2
يُقال إن الإنسان حين يقترب من الموت يتأملُ حياته.
قال لي زميلٌ ذات مرة إنه يشعر بالحياة أكثر عندما يواجه الموت،
رغم أنه تلقى توبيخًا لتفوهه بكلام يبدو مجنونًا، إلا أنني وجدتُ في قوله بعضًا من الصواب.
كانت أدورا تفكر في حياتها كل لحظة.
كان تفكيرها يعود بها إلى زمن بعيد، إلى فترة امتلأت بالسعادة فقط.
أبٌ حنونٌ ولطيف، و أمٌ تهتمُ بسعادة الأسرة و أخٌ رضيعٌ جميل.
كانت أدورا طفلةً لطيفة نشأت في وسط عائلة مليئة بالحب.
بشعر أحمر كثيف يتراقص حول كتفيها ووجه صغير دائم الابتسام،
كانت أدورا تلهو بيديها الصغيرتين وهي تمشي، مما كان يُذيب قلوب والديها وكل من حولها.
كانت السيدة ألفريد تضحك بسعادة وهي تضم طفلتها التي تشبهها كثيراً في طفولتها.
وعندما تضحك، كانت أدورا تُقهقه وتغمر نفسها في حضن والدتها.
“أدورا، سمعتُ أنكِ تهربين من درس التطريز لتذهبي إلى قاعة التدريب على السيف،
هل هذا صحيح؟”
اتسعت عينا أدورا ببراءة عند سماع كلام والدتها، وبدأت تتجنب النظر إليها.
“حسنًا….”
كانت تدير عينيها الكبيرة، و تعبث بيديها الصغيرتين،
ما جعل والدتها تدرك أنها فعلاً قد فعلت ما قيل عنها.
تنهدت السيدة “ألفريد” وأخذت نفسًا عميقًا.
“هذه المرة فقط! لن أفعلها مجددًا!”
حاولت “أدورا” تهدئة والدتها بينما كانت تلوّح بيديها الصغيرة. ابتسمت السيدة “ألفريد” بحزن لرؤية ابنتها بهذا الشكل.
“أتمنى أن تتمسكي بالزهور بدلاً من السيف يا عزيزتي.”
ورثت ابنتها جينات عائلة “ألفريد” القوية. وعلى عكس الأطفال الآخرين الذين يفضلون الأشياء اللطيفة والجميلة، كانت “أدورا” تهتم بفنون السيف، وكانت موهوبة فيه بشكل ملحوظ.
لكنها كانت فتاة في النهاية. كان هناك وريث ذكر للعائلة، ولم يكن متوقعاً أن تحمل الفتاة السيف وتعيش حياة القتال. فوق ذلك، لا يوجد والدان يرغبان أن يضعا طفلتهما في ساحة المعركة حيث قد لا تعود يوماً.
سيأتي وقت تضطر فيه للتخلي عن الأشياء التي تحبها. كانت والدتها تعلم الحزن الذي قد تواجهه ابنتها، لذلك أرادت توجيه اهتمامها مبكراً.
“لماذا لا يُسمح لي بفعل ما أحب؟”
“هناك أمور في الحياة لا يمكنكِ فعلها حتى وإن أحببتِها.”
“هذا صعب للغاية.”
“قد لا تفهمين الآن، لكن في المستقبل ستدركين أنني قلت هذا من أجلكِ.”
لم تفهم “أدورا” تماماً، لكنها هزّت رأسها موافقةً حينما رأت ملامح الحزن على وجه والدتها. ثم ضمت السيدة “ألفريد” ابنتها الصغيرة ثانية، وهي تمسح خدها.
كانت عالماً مليئاً بالسلام. لقد أصبح زمن الحروب مجرد تاريخ منسي. كانت عائلة “ألفريد” عائلة عريقة في الفنون القتالية، لكن في زمن السلم لم يعد هناك حاجة لجعل ابنتها أو ابنها الرضيع فارساً.
لكن رغبتها هذه خذلتها بأقسى الطرق.
كان ذلك في ليلة حيث بدا كل شيء مألوفاً، لكنه مرعب. كانت رائحة الدم تختلط بالهواء اللطيف، وبدأ المنزل الهادئ يشعرها بالضجيج غير المعتاد، حينها استيقظت “أدورا” من نومها على نداء والدتها.
لم تخبرها والدتها عن سبب إيقاظها أو ما حدث، بل فقط سحبتها من السرير على عجل. كانت “أدورا” لا تزال نصف نائمة عندما شعرت بيد والدتها وهي تُنزلها قسراً من السرير.
شعرها كان فوضوياً، وملابسها كانت خفيفة، حتى أنها لم ترتدِ حذاءً، ومع ذلك لم تعاتبها والدتها تلك الليلة.
أخذتها والدتها إلى الغرفة المجاورة، وبدأت تتحسس خزانة خشبية على الحائط. كانت “أدورا” تمسح عينيها محاولًة التغلب على النعاس وهي تراقب والدتها.
ضغطت والدتها على الحجارة المحيطة بالخزانة واحدة تلو الأخرى حتى انفتح باب خفي يظهر مساحة ضيقة.
قبل أن تستوعب “أدورا” ما حدث، دفعتها والدتها داخل المساحة الخفية. كانت مساحة ضيقة لدرجة يصعب على الكبار دخولها، لكنها كانت تناسب “أدورا” الصغيرة تماماً.
“أدورا، مهما حدث، لا تخرجي من هنا. هل فهمتِ؟”
“أمي، أمي.”
نظرت “أدورا” إلى والدتها بذهول، كانت ملامح والدتها قاسية، رغم أن نور القمر كان يلمع على وجهها. ابتسمت لها بنفس الحنان المعتاد، وهمست برفق، “كوني طيبة، يا صغيرتي.”
ثم أُغلِق الباب، وغابت والدتها عن أنظارها. بدأت خطوات والدتها تبتعد، وفي الوقت ذاته سُمع صوت غريب يدخل الغرفة.
توقفت خطوات والدتها، وبقيت خطوات الغريب وحدها تتحرك.
تحسست “أدورا” حواف الباب، لكن من الواضح أنه كان مغلقاً من الخارج، ومع ذلك لاحظت وجود شق صغير جداً في الباب.
وضعت عينيها عند الشق، لترى والدتها تقف في مواجهتها، ويقف أمامها رجل غريب.
كان الرجل أطول من والدتها، وجهه مغطى بقناع أسود، وملابسه سوداء بالكامل كأنه ظل في الليل.
كانت والدتها تصرخ عليه بغضب، بينما كان هو يتحدث بهدوء. أحست أن الوضع غريب. لماذا والدتها غاضبة؟ ومن يكون هذا الرجل؟
لكن تساؤلاتها لم تدم طويلاً.
تقدم الرجل خطوة نحو والدتها، وتلألأ شيء لامع تحت ضوء القمر.
أدورا رمشت بعينيها.
كان سيفًا.
ما إن أدركت ذلك حتى تحرك النصل بلا تردد. صوت غريب تردد في المكان. في اللحظة نفسها، اهتز جسد والدتها مرة واحدة. اهتز شعرها الأحمر الجميل، وكأنه يرقص.
ترنحت والدتها ومدت يدها للإمساك بالرجل، ممسكةً بكتفه كما لو كانت تتشبث بطوق نجاة، بينما راحت تلمس بقوة القناع الذي كان يغطي وجهه. لكن يديها كانتا تترنحان، حتى انهارت وسقط القناع عن وجه الرجل.
كان وجه الرجل شابًا، لكن أدورا لم تره من قبل. رغم أن القناع قد سقط، لم يظهر أي انزعاج؛ بل انحنى بنظره إلى الأسفل. كذلك أدورا، نظرت إلى الأرض حيث كانت والدتها ممددة.
شعرها الأحمر متناثر على قميصها الأبيض النظيف وأرضية الغرفة النظيفة. كانت ممسكة ببطنها بإحدى يديها، وكانت أنفاسها غير طبيعية، ترتفع وتهبط بسرعة.
وجه الرجل نظرة خالية من أي مشاعر إلى والدتها، وبدا وكأنه كان يتوقع ما حدث. ضرب يدها الممتدة تجاهه بطرف السيف بلا اهتمام، ثم رفعه مجددًا.
أدورا همست بهدوء. “أمي…”
لكن والدتها لم تجب. اخترق السيف قلب والدتها بلا تردد. ارتجف جسدها عدة مرات، ثم هدأ تمامًا. ظل الرجل ينظر إليها حتى توقفت عن الحركة تمامًا، ثم سحب السيف، فنفثت الدماء متطايرة في كل اتجاه، لكنها لم تترك أثرًا على ملابسه السوداء.
انحنى الرجل والتقط القناع الذي كانت تمسكه والدتها. ثم ألقى نظرة غير مبالية على الغرفة. لم ينتبه للفتاة الصغيرة التي كانت مختبئة خلف الجدار. بعد ذلك، استدار وغادر، ولم ينس إعادة ارتداء القناع.
لم تستطع أدورا أن ترفع بصرها عن والدتها التي كانت تراها من خلال فتحة ضيقة. لم تكن ترى وجهها، وبدا وكأنها نائمة.
أرادت أن تخرج فورًا وتوقظ والدتها. شعرت أن والدتها ستبتسم لها بلطف وتعانقها، كما كانت تفعل دائمًا.
لكن ذلك لم يحدث.
كانت هناك أصوات قادمة من خلف الباب، صوت صراخ وتوسلات، صوت أقدام تجري وتصطدم بالأشياء. غمرت الأصوات كل شيء، ليبدو العالم وكأنه أصبح جحيمًا من الصرخات والألم، ليلًا لا نهاية له.
بهذه الطريقة، نجت أدورا.
أدورا وحدها هي من نجت.
أطلق الناس على تلك الحادثة اسم “مأساة عائلة ألفريد” وانتشر الخبر على نطاق واسع. تنهد الجميع عند سماعهم لتلك المأساة.
“من ذا الذي ارتكب هذه الفظاعة بحق عائلة كانت تعيش بسعادة؟”
قليلون هم من نجوا، ومنهم من كان في غيبوبة. أما أولئك الذين استعادوا وعيهم، فلم يتمكنوا من وصف القتلة بوضوح لأنهم كانوا مقنعين. بدا القتلة محترفين، فلم يتركوا أي أثر، مما جعل العثور عليهم أمرًا صعبًا.
ولكن كان من حسن الحظ أن ابنة عائلة ألفريد، أدورا، كانت الوحيدة التي نجت. أثناء تفتيش القصر، سمعوا صوتًا غريبًا من داخل إحدى الخزائن، فعند فتحها، وجدوا أدورا فاقدة للوعي.
تم إنقاذ أدورا من داخل الخزان، وظلت مريضة لمدة يومين قبل أن تستعيد وعيها. انتظر من حولها حتى تعافت ليطرحوا عليها الأسئلة حول ما حدث.
كانت أدورا تتذكر كل شيء بوضوح، حتى وجه الرجل الذي قتل والدتها. لكنها لم تستطع البوح بالحقيقة.
شعرت وكأنها تحذير غريزي؛ يجب ألا تتحدث، وإلا قد يحدث لها مكروه. رغم أنها لم تكن تفهم تمامًا ما رأت، كانت تدرك أن ما حدث لم يكن عاديًا.
“لا أذكر شيئًا.”
اختارت أدورا الكذب خوفًا، خوفًا من أن يعود ذلك الرجل ليقتلها. خضعت لذلك الخوف الغامض، فطمأنها من حولها. فهم الجميع أنها فقدت الذاكرة بسبب الصدمة، بل شعروا أن نسيانها قد يكون أفضل.
لم يشك أحد في كذبها.
قام أقارب عائلة ألفريد بإجراء مراسم دفن العائلة بالنيابة عن أدورا. كان الجميع في الجنازة يغرقون في البكاء، يرثون المأساة ويبكون حال أدورا التي فقدت عائلتها.
بينما كان الجميع يبكون بحرقة، كانت أدورا واقفة بوجه بلا تعبير. حينها اتخذت قرارها.
ستحمل السيف بدلاً من الورود، كما أرادت والدتها.
انتشرت شائعات عن نجاتها وفقدانها للذاكرة، ولم يظهر القتلة مجددًا. على الرغم من أنها ظلت تستيقظ من كوابيس تشعر فيها أن الرجل الذي قتل والدتها سيظهر، سرعان ما استعادت حياتها الطبيعية.
لكن، الكلمات التي نطقتها كانت مثل لعنة تطاردها. ربما حافظت على حياتها بتظاهرها بالنسيان، لكنها لم تستطع الهروب من ذكريات تلك الليلة أبدًا. ومع مرور الوقت، لم يبق في قلبها سوى الكراهية.
في عامها الثالث عشر، اكتشفت أدورا أخيرًا هوية القتلة الذين دمروا عائلتها.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
Chapters
Comments
- 2 2025-07-24
- 1 2025-07-24
- 0 - المُقدمة 2025-07-24
التعليقات لهذا الفصل " 2"