتى المحاربين، ولم يكن بوسعه إنكار موهبتها الكامنة.
وعلاوة على ذلك، فإن أبناء ألفريد يتدربون على فنون السيف منذ نعومة أظفارهم، مما يجعلها مؤهلة بالفعل.
ومع ذلك، ظل كالتون مترددًا، فما كان من آدورا، التي قرأت تردده، إلا أن صاحت فيه وكأنها توبخه:
“أتقول يا سيدي إنني لا أصلح للفراسة لمجرد أنني أنثى؟ لقد تعلمت من والدي منذ صغري أن الفروسية استحقاق بالقلب لا بالجنس. وبناءً على ذلك، لا أرى سببًا يمنعني من أن أكون فارسة لكوني امرأة.”
تنهد كالتون تنهيدة خفيفة؛ فلو كانت قد تذرعت بأسباب واهية أو مجرد عناد طفولي لطردها بدمٍ بارد، لكن حديثها عن جوهر الفروسية حرك مشاعره.
فالفروسية لا تعرف التمييز بين الجنسين، ولا يوجد قانون يمنع المرأة من نيل هذا الشرف. وإذا وُجد الاستحقاق، وُجِبَ منح الفرصة للجميع بالتساوي.
في نهاية المطاف، قبل كالتون طلب آدورا وخضعت للاختبار، لتجتازه بكل جدارة واقتدار.
وكما وعدت، خاضت آدورا التدريبات بصمت وصبر، دون أي تمييز بينها وبين أقرانها، ولم تشتكِ قط حتى في أقسى الظروف.
كانت صورتها وهي تحمل فوق ظهرها أكياسًا أثقل من جسدها، وتعدو نحو خط النهاية متجاوزة زملائها الذين تهاووا من التعب، تثير الدهشة والإعجاب.
لقد اجتمعت فيها المثابرة، والأناة، والإصرار الذي يلامس حد الشراسة. وكانت تملك من الشجاعة ما يكفي لردع زملائها الذين يفوقونها حجمًا بضرباتٍ مسددة عند الحاجة.
فضلًا عن مهارتها التي كانت تتفوق بوضوح على أقرانها، ونقاء سمعتها الذي جعل كالتون يرضى عنها تمام الرضا.
لذا، وبالرغم من معارضة الكثيرين، قام بترقيتها لمنصب نائبة القائد، ثم سلمها منصب القائد لاحقًا.
وحين سمع كالتون أن آدورا قررت اعتزال الفروسية لتتزوج فجأة بعد النصر، أصيب بذهول حقيقي؛ فقد كانت لا تزال في ريعان شبابها كفارسة، ولم تبدُ أبدًا من النوع الذي يشغل باله بالزواج.
لكن، لكل إنسان حياته الخاصة، كما أن هذه الحرب كانت مريرة حتى بالنسبة له وهو صاحب الخبرة الطويلة، فكان من الطبيعي أن تتبدل أفكارها.
ورغم أنها قالت إنها ستعتزل الآن، إلا أن هناك احتمالية لاستدعائها مجددًا في الوقت المناسب؛ فالزواج ليس سببًا يمنع المرء من حمل السيف.
كان كالتون جازمًا في رأيه؛ فهذا الزواج لن يجلب الخير لأي منهما. وبصورة أدق، قد تكون آدورا هي المتضررة الأكبر.
فبعد هذه الحرب، حتى أولئك الذين كانوا يضمرون لها الضغينة اضطروا للاعتراف بفضلها، ولكن لو تزوجت من الأمير الرابع، فلا حاجة للتفكير فيما سيلفقه لها المتربصون من تهم وتشويه؛ سيكون هذا الزواج قيدًا يثقل كاهلها في المستقبل.
“أخبريني إن كان من الصعب عليكِ الرفض، سأساعدكِ.”
فمهما كانت سمعة الأمير الرابع، هة يبقى فردًا من العائلة الملكية، ورفض طلبه قد يجرُّ المتاعب رغم كونه تشريفًا في الظاهر.
وعلاوة على ذلك، فإن انتشار الخبر للعلن جعل موقف آدورا محرجًا في الرفض.
أضاف كالتون بجدية، خوفًا من أن تُرغم على زواج لا تهواه، كان مستعدًا للذهاب للملك والالتماس إليه شخصيًا إذا لزم الأمر.
“سأضع ذلك في اعتباري.”
لكن تابعته القديمة المخلصة تأخذ حتى طلب الأمير المربك على محمل الجد.
نظر إليها كالتون بشفقة؛ فهو الذي يعرف تاريخ عائلتها، كان يخشى أن يتسبب هذا الأمر في جرح مشاعرها.
واصلت آدورا استقبال ضيوفها حتى بعد رحيل القائد السابق.
وبين من جاء مهنئًا بالزواج ومن جاء يستطلع حقيقة الشائعات، شعرت آدورا بإعياء شديد.
وكان آخر ضيوفها هو صديقها المقرب تيريك، الذي كان ينتظرها في مكتبها.
أرخت آدورا جسدها فوق الأريكة دون أن تنظر إليه، وأخذت تفرك وجهها بيدها.
“يبدو أنكِ نلتِ نصيبكِ من العناء اليوم؟”
“نعم، و أنت الأخير.”
لن تستقبل أحدًا بعد الآن. زفرت آدورا تنهيدة عميقة وهي تسند طرف أنفها على يدها.
“لِمَ يهتم الجميع بزواجي بهذا الشكل؟”
“وهل هناك ما هو أكثر إثارة من خبر زواج الفارسة ألفريد؟”
“وماذا فيّ؟ لستُ بذلك الشخص العظيم.”
“ألا تدرين؟ هم ينادونكِ بـ “بطلة الحرب”. تقول الحكايات المنتشرة في أنحاء المملكة إنكِ من أطاح برأس قائد العدو.”
“كلامٌ فارغ.”
سخرت آدورا من القول. ففي السابق كانوا ينادونها بـ”وحش الميدان الأحمر”، والآن أصبحت “بطلة الحرب”.
وإذا كانت تتقبل اللقب الأول على مضض، فإنها لم تستسغ الثاني أبدًا؛ فهي لم تخض الحرب وحدها، والجميع عانى وكابد مثلها، فكيف تُنسب البطولة لها وحدها؟
“هذا هو حكم الشعب، فماذا نفعل؟”
“تقول ذلك ببساطة لأن الأمر لا يخصك، أليس كذلك؟”
“أجل.”
كان صوته العابث يثير أعصابها، فرمقته آدورا بنظرة حادة.
لاحظت أن تيريك لا يزال يرتدي بزة الفرسان الرسمية؛ فإما أنه لم يجد وقتًا لتبديل ثيابه، أو أنه تكاسل عن ذلك.
لقد انتهت الحرب، لكن التبعات كانت جسيمة؛ من إعادة بناء الحراسة الملكية، وتنظيم فرسان القصر، إلى مناقشة مصير الأسرى، وغيرها من المهام التي لا تنتهي.
وكل فرقة من الفرسان كانت تحمل نصيبها من المسؤولية، وكان العبء الأكبر يقع على عاتق تيريك الذي سيصبح القائد. شعرت آدورا بالأسف تجاهه.
“ما الذي جاء بك من هذا الطريق البعيد وبكل هذه العجلة؟ هل حدث خطأٌ ما؟”
أرادت آدورا الدخول في صلب الموضوع مباشرة، إشفاقًا على هذا الصديق الذي بدا في أمسّ الحاجة للنوم، ومن جهة أخرى، كانت قلقة من حدوث مكروه لفرقة الفرسان الخضر.
“سمعتُ أنكِ ستتزوجين.”
“نعم، لقد أعلنتُ ذلك بالفعل.”
حين ردت باستغراب على سؤاله الذي بدا متأخرًا، اكفهر وجهه.
“سمعتُ أن الزواج سيكون من سمو الأمير ليونيل.”
آه، كما توقعت. لقد جاء من أجل هذا.
وقبل أن ينطق تيريك بكلمة أخرى، انطلقت آدورا تسرد الإجابات على الأسئلة التي سئمت سماعها:
“لا يزال الأمر مجرد عرض زواج، ولم يمر عليه سوى أيام قليلة، ولم أسمع منه لِمَ اختارني، وأخبرته حاليًا أنني سأفكر في الأمر.”
رفع تيريك حاجبيه بدهشة ثم ابتسم وكأنّه أدرك الموقف.
“يبدو أنكِ عانيتِ الأمرَّين حقًا.”
“لقد سئمتُ الأمر.”
وصلت آدورا لمرحلة فكرت فيها جديًا في إلغاء فكرة الزواج برمتها؛ فربما يكون قضاء بقية عمرها في الراحة والسكينة أفضل بكثير من الزواج.
“وماذا ستفعلين إذن؟”
“لا أدري.”
أجابت آدورا بفتور.
“أيعني هذا أنكِ رفضتِه؟”
“ليس تمامًا.”
“إن كنتِ تشعرين بعدم الارتياح فارفضي، هناك رجال كثر أفضل منه.”
“وما به الأمير الرابع؟”
هو يبقى فردًا من العائلة المالكة، حتى لو كان الابن غير الشرعي للملك. وتقدمه لخطبتها شخصيًا يعد تشريفًا لها كنبيلة.
لكن ملامح تيريك ظلت تعبر عن عدم الرضا.
“أنتِ تعلمين جيدًا.. إنه لا يناسبكِ.”
رمقته آدورا بنظرة خاطفة. لم يكن تيريك يذم الأمير، بل كان ينطق بحقائق مجردة، وبدا قلقه على صديقته جليًا في نبرته.
ومع كشف خيوط الجواسيس الذين أرسلهم العدو، بدأت الشكوك تحوم حول مأساة عائلة ألفريد القديمة. تلك الفاجعة الغامضة التي لم يُقبض على فاعلها قط، بدأت الألسن تلوكها مجددًا، مشيرة إلى أن الجاني الحقيقي هو جاسوس من الأعداء.
وبالرغم من كونها مجرد شائعات، إلا أن الأذكياء أدركوا الحقيقة.
آنذاك، لزمت آدورا الصمت؛ فلم تؤكد ولم تنفِ. لقد أفضت بسرها لشخصين فقط، كالتون، وتيريك.
“ربما يحاول استغلالكِ.”
“أليس الزواج في أصله تبادلًا للمصالح؟ الطمع أمر طبيعي. أنا لستُ سيدة عائلة ذات نفوذ طاغٍ حاليًا، وهو يعلم يقينًا أنني لا أملك القدرة على تلبية مطالب عسيرة.”
“لا أتحدث عن هذا النوع من المصالح.”
“… لقد قال إنه لا يضمر لي سوءًا.”
“أتصدقين ذلك؟ أيعجز المرء عن الكذب لينال مأربه؟”
المرء قد يبدو طيبًا في الظاهر وهو في الباطن قاتل سفاح.
فكيف به وهو ابنُ الملك؟ حتى وإن بدا هادئًا الآن، فمن يدري ما يضمره في نفسه.
لطالما كانت الشائعات عن الأمير الرابع تطرق الأسماع قسرًا؛ ابن المرأة التي حظيت بحب الملك الشديد، الأمير ذو الجمال الفتان، والشخص الذي سيجلب الشؤم للقصر الملكي.
لذا، وجب الحذر من الوقوع في شركه.
كانت تلك قصصًا شائعة كأغنيات الأطفال في الأزقة.
اشتهر ذلك الأمير بعزلته داخل القصر، حتى خرج فجأة ليطلب يد امرأة. وبقدر ما يبدو الأمر رومانسيًا في الظاهر، إلا أنه لم يبعث الراحة في نفس تيريك، خاصة وأن الشخص كان…
“لا تفعلي. فكري فيما سيقوله الناس؛ زواج “بطلة الحرب” التي أطاحت بقائد العدو، من أمير يجري في عروقه دم ذلك العدو نفسه! لن تكونوا سوى مادة للنميمة، وقد يلحق ذلك الضرر بعائلة ألفريد.”
“أنت تبالغ في التفكير.”
“من الأفضل تجنب المشاكل حتى لو كانت صغيرة. وفوق ذلك، هو لا يملك القوة لحمايتكِ إن وقعتِ في خطر.”
“لا بأس، فأنا قوية بما يكفي.”
“…”
لجمت الكلمات لسان تيريك. ربما قالتها آدورا كدعابة، لكنها كانت حقيقة لا يمكن إنكارها.
فالقوة لا تُقاس بالبنية الجسدية فحسب. ورغم وجود فوارق فطرية بين الرجل والمرأة لم تستطع آدورا تجاوزها تمامًا، إلا أنها عوضت ذلك بمهارة فائقة؛ فكان العمالقة أمامها يسقطون عاجزين.
بل إن براعتها في فنون السيف جعلتها تتربع على عرش النخبة من الفرسان، ومع مرور السنين، كف الجميع عن الاستهانة بها.
تنهد تيريك الذي ذاق مرارة الهزيمة أمام سيفها مرارًا. هو يعلم يقينًا أنها أقوى من الرجال العاديين، لكن ذلك لم يقلل من قلقه؛ فالحياة والموت لا يحسمهما السيف وحده.
“حتى وإن سلمنا بكل ذلك، ألم تكوني تكرهينه؟”
“…”
“أتثقين في قدرتكِ على رؤية وجهه كل يوم؟ وتناول الطعام معه، وإمساك يده، بل وما هو أبعد من ذلك؟”
كان هذا سؤالًا يمس الجرح، وهي تدرك ذلك جيدًا.
لم تبدِ آدورا أي رد فعل، وبدا صمتها أقرب للفتور، مما زاد من توتر تيريك فسألها بإلحاح:
“.. لن تقبلي عرضه، أليس كذلك؟”
لم تجب آدورا، بل ظلت تحدق في زهرة حمراء قانية فوق الطاولة.
كان تيريك يعلم أن صمت آدورا حين تغرق في التفكير هو أكثر ما يثير الخوف، فلم يطق صبرًا وسألها بلهفة:
“لماذا تريدين الزواج أصلاً؟ ولماذا الآن وبهذه المفاجأة؟”
التعليقات لهذا الفصل " 9"