كان جالسًا بالفعل على السرير بانتظارها، يرتدي ثيابًا خفيفة تشبه ثيابها.
تقدمت آدورا نحو السرير بخطوات مثقلة بالعزم، وكأنها في طريقها لخوض معركة مصيرية.
طوال المسافة من الباب إلى السرير، لم ترفع بصرها عن الأرض، وحتى حين وصلت، ظلت تحدق في الشراشف البيضاء دون أن تجرؤ على النظر إلى ليونيل.
“أعلم أن الأمر قد يجعلكِ تشعرين بعدم الارتياح، لكن من الغريب أن ينام كل منا في غرفةٍ منفصلةٍ منذ الليلة الأولى.”
“أوافقك الرأي.”
“أعتقد أنه يتعين علينا تقاسم الفراش لفترة من الوقت.”
“أجل.”
أجابت آدورا بجمود ثم صعدت إلى السرير، فأصدر الخشب أنينًا خفيفًا. احتارت؛ أتبقي جالسة أم تستلقي؟ وفي النهاية اختارت الاستلقاء.
حدقت في السقف وهي تغرق في هواجسها.
‘ماذا عليّ أن أفعل الآن؟’
كانت تدرك أن هذه الليلة لا تحمل معانٍ عميقة؛ فزواجهما لم يقم على الحب، ومجيئه لغرفتها ليس إلا للحفاظ على المظاهر أمام الآخرين كما قال.
من المؤكد أن الليلة ستمر بسلام دون أي حدث يُذكر. نعم، هكذا أقنعت نفسها.
حاولت تنظيم أنفاسها المتوترة، لكنها شعرت بجانب السرير يميل تحت ثقله.
خفق قلبها بقوة كادت تخترق صدرها، واسترجعت فجأة أحاديث رفاقها الفرسان عن ليالي الزفاف وتفاصيلها الدقيقة التي كانوا يروونها بجرأة.
‘لا، لا يمكنني التحمل!’
فكرت في التظاهر بالنوم، لكن هل يصح ذلك؟ هل تسأله عما ينوي فعله؟
وبينما كانت تصارع أفكارها، ظهر وجهه الجميل فجأة فوق وجهها.
“آدورا.”
“نعم!”
انتفضت آدورا عن أفكارها وكأنها لُدغت، وكاد جبينها يصطدم بجبينه.
حين التفتت، رأت ملامحه المتفاجئة، وإن كانت هي الأكثر فزعًا.
تراجعت للخلف بحذر وهي ترمقه بنظرة متوجسة، ثم تداركت نفسها.
‘هل من المفترض أن أحذر منه الآن؟’
“فكرتُ أن نشرب بعض النبيذ.”
“نعم؟”
“سيكون من المؤسف تركه يضيع سدى.”
أشار بيده إلى طاولة في زاوية الغرفة، وضع عليها جون نبيذًا وكأسين وبعض الوجبات الخفيفة.
بدا أن جون أراد لهما أن يستعينا برشفات من الخمر لإذابة الجليد.
“أشعر أن النوم لن يأتيني الليلة.”
“آه..”
“أتمانعين؟”
“لا، على الرحب والسعة.”
نهض ليونيل وأحضر النبيذ وجلس بجانبها على طرف السرير.
انساب السائل الأحمر القاتم في الكؤوس، بينما كانت آدورا تراقب الكأس بتركيز مبالغ فيه. جلس بجانبها فاهتز السرير مرة أخرى، مما جعلها تضم كتفيها لا شعوريًا.
تجمد الجو بينهما؛ آدورا تحتسي نبيذها بسرعة، وليونيل يرشفه ببطء شديد. كان صمتًا يقطر بالارتباك.
بحثت في عقلها عن أي موضوع لكسر هذا الجمود.
“سموك، كيف وجدتَ الأمر قبل قليل؟”
“ممم.. مائدة الطعام كانت صغيرة ولطيفة.”
“وهل أعجبك الطعام؟”
ابتسم ليونيل قائلًا: “أوه، كان لذيذًا حقًا.”
“هذا يطمئنني. في الواقع، أعدّ خدم عائلتنا هذه المأدبة احتفالًا بزواجنا.”
“يسعدني حقًا أنهم استقبلوني بهذا الترحيب.”
“أجل، يبدو كذلك.” هزت آدورا رأسها بالموافقة.
“يبدون أشخاصًا طيبين.”
“إنهم أوفياء، ساندوا هذه العائلة المتواضعة لسنوات طويلة.”
تذكرت تلك الليلة المأساوية؛ الناجون من الخدم حينها إما أصيبوا بعاهاتٍ دائمة منعتهم من العمل أو فضلوا الرحيل لهول ما رأوا.
لم يبقَ في قصر ألفريد إلا القليل، وهم بالنسبة لآدورا بمثابة العائلة.
“لا بد أن الروابط بينكم عميقة.”
“نعم، إنهم كعائلتي تمامًا.”
غاصت آدورا في ذكرياتها قبل أن تنتبه لصمت ليونيل.
كان يبدو غارقًا في التفكير ونظره شارد بعيدًا، وحين لاحظ تساؤل عينيها، هز رأسه نافيًا: “بما أنهم أعزاء عليكِ، سأحرص أنا أيضًا على معاملتهم بكل تقدير.”
“أشكرك جزيل الشكر.”
“حسنًا، سأبذل قصارى جهدي.”
‘جهدك في ماذا؟’ تساءلت آدورا في سرها، بينما عاد ليونيل لرشف النبيذ.
“أشم رائحة عطر.” قال فجأة.
“من النبيذ؟” استنشقت آدورا الكأس، لم تكن هناك رائحة غريبة، مجرد عبق العنب المعتق.
“لا، منكِ أنتِ.. رائحةٌ حلوة.”
“آه، لا بد أنه الزيت العطري.”
فركت آدورا ذراعها بأنفها. لقد أصرت الخادمات على تلطيخ جسدها به بدعوى أنه ضروري لليلة سعيدة، رغم أن حاسة شمها القوية لم تستسغ تلك الرائحة السكرية.
“أنا أيضًا وضعت منه.”
“ماذا؟ أنت أيضًا؟”
“أجل، انظري.”
مال ليونيل نحوها وسند يده بجانبها، فانسدل شعره الأبيض أمام وجهها.
تجمدت آدورا تمامًا. توقف عنقه قبالة أنفها، وبالفعل فاحت منه رائحة زهور تشبه رائحتها.
“ما رأيكِ؟”
“تفوح منه.. رائحة.”
“هل هي الرائحة التي تحبينها؟”
“لستُ متأكدة.”
تراجع ليونيل قليلًا وبدا عليه خيبة أمل طفيفة: “وجدته مُعدًا فظننت أنه ذوقكِ، أردتُ أن أبدو في أبهى صورة أمام زوجتي في ليلتنا الأولى.”
“لم يكن الأمر كذلك أبدًا.”
هزت رأسها نافية.
“حقًا؟ يا للأسف. كنت أرغب بشدة في نيل إعجابكِ.”
“ولماذا تهتم بنيل إعجابي؟”
“وكيف لا أهتم؟ أنتِ الشخص الذي سيتحمل مسؤوليتي من الآن فصاعدًا.”
“……”
“أقصد، لا أريدكِ أن تحمي حياتي فحسب، بل بما أنني أصبحت فردًا من عائلة ألفريد، فأنتِ المسؤولة عني كسيدةٍ للعائلة.”
“أفهم ذلك…”
ساد الصمت مجددًا، لكنه كان أثقل هذه المرة.
جرعت آدورا النبيذ جرعة واحدة، فلم تجد وسيلة أخرى لتحمل هذه الليلة سوى السكر.
“قد يكون من المحرج قول هذا فجأة..”
بدأ ليونيل الكلام مجددًا، فالتفتت إليه.
“لكنكِ أنتِ شريكتي الأولى.”
اعترف ليونيل بوجهٍ أحمرٍ خجول، فبصقت آدورا النبيذ من فمها وانفجرت في سعالٍ حاد.
سارع ليونيل بالتربيت على ظهرها بخوف.
“هل أنتِ بخير؟”
“كح.. كح.. نعم، أنا بخير.”
مسحت النبيذ عن ذقنها ونظرت إليه؛ كان وجهه القلق لا يوحي بأي نية خبيثة.
‘ماذا دهاه؟ هل ما سمعته كان حقيقة؟’
ناولها كأس ماء وقربه من شفتيها بنفسه.
“اشربي ببطء، لا أحد سيخطفه منكِ.”
كانت لمسته مربكة، لكن برودة الماء أنقذت حلقها.
“أريد حقًا أن تكون علاقتنا جيدة يا آدورا. أريد أن أبدو زوجًا صالحًا ولا أريد أن يجد الآخرون ثغرة في علاقتنا. هل تفهمين؟”
“نعم، أفهم.”
“جيد، إذًا تفهمين ما أريد قوله الآن.”
هل هناك المزيد؟
“كنت أفكر كثيرًا وأنا أنتظركِ.. هل يجب أن أخلع ثيابي وأنتظركِ هكذا؟”
“ماذا؟!”
اتسعت عيناها بذهول ورمقت رداءه بسرعة.
هل كان ينوي حقًا البقاء عاريًا؟ هل يحاول إفقادها صوابها؟
“أعلم أنكِ لم تتزوجيني عن حب، لكننا الآن زوجان أمام العالم، ولا يمكننا ترك هذه الليلة تمر هكذا. سيظن الناس سوءًا، وقد سمعتُ أن إهمال الزوجة في ليلتها الأولى يجعل الحياة الزوجية صعبة لاحقًا.”
“ومن قال لك هذا؟”
“ميلر.”
“.…..”
“إنّه خادمي.”
خادمه؟ ذلك الرجل الرزين والوقور الذي يشبه الجندي؟ هل هو من أعطاه هذه النصيحة؟
“وهل هذا السيد ميلر متزوج؟”
“لا.”
“إذًا كيف يقدم نصائح كهذه!” تنهدت آدورا، فميلر وليونيل يبدوان غريبين حقًا.
“آدورا.” ناداها فجأة بنبرة خالية من المزاح.
“ماذا عنكِ أنتِ؟”
“أنا؟”
“أريد أن أسمع رأيكِ، هل يجب أن ندع هذه الليلة تمر كأي ليلة عادية؟”
لم تستطع الرد. لم تكن تملك أدنى فكرة، تمامًا مثله.
طوال حياتها لم تهتم إلا بالانتقام، ولم تعرف شيئًا عن علاقات الرجال والنساء إلا سماعًا.
“أنا لا أكرهكِ بالطبع.” اقترب صوته من أذنها كأنها لمسة ناعمة.
شعرت آدورا بتصلب جسدها من شدة التوتر، وبدا أنه هو الآخر يشعر بنفس الشيء؛ فرموشه البيضاء الطويلة كانت ترتجف.
“وإن كنتِ أنتِ أيضًا لا تكرهينني..”
رفع رموشه لتلتقي عيناه الرمادية الزرقاء بعينيها.
كانت تلك النظرة هي نقطة ضعفها دائمًا؛ نظرة ثابتة تحاول تصفيد روحها.
“هل ترفضين؟”
لم تدرِ إن كان يقصد رفضه هو أم رفض الموقف، وبينما كانت تحاول نطق كلمة واحدة، مال بوجهه أكثر، وبدت نظرته المتسائلة وكأنها تداعبها بخبث.
تلمست أصابعه ظهر يدها، ففاحت منه رائحة العطر الحلوة التي وضعاها.
كانت تظن أن هذه الليلة ستمر ببرود، لكن الهواء في الغرفة بدأ يسخن فجأة، ويتشبع برغبة لم تكن في الحسبان.
التعليقات لهذا الفصل " 18"