الفصل 20
“سموك، لقد فكرت في الأمر؛ إن تركتُ هذه الليلة تمر كما قلت، فسيظل طيفها يطاردني طوال حياتنا الزوجية، وسأشعر أنني قصرت في واجبي كزوجة.”
اتسعت عينا ليونيل بدهشة، وكأنه لم يتوقع سماع كلمات كهذه منها.
“لكن الاستعجال المفاجئ لن يترك لنا سوى ذكرى من النفور، لذا اقترح أن نبدأ بخطوات صغيرة.”
“خطوات صغيرة؟”
“أجل…إن كنت لا تمانع.”
“مثل ماذا.على سبيل المثال؟”
“على سبيل المثال…”
بلعت آدورا ريقها محاولة إخفاء ارتباكها، ثم قالت بجرأة: “ما رأيك في قُبلة؟”
عرضت آدورا الأمر ببرودٍ مصطنع.
لم تكن تدري كيف تقضي ليلتها، لكنها أيقنت شيئًا واحدًا، إن انقضت هذه الليلة دون أي تقارب، فقد يُحفر قبرٌ جديد لسمعته المتردية فوق ما هي عليه.
أليس من الغريب أن تنتهي الليلة الأولى لزوجين دون حتى قُبلة؟
“أنا لا أكرهك.”
بدأت تحرك أناملها حول حافة الكأس بحركة بدت هادئة، لكنها كانت في الحقيقة محاولةً يائسة لقمع خجلها.
“هذا.. إن كنت أنت أيضًا لا تكرهني.”
قالتها ثم رفعت بصرها إليه ببطء.
ظل وجهه خاليًا من التعبير، وكأنه فقد القدرة على الرد.
هل كانت مباغتة جدًا؟ أم أنه يرفض الفكرة؟
تركت الكأس وبدأت تفرك رقبتها بحرج،
لتأتيها الإجابة أخيرًا.
“أنا موافق.”
جاء صوته مرتعشًا بشكل غريب.
تجرعت آدورا ما تبقى في كأسها دفعة واحدة، ثم نهضت واتجهت نحوه بخطوات واسعة.
جلست بجانبه، لكن المسافة بين الكرسيين بدت لها شاسعة، فانتهى بها المطاف بالجلوس على حافة الطاولة المواجهة له.
كان ليونيل يراقب حركاتها بصمتٍ مطبق.
بدا وجهه المرفوع إليها، والمضاء بنور القمر الخافت، غاية في النبل.
أسند وجهه بـوداعة إلى كفها، وبينما كانت تداعب خده، تغلغل شعره الأبيض بين أصابعها.
نظر إليها بعينين شفافتين بدا وكأنهما تتساءلان: “هل هذا صحيح؟ هل أبليتُ بلاءً حسنًا؟ وماذا بعد؟” شعرت آدورا للحظة وكأنها تغوي شخصًا بريئًا لارتكاب إثم.
لم يسبق لآدورا أن قبلت أحدًا من قبل، باستثناء المرة التي نطح فيها أحد رفاقها السكارى وجهها بخده فنال منها ضربةً مبرحةً و لا يمكن أعتبارها قبلةً حتى.
تنهدت بعمق، ورغم ارتعاش أناملها، لم يكن التراجع خيارًا مطروحًا.
قاعدتها الدائمة هي إذا سُلَّ السيف، فإما الطعن وإما التراجع، وهي دائمًا تختار الطعن.
انحنت آدورا وألصقت شفتيها بشفتيه.
“هاه..”
لم تكن سوى قُبلة، لكنها شعرت بضيق في التنفس وكأنها كانت تركض.
تلامست شفتيها بشفتيه مرارًا قبل أن تبتعد قليلًا، وكان ليونيل لا يزال مغمض العينين، ثم فتحهما ببطء لترتسم على وجهه ابتسامة دافئة.
حدقت في وجهه بنظرة عميقة، فمال ليونيل برأسه متسائلًا وقد تلاشت ابتسامته أمام حدة نظراتها.
تمتمت آدورا أخيرًا: “أريدك أن تكتسب بعض العضلات.”
كان كلامًا مفاجئًا، لكن ليونيل فهم أنها تجيب الآن على سؤاله حول ما تتمناه منه كزوج.
“أهذا هو ذوقكِ إذًا؟” سأل بفضول أمام هذا الطلب المحدد.
نظر ليونيل إلى جسده؛ لم تكن بنيته سيئة، بل بدأ يستعيد بعض وزنه مؤخرًا، لكنه أدرك أن امرأة عاشت بين السيوف والفرسان قد تراه ضعيفًا.
هزت آدورا رأسها نفيًا وقالت: “لا أريد لأحد أن يجرؤ على الاستهانة بك.”
“أيزعجكِ أن يُستخف بي؟”
“بالطبع يزعجني.”
حتى وإن لم يكن زواج حب، فهو الآن زوجها، و شريكها في حياتها القصيرة هذه، ولن تسمح لأحد بتجاهله أو إهانته.
“لماذا تضحك؟”
كان ليونيل يضحك مجددًا.
ظنت أنه يسخر من قلقها، فكلامها قد يُفهم منه أنه يبدو مثيرًا للشفقة في أعين الآخرين.
لكنه لم يبدُ مغتاظًا، بل أخفى فمه بيده النحيلة وأطلق ضحكة صافية ومبهجة.
“سموك؟”
“لا شيء.. أنا سعيدٌ فقط.”
“وما الذي يدعو للسعادة في هذا؟”
“لأنها المرة الأولى التي يقلق فيها أحد بشأن كرامتي بهذا الشكل.”
أثارت إجابته دهشتها.
“أيسعدك قلقي إلى هذه الدرجة؟”
“نعم، يسعدني.”
رؤية سعادته لأمر تافه كهذا جعلت آدورا تقول بلهجة واثقة: “إذًا، سأحرص على القلق عليكِ كثيرًا من الآن فصاعدًا.”
انفجر ليونيل ضاحكًا بصوتٍ أعلى، وكأنّه لم يعد قادرًا على كبح جماح بهجته.
لم تفهم ما المضحك في الأمر، لكنها تركته يضحك طالما أنه ليس غاضبًا.
مسح ليونيل وجهه بيده، وظل كتفاه يهتزان بضحكات مكتومة، بينما كانت آدورا تهز زجاجة النبيذ المتبقية وتراقبه.
“لكنني لا أدري إن كنت سأستطيع تلبية طلبكِ. فبنيتي الضعيفة ليست شيئًا أملك تغييره بسهولة.”
“لا أريد أن أثقل كاهلك.”
“أعلم.. ومع ذلك، سأحاول جاهدًا حتى لا تشعر آدورا بالحزن.”
“الأمر لا يصل للحزن.” تمتمت وهي تهز رأسها.
“وأنا أيضًا سأبذل جهدي للعناية بشعري حتى لا يحزن سموك.”
قالت ذلك وهي تدرك أن الشعر ينمو وحده، لكن العناية به تتطلب جهدًا.
عاد ليونيل ليضحك بخفة، وحين أنزل يده عن وجهه، رأت خديه وقد ازدادا حمرةً.
بدا تأثره مبالغًا فيه، لتدرك آدورا أخيرًا أنه قد ثمل.
“هل سكرت؟”
“قليلًا.”
التقت عيناه الزائغتان بعينيها.
“تبدين واعيةً تمامًا.”
“هذا القدر لا يذكر بالنسبة لي.”
“يا لكِ من شاربة محترفة.”
وضعت آدورا الزجاجة جانبًا، ونظرت حولها لتجد أكوامًا من الزجاجات الفارغة تملأ المكان.
لم تدرك أنهما شربا كل هذا القدر، فهي اعتادت الشرب مع الفرسان حتى الثمالة، ولم تضع في اعتبارها أن قدرة تحمل ليونيل قد تكون أقل بكثير.
شعرت بالقلق على حالته الصحية.
“سموك، هل أنت بخير؟”
لاحظ قلقها فعبس قليلًا: “يسعدني اهتمامكِ، لكنني لم أعد ذلك الضعيف. لن أموت من بعض النبيذ.”
“حتى وأنت ثمل؟”
“حتى وأنا ثمل.”
“فهمت.”
حدقت في وجهه مرة أخرى، ورغم عبوسه المفتعل، كانت جفونه تتحرك ببطء شديد تحت وطأة السكر.
“هل نذهب للسرير؟”
لم يجب. وحين همت بالنهوض لتساعده، مال بجسده نحوها فجأةً.
تداركته بسرعة، لكنه ارتمى في حضنها كليا، مما اضطرها للجلوس ثانية.
كادت الطاولة تميل وتسقط الزجاجات فوقه لولا أنها ثبتتها بقدمها في اللحظة الأخيرة.
كان ليونيل يدفن وجهه في حظنها.
“سموك؟ هل أنت بخير؟” هزت كتفيه بارتباك.
“أشعر بالدوار…”
“أيمكنك الوقوف؟”
هز رأسه نفيًا، وتناثر شعره الأبيض الناعم فوق صدرها.
بدا أن السكر قد نال منه تمامًا.
“إذًا أخبرني حين يخف الدوار.”
أحكمت عناقه حتى لا ينزلق.
بدا وكأنه يحاول التخلص من الدوار أو النعاس بـحك جبهته في ملابسها، بينما كانت يداه تقبضان على خصرها بقوة.
ساد الصمت الغرفة مجددًا بعد أن توقفت آخر زجاجة عن التدحرج فوق الأرض.
بدا القصر هادئًا بشكل مريب؛ ربما نام الجميع مبكرًا ليتركوا للعروسين خصوصيتهما، أو ربما انسحبوا لبعيد.
حتى الرياح خارج النافذة سكنت الليلة.
“آدورا.”
“نعم.”
“آدورا.”
“نعم، سموك.”
“آدورا.”
بدا أنه يستمتع بسماع ردها، فظل ينادي اسمها بتدلل، وشعرت بابتسامة ترتسم على وجهه المندفن في حضنها.
‘يا له من ثملٍ لطيف.’
“سموك، هل الدوار شديد؟”
“ليونيل.”
“ماذا؟”
“ناديني ليونيل.. فنحن الآن زوجان.”
نظرت إلى شعره الأبيض الملتصق بها، ورأت طرف شفتيه وقد ارتخى بـرقّة.
“سيد ليونيل.”
“ليونيل فقط.”
“..….”
“ليونيل.”
“… ليونيل.”
“نعم، يا آدورا.”
تبادلا الأسماء في ذلك السكون، فغمرها شعور أغرب من السابق.
شعرت بالغيرة و أرادت ان تثمل أيضًا، تمنت لو تصل لآخر قطرة نبيذ متبقية، لكنها لم تكن تقوى على الحراك قيد أنملة وهو في حضنها.
التعليقات لهذا الفصل " 20"