باختصار، استغرق التحضير للزفاف شهرًا كاملًا، لا خمسة عشر يومًا كما اقترح ليونيل؛ فإتمام التجهيزات في ذلك الوقت القصير كان ضربًا من المستحيل، بل لم يكن منطقيًا من الأساس.
ورغم أن شهرًا واحدًا يُعد وقتًا قياسيًا مقارنة بالأعراف، إلا أنه كان الحل الوسط لتأجيل الموعد الأولي.
لم تقف آدورا مكتوفة الأيدي خلال تلك الفترة، فرغم تكفل القصر الملكي بمعظم الترتيبات، إلا أنها رفضت أن تكون مجرد ضيفٍ في زفافها.
تشاورت مع جون واختارت بعض المهام لتتولاها عائلتها، ورغم اعتراضات القصر الضمنية، إلا أنها تجاهلتها ببرود.
‘أكثر ما يقلقني هو ثوب الزفاف.’
كان عليها تجهيزه في الوقت المحدد مهما بلغت التكاليف.
وعلى الرغم من وعود ليونيل بإرسال خياطين من القصر، إلا أنها لم تشأ الاعتماد عليهم كليًا في كل تفصيلة، فقد استولوا بالفعل على معظم الإجراءات.
في تلك الأثناء، دخل جون إلى غرفتها حاملًا صندوقًا مستطيلًا، بينما كانت هي تهمُّ بالبحث عنه لطلب خياط ماهر.
“وجدتُ هذا أثناء ترتيب غرفة السيدة الراحلة.”
“ما هذا؟”
بدا الصندوق عتيقًا، يفوح منه عبق الماضي.
فتحه جون دون كلمة، لتجد آدورا قطعة ثيابٍ بيضاء مطوية بعناية فائقة.
أخرجتها ببطء، فانسدل فستان طويل يكاد يلامس الأرض، لونه يميل للصفرة قليلًا بفعل الزمن، لكنه كان يحمل هويةٌ واضحة.
إنّه ثوب زفاف والدتها.
“هذا يخص أمي..”
“نعم.” هز جون رأسه بابتسامة دافئة.
مررت آدورا أناملها برفق فوق النسيج، ثم وقفت أمام المرآة تضعه فوق جسدها بتردد.
لم يكن الفستان معقدًا؛ بل صُمم بأسلوب يسمح بارتدائه كقطعة واحدة دون طبقات خانقة. لم يتكلف الزينة، فجماله يكمن في ياقة من الدانتيل تلتف حول العنق والكتفين، وأكمام تنسدل كالمروحة وتخفق مع كل حركة، وتنورة تتسع بهدوء من الخصر وزينت حوافها بنقوش زهور رقيقة.
كان الثوب محتشمًا يغطي العنق تمامًا، تمامًا كذوق والدتها الرصين.
“إنه جميل.”
ابتسمت وهي تتخيل والدتها، العروس الخجولة، وهي تقف بهذا الثوب الأبيض الناصع في يوم عرسها. لا بد أنها كانت جميلةً.
“إذا رغبتِ، سأقوم بإصلاحه لترتديه في زفافكِ.”
“في زفافي أنا؟”
“أجل.”
نظرت آدورا لنفسها في المرآة مرة أخرى.
لم يسبق لها أن تخيلت نفسها في ثياب كهذه، وشعرت بغربة تجاه مظهرها.
كان الفستان ضيقًا عليها، فوالدتها كانت رقيقة البنيان، بينما آدورا ببنيتها القوية وعضلاتها التي اكتسبتها من الفروسية، كانت ستجد صعوبة في اتردائه، خاصةً الجزء العلوي الضيق.
“سيكون من الصعب إصلاحه حتى لو أضفنا بعض القماش.”
بدا الأمر وكأنه يحتاج لإعادة خياطة شاملة، وتساءلت إن كان من الأفضل صنع فستان جديد يليق بزفاف أمير؛ ثوب أكثر فخامة وتطريزًا وتنورة أكثر اتساعًا.
“سأجد أمهر خياطٍ في المملكة.”
أشعل جون في داخله إصرارًا غريبًا على تنفيذ المهمة.
ورغم شكوكها، تركت آدورا الفستان له قائلةً: “أعتمد عليك إذًا.”
وبالفعل، بعد بحث مضنٍ، وجد جون متجرًا وافق على المهمة، وكان شرطهم أن شهرًا هو الحد الأدنى للعمل، مما عزز سبب تمديد فترة التحضير.
و بعد مرور شهرٍ وأسبوع، أُقيم أخيرًا حفل زفاف آدورا ألفريد والأمير ليونيل ليونيك غلوريوس في كنيسة القصر.
الزفاف الذي ضجت به أرجاء المملكة جاء متواضعًا وهادئًا على نحو مفاجئ.
تحت سقف مزين بجدارية لملائكة تصعد نحو السماء، وقف العروسان.
كان حضور الأمير الرابع، صاحب الشائعات التي لا تنتهي، كفيلًا بفرض الصمت والرهبة في المكان.
بدا في زيه الرسمي أكثر إبهارًا من التماثيل الذهبية المصطفة خلف المذبح. وبجانبه، بدت آدورا في ثوبها الأبيض رقيقة وجميلة، حتى لَيصعب تصديق أنها قائدة الفرسان الخضر التي كانت تخوض غمار الدماء والمعارك قبل أكثر من شهرٍ واحد فقط.
كان الفستان، الذي كلفهم جهد شهر من العمل، يناسبها تمامًا وكأنه صُنع لها بلمسة سحرية، مع الحفاظ على تصميمه الأصلي.
عبثت آدورا بطرف طرحتها التي اضطرت لارتدائها بسبب شعرها القصير، وشعرت بغرابة ملمس الدانتيل الناعم تحت أناملها.
أخفت يدها المليئة بالندوب داخل قفازات حريرية، وقبضت على باقة الورد بقوة حتى كادت تكسرها من فرط التوتر، ثم أرخت يدها بسرعة.
كانت آدورا متصلبة تمامًا تحت الطرحة، فمراسم الزفاف كانت أكثر رهبة لها من ساحات القتال.
“إنه غير مريح…”
همست لنفسها وهي تتبادل الوعود مع شريكها. وحين تلامست يداهما لإتمام العهد، وصلها صوتٌ خفيضٌ لا يسمعه غيرها.
“تبدين جميلةً.. فلا تقلقي.”
كان صوته تعزيةً رقيقة. رفعت رأسها قليلًا، فرأت ملامحه من خلف غلالة الطرحة تبدو وكأنها تبتسم.
لم تدرك أن نظراته لم تفارقها طوال المراسم، لكنها شعرت بحرارة كفه، كانت أبرد من يدها، وكان اهتزازه الطفيف الملموس أبلغ في طمأنتها من كل الكلمات.
انتهى الزفاف في يوم واحد بعد خطاب الملك ومباركة كبار النبلاء. ورغم أن الناس هنأوا العروسين علانية، إلا أن الهمسات لم تنقطع خلف الستائر عن سر هذا الزواج المتعجل والمختصر.
بعد مأدبة وحفل راقص استمر حتى ساعة متأخرة، غادر الزوجان القصر في عربة متجهة إلى قصر ألفريد. استغرقت الرحلة ثلاثة أيام، وصلا بعدها منهكين تمامًا.
كان الليل دامسًا حين ترجلت آدورا من العربة، ودخلت المنزل وسط ترحيب الخدم.
توجهت بخطى متثاقلة نحو غرفتها، وتبِعها جون.
“جون، اهتم بالأمير وبمن معه.”
“حاضر، ولكن يا سيدتي، هل تودين تناول العشاء أم الاستعداد للنوم فورًا؟”
“أي استعداد؟” سألت وهي تفرك وجهها المتعب.
“أقصد.. أليست هذه ليلتكما الأولى رسميًا؟”
طار التعب من عينيها في لحظة.
الليلة الأولى.
نعم، عليها مواجهة هذا الأمر مع ليونيل الليلة.
“آه.. حسنًا، لنأكل أولًا.”
“في الواقع، أعددنا مأدبة بسيطة للاحتفال بكما هنا.”
توجهت آدورا للمطعم لتفاجأ بمائدة عامرة بالأطباق الفاخرة التي تبدو وكأنها تهدف لإغواء القلوب!
‘بسيطة؟ أين البساطة في هذا؟’
كانت الأطباق تملأ الفراغ بينها وبين ليونيل الجالس قبالتها.
هل هذا هو جون الحقيقي الذي كان يعارض الزواج؟
“وهذا حساء اللحم المفروم..” أضاف جون طبقًا جديدًا.
زفرت آدورا وهي ترى كميات الطعام؛ كان هناك الكثير لدرجة تجعل المرء يحتار من أين يبدأ.
بعد عشاء دسم، غادرت آدورا غرفة الطعام وهي تشعر بثقل في معدتها، واتجهت للاغتسال.
كان الخدم يتحركون بنشاط غير معتاد الليلة، مما زاد من شعورها بالخجل.
ارتدت فستان نوم رقيقًا وسهل النزع، وهو ما ضاعف ارتباكها، خاصة مع دعوات الخادمات لها بـ “ليلة سعيدة”.
قبل الذهاب لغرفة النوم، مرت بمكتبها وتناولت دواءها، مضغت الحبة ببطء شديد هذه المرة، ثم سارت نحو الغرفة بخطى وئيدة.
كان الباب المغلق يبدو مخيفًا.
أخذت نفسًا عميقًا وفتحت الباب ببطء. ومع انفراج الفتحة، ظهرت ملامح الغرفة، وظهر فيها الأمير الرابع بانتظارها.
التعليقات لهذا الفصل " 17"