ومع اقتراب وجهه الصافي منها، ابتلعت آدورا ريقها لا شعوريًا.
“هل نشرب المزيد؟”
“أجل، لـ-لماذا؟”
رفع كأسه الفارغ أمامها.
رفعت آدورا كأسها هي الأخرى، ونظرت إليه ثم إلى وجهه بذهول، بينما قال هو بخجل: “كما أخبرتُكِ قبل قليل،أشعر بتوتر شديد. فكرتُ أن نتحدث قليلًا لنذيب هذا الجليد…ربما نتشارك بعض الأسئلة أو ندردش فحسب. بما أننا سنمضي حياتنا معًا، لن يضرنا أن يتعرف كل منا على الآخر.”
“آه.. نعم، حوار.. فكرةٌ جيدة.”
“يقولون إن الأجواء هي أهم شيء في مثل هذه المواقف.”
“الأجواء.. نعم، هي مهمة بلا شك.”
“إذًا؟”
“إذا كان سموك يرى ذلك مناسبًا..”
النبيذ هو أفضل وسيلة لتلطيف الأجواء؛ حقيقة تعلمتها آدورا من عيشها بين الفرسان.
لم يكن العرض سيئًا، لكنها أجابت ببلادة غريبة.
ابتسم ليونيل وهز جرس الاستدعاء لطلب المزيد.
لم تمر لحظات حتى كانت المائدة عامرة بزجاجات النبيذ المصطفة.
جلست آدورا أمامها ولا تزال ملامح الدهشة مرتسمة على وجهها، بينما رفع ليونيل كأسه نحوها قائلًا:
“يقولون إن الزواج رحلة من الجهد المشترك.”
“حقًا؟”
“تفضلي.”
رفعت آدورا كأسها، فملأه لها حتى حافته. وبحذر شديد، ارتشفته وهي تشعر بنظراته التي لم تفارقها حتى أنهت نصف الكأس.
“أنتِ تشربين جيدًا.”
“نعم، نوعًا ما.”
في فرقة الفرسان، كانت تشرب النبيذ من البراميل مباشرة، لذا فمثل هذه الكؤوس لا تحرك فيها ساكنًا.
في الحقيقة، كانت تود تجرع الزجاجة كاملة دفعة واحدة، لكنها تحلت بالصبر والوقار.
سكبت له هي الأخرى، ومع تبادل الكؤوس بدأ التوتر يتلاشى تدريجيًا.
لقد أثبت النبيذ مفعوله السحري مرة أخرى.
“هل هناك شيء تطلبينه مني؟”
سأل ليونيل حين بدأت النشوة تسري في الأجواء.
ردت آدورا وهي ترتشف نبيذها: “لقد أخبرتك بطلباتي قبل عرض الزواج.”
“كان ذلك قبل الزواج، أما الآن فنحن زوجان.”
فكرت آدورا في سؤاله؛ هل تختلف المطالب بعد الزفاف؟
ثم قررت أن ترد له الكرة؛ فبما أنه هو من يلقي عليها الأسئلة دائمًا، أرادت أن تراه وهو يفكر في إجابة.
“وماذا عن سموك؟ هل تطلب مني شيئًا بصفتنا زوجين؟”
اتسعت عينا ليونيل بدهشة.
“أنا؟”
“نعم.”
“بصفتنا زوجين؟”
“أجل.”
أدركت آدورا أنها أملت عليه شروطها، لكنها لم تستمع قط لما يريده هو، وشعرت بوخزة خجل لتأخرها في السؤال.
“شعركِ…”
نطق الكلمة ثم صمت فجأة.
“شعري؟” تحسست آدورا خصلات شعرها القصيرة.
كانت قد تركتها على طبيعتها استعدادًا للنوم. هل يريد منها أن تهتم به أكثر؟
“سأحاول الاعتناء به من الآن.”
“لا، ليس هذا ما قصدته.”
نظرت إليه بتساؤل، فأكمل بتردد: “أريدكِ ألا تقصيه مجددًا.”
أهذا كل شيء؟ بدا الأمر بسيطًا للغاية.
“إذا كان هذا يرضيك، فلن أقصه أبدًا.”
“هل أنتِ متأكدة؟”
“نعم.”
عادت آدورا تعبث بخصلاتها وسألت بفضول: “هل يعجبك شعري إلى هذه الدرجة؟”
تذكرت كلمات إعجابه السابقة، وتساءلت إن كان يرمي الكلام جزافًا أم أنه كان يعني ما يقول.
تردد ليونيل للحظة ثم هز رأسه بالموافقة.
كان الأمر مفاجئًا لها؛ فهي لم ترَ شعرها جميلًا قط، خاصة وأنه كان حتى وقت قريب ملطخًا بالعرق والدماء، وبدا جافًا وباهتًا مقارنة بشعر السيدات الأخريات.
بل إنه هو نفسه..
“بصراحة، لا أفهمك.”
“ماذا تقصدين؟”
“لقد قمت بـنتف شعري في أول لقاء لنا لأنك شعرت بالاشمئزاز، ألم تفعل؟”
لو كان قد طلب يدها حينها لرفضته فورًا.
رمقته بنظرة عاتبة وهي تتذكر الألم في فروة رأسها، لكن ليونيل رد بكل براءة:
كان هذا لقاءهما الرابع منذ عودته، ولاحظت أمرين؛ أنه أصبح يبتسم كثيرًا، وأنه اكتسب قدرة مذهلة على قول التفاهات.
“كيف وجدتِ الزفاف؟ كنت قلقًا لأنكِ لم تبدي أيّ رد فعل.”
“كنتُ متوترةً فحسب.”
من شدة توترها، كانت تكتفي بردود مقتضبة على المهنئين من النبلاء، فقد كان الموقف برمته جديدًا عليها.
“ألم تشعري بمضايقةٍ من أحد؟”
“لا، وماذا عن سموك؟”
كانت الطرحة تخفي وجهها المتوتر، لكنها كانت تمنعها أيضًا من رؤية ملامحه، وقد كانت فضولية لمعرفة حالته حينها.
ابتسم ليونيل بخفة:
“أنا أيضًا كنت متوترًا جدًا، حتى الزي الرسمي شعرت بـغربة فيه.”
“إذًا كلّانا في الهمِّ سواء.”
شعرت بالراحة حين علمت أنه شاركها نفس الشعور. ملأت كأسها وهي تلاحظ تراكم الزجاجات الفارغة حولهما.
“ألم يزعجكِ أحد بكلماتٍ سخيفة؟”
أنزلت آدورا الكأس عن شفتيها ورمشت بعينيها.
“من تقصد؟”
“لا أحد بعينه، مجرد سؤال.”
عادت بذاكرتها لزفافها قبل ثلاثة أيام. رغم اختصار المراسم، إلا أن الجهد المبذول كان واضحًا.
حين دخلا قاعة الرقص، اعتذر لها ليونيل هامسًا عن أي تقصير، لكنها لم ترَ نقصًا.
بدأ الحفل برقصهما معًا، وتتبعت آدورا الخطوات التي تعلمتها في وقتٍ قصير بدقة، ولحسن الحظ لم تخطئ.
بعد الرقصة، بدأ النبلاء في البحث عن شركاء لهم، وتحولت الأجواء من الوقار إلى البهجة.
جلست آدورا في المكان المخصص لها بجانب ليونيل، تحت مقعد الملك مباشرة، لتلقي التهاني.
تولى ليونيل الرد على الجميع ببراعة، مما أعفاها من الكلام.
لكنها لم تستطع الاسترخاء تمامًا؛ فقد كانت تشعر بالتوتر الدفين خلف ستار السلام الظاهري.
كان النبلاء يرمقونهما بنظرات حادة، باحثين عن أيّ زلة.
كانت تشعر بوخزات عيونهم مع كل حركة تقوم بها.
ورغم الابتسامات، كانت تقرأ في عيون البعض عداءً وكراهية؛ كانوا يفكرون “ماذا يدبر هذا الأمير المنبوذ؟”، “زواجٌ بلا مراسم حقيقية”، “عارُ العائلة الملكية”.
لقد علمتها سنوات الخدمة في فرقة الفرسان قراءة ما وراء الوجوه.
“لم يحدث ما يزعجني.”
“هذا جيد.”
رشف ليونيل نبيذه بأناقة مفرطة، حتى صوت تجرعه للنبيذ لم يكن يُسمع.
سألته آدورا: “ما الذي كان يقلقك؟”
“خفتُ أن تسمعي ترهاتهم وتهربي.”
ابتسمت آدورا وهي تتذكر ثباته أمام تلك الهمسات التي لم يكن ليجهلها.
لقد واجه عداءهم ببراعة، وظلت الابتسامة لا تفارق وجهه.
حينها فقط فهمت قوله إن إطالة المراسم لن تجلب نفعًا؛ فقد كان يعلم أن العيون لن ترحمهما.
“الجميع مهتمون بي بشدة.”
قالها هذه المرة بنبرة مختلفة. حرك خاتم الزواج في إصبعه، وبدت نظراته وكأنها تستطلع رد فعلها.
تظاهرت آدورا بعدم الانتباه ومالت بكأسها.
“قلقك ليس في محله.”
الهروب من الزفاف؟ لم تكن لتفعل شيئًا يفتقر للياقة كهذا، ولم يكن لديها سبب للقيام به أصلاً.
عاد الصمت، ولم يكن يُسمع سوى صوت ارتشافها للنبيذ، بينما كان ليونيل يراقبها بنظرة ثاقبة، قبل أن يعيد رسم ابتسامته العذبة حين رفعت رأسها إليه.
يبدو أن ليلة آدورا وليونيل ستطول مع كل هذه الزجاجات.
التعليقات لهذا الفصل " 19"