قبل أن تترك سلك الفرسان، قدم لها الطبيب كيسًا صغيرًا يحتوي على عقاقير، وأخبرها أن الكمية تكفي لثلاثة أشهر.
“هذا مجرد حلٍّ مؤقت، فحالتكِ ستزداد سوءًا مع مرور الوقتِ.”
رغم إلحاح الطبيب على تلقي العلاج، إلا أن آدورا كانت تدرك في قرارة نفسها أن لا طريقةَ للشفاءِ؛ فلو كان ثمة سبيلٌ للنجاة، لما رحلت جدتها بتلك الطريقة.
وضعت آدورا حبةً سوداء مستديرة في فمها.
كان مَذاقها مرٌّ لا يُطاق، لكنها مضغتها بتململ وهي تُحكم ربط الكيس.
ثم قلبت بين أصابعها زجاجةً صغيرة لا يتجاوز حجمها طول الإصبع كانت بجانبها.
—”استخدميها عند اشتداد الألم، ستمنحكِ راحةً مؤقتة.”
أمسكت آدورا بالزجاجة برهةً قبل أن تفتح درج المكتب، وضعتها مع كيس الدواء ثم أغلقت الدرج وأوصدته بمفتاح صغير، خَبأته في صندوق مزخرف بنقوش ذهبية متشابكة كأوراق اللبلاب.
كان ذلك الصندوق مخصصًا لختم العائلة، مما يجعله مكانًا مثاليًا لإخفاء المفتاح؛ فلا أحد يجرؤ على العبث به.
استندت آدورا بظهرها إلى الكرسي، وأمالت رأسها للخلف وهي تزيح خصلات شعرها المموج بيدها اليسرى.
تسللت تنهيدةٌ رطبة من بين شفتيها المنفرجتين قليلًا، بينما كانت تعبث بطرف رداء الروب الرقيق الذي يلف جسدها.
كانت تشعر بتوتر شديد لم تعهده منذ زمن بعيد.
ولِمَ لا، واليوم هي ليلتها الأولى مع الأمير الرابع.
بعد قبولها عرض ليونيل، كان جون هو أول من أطلعته على هذا القرار.
في الحقيقة، كانت قد ذهبت للقائه وهي تعد جون بكل ثقة أنّها”ستحل الأمر دون قلق”، لكنها عادت إليه بخبر قبول الزواج!
نظر جون إلى باقة الورد الأحمر في يدها، واستمع لحديثها في صمت، ثم لم يزد على قوله غير كلمة “فهمت” بوجهٍ تعلوه ملامح الاستياء.
توقعت آدورا أن يعترض أو يسألها عن سبب هذا الاختيار، لكن رده الهادئ المتقبل للأمر أثار حيرتها.
“هذا غريب، ظننتك ستمطرني بالتوبيخ.”
“في مثل عمري هذا، يكتسب المرء حدسًا لا يخطئ.”
شعرت آدورا بالحرج فعبثت بالباقة بين يديها. ربما أدرك جون ترددها حتى قبل أن تدركه هي نفسها.
“رغم أنكِ قلتِ سابقًا إنه لا توجد بينكما علاقة من هذا القبيل…”
بالتأكيد لم يكن كلامه يخلو من العتاب المبطن.
ولكي تهرب من سيل التوبيخ المتوقع، ناولت آدورا الباقة لجون بسرعة محاولةً توضيح سوء الفهم: “لقد أرسلها لأنه يحب الورود الحمراء فحسب.”
“يا له من ذوقٍ..”
ولم يكمل جملته، لكن نظرته للورود كأنها شيء غريب كانت كافية لإيصال المعنى.
بعد ذلك، راسلت آدورا تيريك لتخبره بالخبر، وفاءً بوعدها بأن يكون أول من يعلم حين تختار شريك حياتها.
كانت تخشى كتابة الرسالة لأن قرارها جعل نصيحته السابقة تبدو بلا قيمة، وبالفعل، جاء الرد مليئًا بالتوبيخ الممزوج بالقلق، حتى كادت عيناها تتعب من كثرة الكلمات المتراصة.
ولحسن حظها، كان تيريك غارقًا في أعماله لدرجة تمنعه من القدوم إلى هذه المنطقة النائية.
ثم شرعت في الرد على أكوام عروض الزواج التي تراكمت لديها بالرفض.
وبسبب كثرتها، واجهت صعوبة في كتابتها واحدًا تلو الآخر، حتى أنقذها جون ببلاغته المعهودة، فصاغ الردود ببراعة وسرعة.
حين انتهت من كل تلك الأمور، استقبلت أخيرًا صباحًا هادئًا، والتقت بليونيل مجددًا.
بدا في ذلك اللقاء أكثر بريقًا من ذي قبل، ووجهه المبتسم يفيض ببهجة غير معتادة، حتى إنه لوّح لها بيده بوضوحٍ.
هل كان سعيدًا بقبولها العرض إلى هذا الحد؟ أم تراه كان يشعر بالارتياح فقط؟
على أية حال، وبما أنها قبلت العرض، كان لا بد من مناقشة ترتيبات الزفاف.
فالزواج يتبعه الكثير من التفاصيل؛ تبادل الصور الشخصية بين العائلتين، وتحديد المواعيد، ومناقشة التكاليف، والمهر، والهدايا التي تتلقاها العروس، وتوزيع الممتلكات في حال الوفاة، وغيرها من التجهيزات الرسمية.
“سموك، متى تخطط لإقامة مراسم الزفاف؟”
سألته آدورا لتستطلع رأيه. فزواج المنتمين للعائلة الملكية يتطلب تحضيرات تفوق زواج النبلاء العاديين، ويحتاج وقتًا طويلًا.
لا تزال تذكر زفاف ولي العهد الذي حضره النبلاء وسفراء الدول الأخرى.
“أفكر في إقامته بعد خمسة عشر يومًا.”
“بهذه السرعة؟!” صرخت آدورا بدهشة.
“ألم تقولي إنكِ تريدين الإسراع بالأمر؟”
“بلى، قلت ذلك، ولكن..”
أليس هذا تسرعًا مبالغًا فيه؟ الزواج ليس أمرًا يُنجز بلمحة بصر.
“الوقت ضيقٌ للغاية، نحتاج زمنًا لتجهيز المراسم.”
“سأتكفل أنا بكل شيء، لا داعي لأن تشغلي بالكِ.”
“هل سيقام في القصر الملكي؟”
“هذا هو المفترض.”
كانت تتوقع ذلك، فلا يوجد مكان أنسب لزفاف أمير.
لكن رغم ذلك، خمسة عشر يومًا لا تكفي حتى لتبادل الصور الرسمية، فكيف بتجهيزات تليق بحضور الملك والنبلاء؟
“حتى وإن كان القصر هو من سيجهز، فالمدة قصيرة جدًا.”
“سأختصر الإجراءات غير الضرورية قدر الإمكان لنهي الأمر في يوم واحد، ثم نعود فورًا إلى قصر ألفريد.”
“ماذا؟ فورًا؟ هل هذا مسموح؟”
ظنت آدورا أنهما سيقيمان هناك لعدة أيام لحضور المآدب والحفلات الراقصة التي تلي الزفاف.
هل يعقل اختصار كل ذلك؟ وهل يملك القرار في أمر كهذا؟
شعرت آدورا بالقلق، لكن ليونيل بدا غير مبالٍ.
“بلى، مسموح. لستُ ولي العهد، فلا حاجة للتمسك بكل المراسم. المهم في هذا الزواج هو أنا وأنتِ، وهذا يكفي.”
“ولكن مع ذلك..”
زفاف بـإجراءات مختصرة؟ هذا لا يليق بمكانته، وتستطيع تخيل ما سيهمس به الناس خلف ظهرهما.
ستضاف قصة أخرى سيئة لسمعته، وكان من الأفضل استغراق وقت أطول لتجنب الأقاويل.
“هل هناك داعٍ حقًا لهذا الاستعجال؟”
رغم أنها هي من أرادت السرعة، إلا أن هذا بدا مفرطًا.
وحين سألته بحذر، بدا ليونيل هو الآخر مستغربًا.
“ألم تقولي إنكِ تريدين زواجًا بسيطًا وسريعًا؟”
رمشت آدورا بعينيها بذهول.
“كان ذلك… مجرد كلام.”
قالت ذلك ظنًا منها أنه سيرفض، فقد كانت حينها تحاول التهرب من عرضه المفاجئ بأيّ عذر.
لم تتخيل أبدًا أنه سيأخذ كلماتها على محمل الجد.
لم تكن آدورا تصر على زفاف متواضع تمامًا، فرغم أنها لا تحب المبالغة، إلا أنها كانت مستعدة لاحترام رغباته ومكانته، خاصة وأن العيون ستكون مسلطة عليهما.
“مجرد كلام؟”
“نعم، إن كان السبب هو ما قلته، فلا داعي لذلك. سألتزم بما يناسب مقام سموك.”
“إذًا لماذا قلتِ ذلك من البداية؟” أمال ليونيل رأسه بتساؤل.
توقفت أصابع آدورا عن العبث بطرف فنجان الشاي.
لم تستطع إخباره أنها كانت تحاول صده، فتمتمت بكلمات غير مفهومة وهي ترتشف الشاي.
ولحسن الحظ، لم يدقق ليونيل في الأمر.
“ليس هذا هو السبب الوحيد.”
“هل هناك سبب آخر إذًا؟”
“ليس سببًا بالمعنى الدقيق، كل ما في الأمر أنني أريد إنهاء الأمر سريعًا.”
التعليقات لهذا الفصل " 16"