“قيل لي إن خبر تقدمي لخطبتكِ قد شاع، والجميع الآن يملؤهم الفضول. حتى ميلر قال لي: “أخيرًا ستُقدم على خطوة الزواج إذن”.”
“ومَن ميلر هذا؟”
“خادمي، ذاك الرجل الذي يراقبنا من هناك.”
أشار ليونيل بيده إلى الوراء، فالتفتت آدورا لتتبع إشارته
كان هناك ثلاثة رجال يتبعونهما على مسافةٍ كافية.
كانوا من أتباعه، وقد ميزت بينهم الرجل الذي رأته في المرة السابقة.
“الذي في المنتصف هو ميلر.”
“أهو خادمك؟ لم أكن أعلم.”
“في الواقع هو خادمي وحارسي الشخصي في آنٍ واحد.”
‘إذن لهذا السبب كان وحيدًا معه في المرة الماضية.’
التقت عيناهما في تلك اللحظة، فبادر ميلر بإيماءةٍ خفيفة من رأسه، وردت آدورا بإيماءةٍ مماثلة.
حينها قال ليونيل إنه سيقدمه لها رسميًا في وقتٍ لاحق.
“أرى أنك بدأت تتخذ حرسًا لنفسك.”
قالتها آدورا وكأنها تذكر أمرًا بديهيًا؛ فمن الطبيعي أن ترافق الحرس الملكي أي أمير يخرج من القصر، لكنه كان يمتنع دائمًا عن اتخاذ حرسٍ شخصي يتبعه.
“لقد تم الألحاح عليّ في ذلك.”
أرادت أن تسأل: “ومَن ألح؟”، لكنه استدار مغيرًا وجهة سيره، فانقطع حبل الحديث.
ألقت آدورا نظرةً خاطفة إلى الوراء قبل أن تعتدل في مشيتها وتنظر أمامها.
“أنا أيضًا عرفتُ خلال هذه المدة أن لسموك شعبيةً واسعة.”
شعرت بنظرته تتركز على خدها، وجاء رده متأخرًا قليلًا.
“الجميع يميل للاهتمام بي بعض الشيء.”
“يبدو ذلك جليًا.”
“لا بأس إن أظهرتِ أنتِ أيضًا اهتمامًا بي.”
قالها بنبرةٍ وكأنه يمنحها “الإذن” بالاهتمام به.
لم تكن بحاجةٍ لهذا الإذن، لكن سؤالًا خطر ببالها في تلك اللحظة.
“إذن سمو الأمير، لم يتسنَّ لي سؤالك في المرة السابقة.. كيف حال صحتك الآن؟”
“أ أنتِ قلقةٌ عليّ؟”
“أمم.. نعم، ربما.”
لم يكن قلقًا بالمعنى الدقيق، بل مجرد سؤالٍ لللاطمئنان، لكن آدورا وافقت على مسمّاه ببساطةٍ.
ساد صمتٌ قصير، قبل أن تحمل الرياح إلى مسامعها صدى ضحكةٍ خفيفة تداعب الأذن.
“لقد تحسنتُ كثيرًا، حتى صرتُ قادرًا على المشي هكذا.”
تذكرت حاله قبل ست سنوات، حين كانت نوبات الصرع تداهمه عند أدنى مجهود، فبدا لها أن صحته قد استقرت حقًا.
أومأت برأسها؛ ‘هذا أمرٌ جيد إذن’.
في الحقيقة، دائمًا ما كانت تخشى، وهي في وسط الحرب، أن تسمع خبر جنازته قبل عودتها.
راقب آدورا بطةً سوداء تضرب الماء بجناحيها في البحيرة، قبل أن تقترب منها بطة بيضاء، ثم بدأت أسراب البط المتفرقة تتجمع في ألفة.
وحين هزت إحدى البطات ريشها عند الحافة، انتشرت دوائر الماء من حولها.
‘يا لها من لطيفة.’
ابتسمت آدورا رقةً للمشهد، لكنها شعرت بوخزِ نظراته على وجهها مجددًا فالتفتت إليه.
لا تدري منذ متى وهو يرمقها بهذا التركيز.
“لِمَ تنظر إليّ هكذا؟”
سألت آدورا بفضول، فابتسم ليونيل ابتسامةً باهتة وهز رأسه وكأنّ الأمر لا يستحق الذكر.
لاحظت منذ اللقاء السابق أنه أصبح يجيد الابتسام.
فصورة وجهه المحفورة في ذاكرتها كانت دائمًا عابسة أو جامدة، لا تفصح عما يدور في خلدة، ولم يكن يبتسم إلا حين يسوء مزاجه.
كانت لديه عادةٌ غريبة؛ يبتسم بجمالٍ أخاذ حين يغضب، لعلّه يريد إرباك خصمه أو التظاهر بالثبات، لكن ابتسامته تلك كانت دائمًا ما تبعث في النفس قشعريرةً باردة.
لذا كانت آدورا تدرك سريعًا أن ابتسامته ليست نابعةً من سعادةٍ حقيقية.
أما الآن، فالأمر مختلف.
بدا وكأنه اعتاد الابتسام حتى صار يرتسم على وجهه بطبيعيةٍ تامة، وجهٌ يكفي لإغواء أيِّ شخصٍ.
ورغم أن آدورا لم تألف هذا الوجه بعد، فبدا لها غريبًا بعض الشيء.
وجدت آدورا نفسها تطيل النظر في ملامح وجهه الجانبية المصقولة.
لا بد أنه شعر بنظراتها، لكنه تظاهر بالتجاهل، وظل يحدق في البحيرة التي كانت هي تنظر إليها قبل قليل.
لا تدري أكان ينظر إلى تموج الماء، أم إلى أسراب البط، أم إلى الضفة المقابلة.
ولكن أيا كان ما يراه، فإن عينيه الرماديتين بدا فيهما جمودٌ قاحل، ووجهه الذي لم يلتفت إليها عاد صلبًا كما كان قبل ست سنوات.
ولكن حين لم تصرف آدورا بصرها عنه، بدأ ذلك الجمود يتصدع.
تحركت رموشه الطويلة بارتباكٍ يشبه حركة ذيل تلك البطات.
“لِمَ تنظرين إليّ هكذا؟” سأل أخيرًا.
“ألا يحق لي النظر؟”
“ليس الأمر كذلك، لكن التحديق بي هكذا يجعلني أتوتر.”
اتسعت عينا آدورا دهشةً.
“وهل يتوتر سموك أيضًا؟”
“بالطبع.”
قطبت آدورا حاجبيها وتفرست في وجهه؛ فرغم ادعائه التوتر، لم يتغير لون بشرته الشاحبة أبدًا.
‘لعله يقول ذلك ليهدئني فحسب.’
“لا تدركين مدى توتري الآن. رغم أنني مَن اقترح هذا اللقاء، إلا أنني لم أتوقع حقًا أن توافقي على المجيء.”
“أليس عليّ أن أمنحك جوابًا لطلب الخطبة؟”
“بلى، لكني شعرتُ أن طلبي أثقل كاهلكِ، فظننتُ أنكِ ستكتفين بالرد عبر رسالة.”
‘إذن كان يدرك أن طلبه يسبب لي الضيق.’
لم تستطع آدورا إنكار ذلك، لكنها هزت رأسها قائلة:
“سمو الأمير، هل تقدمتَ لخطبتي بقلبٍ لاهٍ؟”
“لا.”
“إذن، لم أكن لأعامل طلبك بخفةٍ أنا أيضًا.”
رغم أن طلبه أربكها، إلا أنها لم تكن لتتعامل معه باستهتار.
فهو في النهاية أمير، والتقليل من شأن عرضه أمرٌ غير وارد.
وبما أنه تكبد عناء الحضور لمقابلتها بدل الاكتفاء برسالة، وجب عليها أن تقابله بنفس القدر من الاهتمام؛ فهي لم تكن يومًا جافيةً في أدبها.
“أخاف ألا يكون الجواب كما أتمناه. أفكر جديًا في الهرب قبل أن أسمعه.”
باح ليونيل بصدق مشاعره، مما أثار دهشة آدورا؛ فقد لمحت فعلًا مسحةً من التوتر الحقيقي على وجهه.
رغم كل الشائعات السيئة التي تلاحقه، يبقى هو أمير البلاد وهي تابعته.
وفكرة أن أميرًا ينتظر ردها بقلبٍ يخفق خوفًا من الرفض، جعلتها تشعر بشعورٍ غريب لم تألفه.
لكن قبل أن تسترسل في هذا الشعور، كان عليها أن تطرح سؤالها الأهم.
توقفت آدورا عن المشي.
“سمو الأمير، ألا يجدر بك إخباري بشيءٍ أولًا؟”
توقف ليونيل بدوره والتفت إليها.
“أجبني الآن، ما هو السبب الحقيقي وراء تقدمك لخطبتي؟”
تعالى صوت اصطدام البط بالماء في البحيرة، لكن لم يلتفت أي منهما للصوت.
في تلك اللحظة، تركز كيانهما في نظراتٍ متبادلة، وكأنَّ كل منهما يخشى ضياع هذه اللحظة.
“هل تذكرين؟ قبل ست سنوات، في يوم عيد التأسيس.”
كانت قصةً مُفاجِئةً.
“كان احتفالًا يتكرر كل عام، لكن الجو في ذلك اليوم كان سيئًا بشكلٍ غريب.”
“نعم، أذكر ذلك.”
كان عيد التأسيس يُقام سنويًا في العاصمة، وهو مهرجانٌ ضخم يحضره الملك بنفسه ويستمر لعشرة أيام.
يشارك فيه الجميع، باختلاف طبقاتهم، ليستمتعوا بالعروض والأطعمة.
ولكن قبل ست سنوات، حدث شيءٌ مريب؛ فالسماء كانت سوداء والريح تجري، حتى توقفت الاحتفالات مؤقتًا.
وكأنّ تلك كانت إشارة، ففي خضم الزحام، تعرض ولي العهد لاختطافٍ غامض.
أرسل الملك فرق بحثٍ سرية على الفور، لتعقب الخاطفين في المسالك التي قد يسلكونها للهرب.
“لقد كان أسوأ عيد تأسيس منذ قيام المملكة، خاصةً مع ما وقع من أحداثٍ مؤسفة.”
كانت الشكوك تدور حول غابتي الشرق والغرب كممراتٍ للهرب.
انقسمت فرق البحث لملاحقتهم، لكن المطر الذي هطل في ذلك اليوم طمس الآثار، فتعقدت مهمة البحث.
“ربما هطل المطر فقط ليزيد الأمر سوءًا.”
في ذلك اليوم، لم يكن ولي العهد وحده المخطوف، بل اختُطف معه أميرٌ آخر كان برفقته.
“أو ربما كان سيئًا بالنسبة لي وحدي. يبدو أن السماء لا تحبني، فأنزلت المطر عمدًا.”
في تلك الأثناء، كانت آدورا مع فرقتها تمشط غابة الشرق، تبحث عن أي أثرٍ لم يمحُه المطر.
ولحسن الحظ، تم العثور على ولي العهد سليمًا، لكن مكان الأمير الآخر ظل مجهولًا.
استمر البحث حتى الفجر، والمطر يهمي تارةً ويتوقف تارةً.
وبعد بحثٍ شاق في أعماق الغابة، عثرت آدورا على الأمير المفقود.
“ولكنكِ في النهاية مَن وجدتِني.”
كان ذلك الأمير هو ليونيل.
“بفضلكِ أنتِ، ما زلتُ على قيد الحياة.”
“لا، لستُ أنا.”
اعترضت آدورا بهز رأسها؛ لم يكن قولها من باب التواضع، بل كانت الحقيقة.
“بل بفضل سموك، نجوتُ أنا من الموت.”
كان الأمير ليونيل ضعيف الجسد، وكل لحظة تمر كانت تزيد من خطورة وضعه، فلو بلله المطر لكانت حياته في خطرٍ محدق.
كانت آدورا في حالةٍ من الذعر والاضطراب حينها.
وحين وجدته أخيرًا، كان حاله يرثى لها، بخلاف ولي العهد الذي نال حمايةً جيدة. كان شَعره المرتب قد تيبس، وعلى وجهه آثار كدمات، وثيابه الأنيقة ملطخة بالطين حتى أخمص قدميه، وجسده يملؤه الخدوش، وأظافر يديه مكسورة ومغطاة بالتراب.
كان مظهره كفيلًا بأن يشهد على الفظائع التي كاد يواجهها.
كانت هي حارسته، وإن كان منصبها مؤقتًا.
وبصفتها حارسة، أخفقت في حمايته ومنع اختطافه، وكان عليها أن تُحاسب على ذلك التقصير.
ولولا أنه ذهب للملك بنفسه وتوسله ألا يعاقبها، لما نجت بحياتها، ولما استطاعت إتمام انتقامها.
“بل كان الفضل لكِ.”
“سمو الأمير-“
“انا أريد الخروج من هذا القصر.”
قطبت آدورا حاجبيها؛ أرادت أن تسأل عن معنى قوله، لكنها أدركت أنه أجاب للتو على سؤالها.
“الأمير الذي لا يرث العرش، يمكنه مغادرة القصر بعد الحصول على لقب أو الزواجِ من امرأةٍ تمتلكُ لقبًا. وأنا أريد الرحيل من هناك في أقرب وقت. هذا هو سببي لخطبتكِ.”
لم تصدق آدورا ما سمعت.
“ألهذا السبب فحسب؟”
سألت باستنكار، فتعمقت ابتسامة ليونيل.
“هذا السبب “البسيط” في نظركِ، قضيتُ عُمري كله أحاول تحقيقه دون جدوى.”
استنشقت آدورا الهواء بحدة، بينما أدار ليونيل وجهه.
هبت ريحٌ باردة هزت أغصان الصنوبر بعنف، وتراقصت الظلال المنثورة على الأرض الجافة مع عصف الريح.
لقد كشف الأمير ليونيل عن وجهه الآخر وعن رغبته العميقة في الهرب.
التعليقات لهذا الفصل " 13"