“لعلهم يلقبونني بسيدة عائلة ألفريد، أو قائدة الفرسان الخضر ربما.”
“بطلة الحرب.”
حين نطق ليونيل بتلك الكلمة، أرادت آدورا أن تستفسر عن مغزاها، لكن سرعان ما تبادرت إلى ذهنها تلك القصة التي قصّها عليها تيريك قبل أيام؛ عن أن الشعب بات يراها بطلةً ملحمية، وأن أخبار بطولاتها في ميادين القتال غدت على كل لسان كأساطير تُروى.
“ألستِ أنتِ الشريكة الأنسب لي إذن؟”
فهمت آدورا مقصده في الحال.
فرغم كونه ابن الملك، إلا أن وضعه يختلف تمامًا عن سائر الأمراء.
إنه الأمير الذي يجري في عروقه دم الأعداء، وبسبب ذلك كان يُنظر إليه دائمًا كعنصر قلق.
ورغم كونه أميرًا رسميًا لمملكة غلوريوس، إلا أن لا أحد يعرف أيّ أثرٍ سيتركه هذا الدم المختلط في المستقبل، أو ما يضمره تجاه موطن عائلة والدته، وهذا ما جعل الشك يحوم حوله باستمرار.
حتى أن بعض الحاشية، خوفًا من أن يميل قلبه لموطنه الأصلي ويثير الفتن في البلاط الملكي، طالبوا بحبسه في مكان لا يستطيع أحدٌ دخوله ولا هو يستطيع الخروج منه.
فإذا قرر أميرٌ كهذا الزواج ومغادرة أسوار القلعة، فإن الذين ضاقوا بوجوده لن يقفوا مكتوفي الأيدي؛ فإما أن يعترضوا على الزواج، أو يحاولوا تغيير العروس، أو ربما يستغلون الفرصة للتخلص من هذا الأمير الذي كان كالشوكة في حلوقهم.
ولكن، ماذا لو كانت شريكة حياته هي بطلة الحرب التي يقدسها الشعب؟
تلك التي قطعت رأس قائد الأعداء وحققت النصر المؤزر للمملكة؟
وجودها بجانبه سيعني للمتربصين وجود رقيب مخلص، مما يجعل الموقف في صالحهم.
علاوة على ذلك، فهي من عائلة ألفريد التي شاعَ أن مأساتها حصلت على يد جواسيس الأعداء؛ فكونها الوريثة الوحيدة التي نجت من تلك المجزرة يجعلها الخيار الأمثل.
فلن تتهاون في مراقبة أميرٍ يحمل دم القتلة، وسيكون من السهل التفاوض معها عند الضرورة.
إن طبيعة النفس البشرية تميل للاسترخاء عند أدنى شعور بالأمان؛ ففكرة أن هذا الرجل قد يشكل خطرًا يومًا ما، لكن لا حاجة للتحرك ضده الآن، كفيلة بمنحه فرصة للعيش.
وحتى لو فرضوا عليه رقابة، فإنه بمجرد ابتعاده عن طموح العرش وعيشه بهدوء، سيتلاشى هذا الاهتمام به مع مرور الزمن.
“إذن، في النهاية، أنت تريد استغلالي فحسب.”
هز ليونيل رأسه نفيًا.
“بل أريد أن أستجدي منكِ الحياة.”
“لا تقل مثل هذا الكلام، أخشى أن يسمعك أحد.”
قطبت آدورا حاجبيها قلقًا. فرغم خلو المكان من المارة، إلا أن خادمه وحارسيه كانوا يقفون على مسافة منهما، وعلى بعدٍ أكبر كانت تقف العربات والحاشية بانتظارهما.
“أليست هذه هي الحقيقة؟ أنا الآن أستجديكِ أن تنقذي حياتي، وأتوسل إليكِ أن تحميني بمكانتكِ وسمعتكِ.”
ابتلعت آدورا غصةً مريرة.
فقوله إنها الوحيدة المناسبة لم يكن محض كذب؛ فبسبب مكانتها لم تكن هي الخيار المتوقع، ولهذا السبب تحديدًا كانت هي الأنسب.
“وليس هذا هو السبب الوحيد. كما قلتِ، ربما لو بحثتُ لوجدتُ عائلاتٍ بظروفٍ أفضل، لكنكِ الشخص الوحيد الذي لن يتعامل مع عرضي بخفة.”
“لستُ أنا وحدي.. أي شخص كان سيأخذ عرض سموك على محمل الجد.”
حاولت آدورا معارضته بلطف، لكن ليونيل اكتفى بابتسامة باهتة، وكأنه أدرك أنها تحاول مواساته ليس إلا.
فهو الذي ترعرع وسط الإهانات منذ ولادته، يدرك تمامًا نظرة الناس إليه، ولا تغيب عنه تلك المخاوف التي لابدّ أنّها سمعتها هي من الآخرين.
“أنتِ امرأةٌ حنونةٌ ورقيقةٌ للغاية.”
شعرت آدورا بأن نبرة صوته قد تغيرت فجأةً.
ولأنها لم تسمع مثل هذا الوصف في حياتها قط، قطبت حاجبيها مجددًا.
“لستُ كذلك.”
“أنتِ لا تعرفين نفسكِ. الشخص اللطيف حقًا ليس من يوزع اللطف على الجميع في كل وقت، بل هو ذاك الذي يظل ثابتًا وصادقًا حتى حين يتخلى الجميع عن طيبته و لطفه.”
“……”
“وأنتِ من هذا الطراز.”
كان ليونيل يبتسم. ورغم أنه حافظ على ابتسامته منذ لقائهما، إلا أن هذه الابتسامة كانت مختلفة؛ كانت تحمل دافئًا يوحي وكأنه أخرج مشاعر ثمينة كان يخبئها في أعماق قلبه بعناية.
“لأنني أعرفُ معدنكِ هذا، جئتُ اليوم أستجدي حياتي؛ فأنا أعلم أن حنانكِ و قلبكِ هذا لن يسمح لكِ بأن تتركيني لمصيري.”
“……”
تحركت شفتا آدورا كأنها تريد الكلام، لكنها أطبقت عليهما والتفتت لترى الطيور في البحيرة وقد خرجت إلى اليابسة لتأخذ غفوة، واقفتًا على قدم واحدة ورؤوسها مائلة للخلف.
كان منظرها الجماعي مضحكًا، مما ساعد آدورا على تهدئة الارتباك الذي غزا قلبها فجأة.
هبت نسمة ريح بددت ذلك الجمود الذي خيّم على الجو، فلامست ياقة فستانها بشرتها، واصطدم رباط قبعتها بذقنها.
شعرت بوخز خفيف، لكن كلمات ليونيل كانت أكثر وخزًا وإثارةً للحيرة من تلك الريح.
“إذا حققتُ لكَ ما تصبو إليه يا سمو الأمير، فماذا ستقدم لي في المقابل؟”
كان جوابًا يقطر عذوبة، وكأنه كشف لها عن مكنونات روحه بلا قناع.
حدقت آدورا في الرجل الواقف أمامها. أيّ عزيمةٍ استلزمها لينطق بتلك الكلمات؟
وهل كان صادقًا في استجدائه للحياة إلى هذا الحد؟
لم تكن تجرؤ على الدخول إلى أغوار قلبه.
“ومع ذلك، ألم نكن نقضي وقتًا طيبًا معًا؟”
أعادت كلماته المألوفة شيئًا من الألفة، مخففةً حدة التوتر.
قطبت آدورا حاجبيها قليلًا.
‘مهما فكرتُ في الأمر، لا أرى أننا قضينا وقتًا طيبًا!’
بدا أن ملامح وجهها قد فضحت أفكارها، فتحولت ابتسامة ليونيل إلى ملامح عابثة.
“يقولون إن لكل إنسان نقطة تحول في حياته. نوعٌ من الإحساس بأن هذه اللحظة ستغير كل شيء.. يسمون ذلك قدرًا.”
القدر.. كلمة لم تبدُ متسقة مع شخصيته.
“بالنسبة لي، بدأ ذلك منذ اللحظة التي التقيتكِ فيها.”
“……”
“أريدكِ أن تساعديني.”
ثم أدركت آدورا الحقيقة.
“أنقذيني.. كما فعلتِ في ذلك اليوم قبل ست سنوات.”
أدركت أنها تقف الآن عند مفترق طرق سيحدد مصيره.
ولكن، وخلافًا لكلماته، لم تكن نبرته تفيض بالتوسل أو الاستجداء المرير؛ لم تكن توسلًا ولا تشبثًا يائسًا، بل كان عرضًا هادئًا يطلب منها البقاء بجانبه، عرض زواج ليس بالمعسول، ولكنه بالتأكيد ليس بالخفيف.
منذ اللحظة التي اجتمعا فيها ثانية، كان يطلب يدها باستمرار.
والآن، حان وقت الجواب.
أطرقت آدورا ببصرها قليلًا، فرأت ظله الممتد، وظلال أشجار الصنوبر تتراقص حوله مع كل هبة ريح.
كانت بتلات الورد الأحمر تتساقط من بين يديها لتستقر فوق ظله الداكن، وكأنها تلون سواده بآثارٍ حمراء.
كان الجميع يقولون إن عليها ألا تختاره.
كل من سمع الخبر عارض بشدة. وهي تدرك تمامًا مبررات قلقهم.
فرغم لقب بطلة الحرب، لم تكن تملك القوة ولا الوقت للمخاطرة؛ فلا يمكنها قضاء ما تبقى من حياتها في قلقٍ واضطراب.
كانت هناك خيارات أكثر أمانًا، ورغم أن السعادة لا تُقاس بمعيار واحد، إلا أن الجميع ينشد الدرب الآمن، وآدورا لم تكن استثناءً.
كانت تنوي حقًا رفض عرضه.
ولكن..
حين رفعت آدورا رأسها، استقرت عيناها على وجهه.
كان وجهه ساكنًا كسطح بحيرةٍ راكدة، لكن عينيه كانتا تخفيان شيئًا آخر؛ عيناه الرماديتان المتوترتان كانتا تلمعان تحت ضوء الشمس.
يقول الناس إن ملامحه جميلة، لكنها لم ترَ في حياتها شيئًا بجمال عينيه هذه.
حين تحدق فيهما، تشعر وكأنها ستغرق في أعماقهما.
وحين تفيض تلك العينان بالإرادة والحياة، تجعلان المرء عاجزًا عن التفكير.
تمامًا كما حدث في تلك الليلة.
حين تغمض عينيها، تتمثل أمامها تلك الليلة بوضوح؛ الأرض المنزلقة تحت المطر، ضوء القمر الذي كان الملاذ الوحيد في عتمةٍ لا تنتهي، والفجر الذي كان هواؤه يفيض برطوبةٍ خانقة.
رغم حالته التي لم تكن تمت للعقل بصلة، لم يبالِ الأمير الشاب بشيء، بل ظل يغرس أظافره في الأرض ليتسلق التل العالي.
لم يتوقف رغم أن الطين غطى جسده المنهك. لم يكن لفعلته تلك غايةٌ نبيلة أو سببٌ عظيم، بل كان يصارع فحسب لأنه يريد أن يعيش.. كان يكافح وحيدًا، هكذا.
خطر ببالها شيءٌ فجأةً.
‘هل ما زلتَ تكافح وحدك حتى الآن؟’
وهل هذا الزواج هو وسيلتك الأخيرة لذلك الكفاح؟
“سمو الأمير، في الحقيقة، ما تزال تساورني بعض الشكوك حول سبب اختيارك لي.”
كونها الشخص الوحيد الذي سيأخذ طلبه بجدية لم يكن سببًا كافيًا في نظرها.
فرغم وجود من يرفض زواجه، لا بد أن هناك من يرحب به.
“حتى لو كانت لي سمعة طيبة عند الشعب كما تقول، فإلى متى ستدوم؟ بالنظر إلى المستقبل البعيد، أظن أن اختيار عائلة قادرة على حمايتك سيكون أكثر صوابًا.”
فهناك عائلات أقوى بكثير من عائلة ألفريد، كما أن خلفه تقف عائلة الكونت ليونيك الموالية للملك.
ورغم أن علاقتهم به شابتها دماء أناييس، إلا أنهم كانوا الخيار الأنسب لو أراد المراهنة على مستقبله.
وحتى لو لم يرغبوا في مساعدته، كان بإمكانه استغلال نفوذه للتواصل مع عائلات أخرى.
الخيارات كانت كثيرة، ومع ذلك اختارها هي.
لا بد أن هناك سببًا قاهرًا، سببًا يريد إخفاءه، تمامًا كما تخفي هي مرضها.
“تخمينك في محله يا سمو الأمير؛ لدي سببٌ يدفني لهذا الزواج المفاجئ، ولستُ مستعدة للإفصاح عنه الآن. سأفعل ذلك يومًا ما، لكني أريد تأجيله قدر المستطاع. وبما أنك وعدتَ ألا تسألني عن سببي، فأنا أيضًا لن أنبش فيما تخفيه أنت.”
“……”
“ولكن، أخبرني بصدق هل يمكنني أن أثق بأن كل ما قلته لي الآن ليس فيه كذب؟ وهل تضمن لي ألا يتعرض اسم عائلتي للخطر بسبب هذا السبب الذي تخفيه؟”
“أعدكِ بذلك.”
أجاب ليونيل دون أدنى تردد، وبصدقٍ جعل آدورا تشعر برغبته العميقة في ألا تسيء فهمه.
“وهل حقًا تحتاج إلى مساعدتي.. كما حدث قبل ست سنوات؟”
“أجل، أحتاجها.”
“إذن، سأكتفي بهذا السبب.”
قررت آدورا أن تصدق جوابه.
شعرت أنه سيفي بوعده، ليس من خلال كلماته فحسب، بل من خلال نبرة صوته وتعبير وجهه الذي بث في نفسها الطمأنينة.
لقد كان الجواب محتومًا منذ البداية.
هو الأمير الضعيف الملقب بعار العائلة المالكة، ودماؤه المختلطة تجعل حياته مُهددة دائمًا، وآدورا ليس لديها الكثير من الوقت، والجميع نصحوها بالرفض.
هي تعرف كل ذلك جيدًا.. ولكن، أحيانًا، هناك أشياء لا نستطيع فعلها مهما أحببناها. وأشياء يجب فعلها وإن لم نكن نرغب بها.
وأشياء لا يجوز فعلها، لكننا نجد أنفسنا راغبين فيها بشدة.
لامست أطراف أصابعها المنحنية بتلات الورد الأحمر في حضنها، وشعرت بوخزٍ خفيف عند أطراف شَعرها المختبئ تحت القبعة.
أغمضت آدورا عينيها ثم فتحتهما، لتستقبل العالم المشرق من جديد، وتأملت بتمهل ذلك الرجل الواقف وحيدًا كعادته، ثم نطقت بشفتيها الجافتين بقرارها الأخير.
“أولًا، ثمّة أمرٌ أودّ تصحيحه أنا أيضًا.”
خطت آدورا خطوةً نحوه، فامتزج ظلاهما في ظلٍ واحد.
وفكرت في سرّها أن تلك الرائحة العذبة التي تداعب أنفها ليست سيئةً أبدًا.
تحركت رموشه الكثيفة فوق وجهه الشاحب كأنها خفقات أجنحة، وظلت آدورا تراقب تلك الحركة بذهولٍ كأنها مسحورة.
“أنا أيضًا لا أكره سموك.”
ربما كانت تبغضه في وقتٍ مضى، لكن ليس الآن.
فذلك العداء الذي كان ينتصب كالأشواك قد تلاشى تمامًا منذ لقائهما الأول قبل ست سنوات.
لم تعد آدورا تكرهه.
بل صارت مستعدةً للركض إليه في أي وقتٍ يحدق فيه الخطر به، وراغبةً في مد يد العون له بكل سرور إن احتاج لمساعدتها.
“كما أنني لا أريد من سموك أن تعيش من أجلي.”
“إذن؟”
“أريدك أن تعيش من أجل عائلتي.”
حين تم سؤالها سابقًا عما ترجوه من شريك حياتها، أجابت بإجاباتٍ متواضعة عن حياةٍ هادئة وما شابه، لكن لم يكن ذلك ما تنشده آدورا حقًا.
فمنذ اللحظة التي قررت فيها الزواج، لم تكن ترغب إلا في أمرٍ واحد.
“لا أطلب من سموك القيام بشيءٍ عظيم لأجل عائلتي، كل ما أرجوه هو أن تحميها إن ألمّت بها مشكلة أو أحاط بها خطر.”
التعليقات لهذا الفصل " 15"