“مهما حاولتُ الفرار، ومهما رغبتُ في الرفض، لم أستطع الخروج من ذلك المكان لسببٍ واحدٍ أمام الملأ و هو أنني أمير. يلعونني ويصفونني بعار العائلة المالكة، ومع ذلك يطالبونني بالحفاظ على وقار الأمراء. لم أتمنَّ قط أن أُولد هكذا.”
“……”
“لم أرغب في هذه الحياة ولو للحظةٍ واحدة.. لم أرد العيش هكذا قط.”
كان صوته وهو يسترجع شريط حياته ناعمًا لدرجة أن الريح تكاد تبتلعه، صوتٌ خالٍ من أي انفعال.
لم يكن فيه غضبٌ ولا عتب، ولهذا السبب تحديدًا وصل إلى مسامعها بوضوحٍ جلي.
كان يبتسم، لكن آدورا أدركت أن مزاجه في الحضيض.
“أن تكتشف منذ لحظة ولادتك أن حياتك مرسومة ومتحكمٌ بها، لهو شعورٌ يبعث على الغثيان. لذا، قررتُ الآن أن أختار بنفسي. أريد الخروج من القصر، وأن أصنع لنفسي مكانًا أنتمي إليه بيدي.”
عادت نظراته التي كانت هائمة في أفق البحيرة لتستقر على آدورا مجددًا.
عيناه اللتان كانتا خاويتين قبل قليل، باتتا تلمعان الآن؛ كانت نظرةً مفعمة بالحياة والإصرار.
“القائدة ألفريد، التي لم تبدِ اهتمامًا بالارتباط طوال حياتها، لا بد أن لديها سببًا دفعها فجأة لترك منصب القيادة والبحث عن زوج. لكني لا أنوي سؤالكِ عن هذا السبب، ولا أريد النبش فيه أو استغلاله ضدكِ.”
“……”
“ما أرجوه أمرٌ واحدٌ فقط وهو أن توجدي لي مكانًا بجانبكِ.”
كانت آدورا تنصت إليه بهدوء، لكنها فجأة قطبت حاجبيها.
رغم أن كلامه بدا في ظاهره كتعبيرٍ عن رغبةٍ صادقة أو مراعاةٍ لظروفها، إلا أنها لم تره سوى تهديدٍ مغلف.
أليس معنى قوله “سأحفظ سركِ فاستجيبي لطلبي”؟
لا شيء يثير الضيق أكثر من أن يقتحم أحدهم خبايا نفسك.
ومع ذلك، شعرت بأن عرضه مغرٍ، لأن كلامه أصاب كبد الحقيقة.
فآدورا لم تكن تنوي إفشاء سر مرضها الآن.
في البداية، فكرت أنها بمجرد اختيار شريك حياتها، ستخبره بحالتها الصحية؛ فمن حق من سيشاركها ما تبقى من أيامها أن يعلم. لكن مع تسليط الأضواء على زواجها أكثر مما توقعت، عدلت عن رأيها.
‘الضعيف يُؤكل بسهولة، وكلما كنت صادقًا، سَهُل استغلالك.’
هذا هو العالم كما رأته آدورا.
فالناس قد يلتهمون بعضهم البعض، وطمعهم يزداد لذةً كلما كان الشيء صغيرًا.
ألم تكن عائلة ألفريد العريقة، التي ساهمت في تأسيس المملكة، لقمةً سائغة في صراعات القوى بمجرد أن حل السلام بعد الحرب في مضى؟
و قبل سنواتٍ عديدة تعرضت عائلتها لهجومٍ غامض، ورغم ثبوت تورط جواسيس الأعداء، لم يستطيعوا كشف الأمر لأن عائلتها كانت مجرّد عائلةٍ ضعيفة.
وحتى لو كانت العائلة ذات نفوذ، فبمجرد أن يُعرف أن رب العائلة على وشك الموت، سيتكالب الطامعون عليها كالكلاب المسعورة.
أدركت آدورا أن لاسمها قيمةً كبيرة.
عائلتها صغيرة، لكن يمكن استغلالها. وللأسف، لا يوجد في سلالة ألفريد المباشرة من يحل محلها. لذا، قررت إخفاء حالتها قدر المستطاع.
حدقت آدورا في هذا الرجل الذي يهددها بلطف، وقالت متمتمة:
“ربما.. ربما ليس هناك سببٌ أخفيه، بل هو مجرد سببٍ بسيط لا يستدعي الذكر، كأن أرغب في تأمين خليفة للعائلة مثلًا.”
“آه، ربما يكون الأمر كذلك.”
أبدى إعجابه وكأنّه نال استبصارًا عظيمًا، لكن رد فعله لم يكن يوحي بأنه عرف شيئًا جديدًا، بل كان مجرد مجاراةٍ لحديثها.
بدت علامات الانزعاج على آدورا، فحاول ليونيل تهدئتها.
“لا أقصد تهديدكِ أبدًا. كل ما أردت قوله هو أنني أريد إتمام هذا الزواج بأي ثمن.”
“لقد فهمتُ سبب رغبتكِ في الزواج يا سمو الأمير. ولكن، بناءً على ما قلتَه، لا بد أن هناك خيارات أفضل مني بكثير. علاوةً على ذلك.. أنت تكرهني، أليس كذلك؟”
الزواج قد لا يقوم دائمًا على الحب، لكنه بالتأكيد لا يقوم على الكراهية.
كيف لشخصين أن يلتقيا كل يوم ويتقاسما الحياة وهما يتنافران؟
لم تكن آدورا لتجبر نفسها على زواجٍ من شخصٍ يبغضها.
“لماذا اخترتني أنا إذن؟”
صمت ليونيل برهة. تلاشت الابتسامة عن وجهه وظهر التردد في ملامحه.
ظنت آدورا أنها أصابت صميمه؛ فلو قال بصدقٍ “أنا أكرهكِ لكني أحتاج لشريكٍ مناسب”، لما عادت لسؤاله.
سقط ظلٌّ خفيف على وجهه وهو واقفٌ تحت أشجار الصنوبر. ارتجفت رموشه الطويلة المسدولة برقة.
انتظرت آدورا جوابه، وبعد صمتٍ ثقيل، نطق أخيرًا.
“قد يبدو غريبًا أن أقول هذا الآن…”
كان صوته حذرًا للغاية، وكأنه ينتقي كلماته بعناية فائقة.
“حين التقينا لأول مرة، كنتُ صغيرًا جدًا. أعلم أنني كنت فظًا وقاسيًا معكِ لأني لم أكن أثق بأحد حينها. قد يبدو هذا كعذرٍ واهٍ، بل أعلم أن الاعتذار الآن قد يكون خطأً في حقكِ…”
شعرت آدورا ببعثرة كلماته وارتباكه؛ فمن المدهش أنه يحاول حقًا تبرير تصرفاته الماضية.
‘هل هذا معقولٌ؟’
“ما أريد قوله هو…”
هو ماذا؟
“أنا لا أكرهكِ أبدًا.”
اتسعت عينا آدورا الياقوتيتان بذهول.
“لو كنتُ أبغضكِ حقًا، لما تقدمتُ لخطبتكِ الآن. لستُ شخصًا طيبًا لدرجة أن أفعل ذلك.” أضاف ليونيل بخفة.
راقبته آدورا بتمعن. كان وجهها جامدًا لا يفصح عن شعورها، لكن في نظرتها حيرةٌ بين تصديقه وتكذيبه.
“وماذا لو قلتُ إنني لا أستطيع تصديق كلامك هذا يا سمو الأمير؟”
“ألا تصدقينني؟”
“بصراحة، لا أستطيع. فموقفك الذي أظهرتَه تجاهي قبل قليل لا يبعث على الثقة أبدًا.”
“يا للهول.. يبدو أنني كنتُ فظًا للغاية إذن.”
“أجل، فظًا جدًا.”
أن تلوّح بنقاط ضعف الآخرين، فهذه فظاظةٌ لا شك فيها.
بل لو كان زميلًا لها في السلاح، لكانت ركلته في جنبه؛ عليه أن يحمد الرب أنه أمير.
“إذن، كيف لي أن أكسب ثقتكِ؟”
“لا أدري…”
تلاشت كلماتها، ليس لأنها تفكر، بل لأنها شعرت أن أي شيء سيقوله لن يغير من ريبتها تجاهه.
وبينما كان ليونيل يفكر بالنيابة عنها، قال فجأة: “إن أذنتِ لي، يمكنني أن أثبت لكِ ذلك بقبلة.”
“تقصد.. كقبلة اليد في المرة السابقة؟”
“لا.”
إذن أين؟ فُتح فم آدورا لكن الكلمات لم تخرج.
خشيت أن ينطق بموضعٍ يثير الرعب في نفسها.
وبما أن الجو العام كان يوحي بأنه مستعدٌ لإثبات قوله حالًا، سارعت آدورا للموافقة هربًا من الموقف.
“حـ-حـ-حسنًا، سأصدقك بما أنك أصررت هكذا. لكن هذا لا يفسر سبب اختيارك لي كزوجة. لا أعرف حقًا ما الذي رأيته فيّ لتقرر الزواج بي.”
“لأنكِ فاتنةٌ.”
بتلك الكلمة الواحدة، انكسر جمود آدورا تمامًا.
ارتسم الارتباك على وجهها وانعكس في عينيه الرماديتين.
وفي تلك اللحظة، هبت ريحٌ قوية من البحيرة، فلم يصمد رباط القبعة وسقطت أرضًا.
تاهت نظراتها وارتبكت، وبينما كانت تهمُّ بالانحناء بعفوية، لكن سبقتها يدٌ شاحبة.
التقطت اليد قبعتها، ثم رفع صاحبها رأسه ليواجه آدورا بشعرها الأحمر المبعثر الذي لم يعد المشط ينفع معه.
لقد طال شَعرها الذي كان يحيط بأذنيها حتى أصبح يغطيهما نصف تغطية. وبسبب قصها العشوائي له كلما طال، لم تكن أطرافه متساوية، فتركته على حاله لبشاعته.
ولأنه لا يتناسب مع فستانها الأنيق، اختارت إخفاءه بالقبعة، والآن ها هي تُكشف أمام عينه.
وسط ارتباكها، شعرت بالقبعة تُوضع فوق رأسها مجددًا.
التعليقات لهذا الفصل " 14"