ولن تتبدّل حياتها تبدّلًا جذريًا في قادم الأيام؛ وإن كان ثمّة شيء سيتغير، فهو ضرورة التفكير في حياةٍ تخلو من وجودها.
“لا تقلق، لم يحدث أمرٌ سيءٌ أو ما شابه.”
أجابت آدورا بخفةٍ متصنعة لتداري صدق مشاعرها، ثم ابتسمت في وجه الشخص الذي تدرك أنه سيكون الأكثر حزنًا عند رحيلها، وكأن الأمر برمته لا يعدو كونه شيئًا عابرًا.
“مع ذلك، لم أتوقع أبدًا أن تتركي الخدمة وتعتزمي الزواج.”
“لقد أخبرتك سابقًا أنني لم أنوِ الاستمرار للأبد، ثم إنني بلغت سنًا يُعدُّ فيها الزواج متأخرًا بعض الشيء.”
“كنت أظن أنكِ لن تتزوجي أبدًا.”
“ولِمَ ظننت ذلك؟”
“لأن أشياء كثيرة قد تغيرت منذ ذلك اليوم، أليس كذلك؟”
ابتسم جون بمرارة. لم تكن آدورا بحاجة إلى شرح لتفهم مقصده؛ فمأساة ذلك اليوم لم تكن تستهدفها وحدها، بل تركت في أجساد الخدم الناجين ونفوسهم ندوبًا وجروحًا لا تُمحى، تمامًا كالندبة الطويلة التي ما تزال محفورة على ظهر جون.
كان يومًا مروعًا ومفزعًا للجميع.
“أتعلم يا جون، كانت أمي تقول لي في صغري إن هناك أشياء لا نستطيع نيلها مهما أحببناها، لكني تعلمت أيضًا أن هناك أشياء يجب علينا فعلها وإن لم نكن نرغب بها.”
“وهل هذا الزواج من الأشياء التي يجب عليكِ فعلها وإن كنتِ لا ترغبين بها؟”
“لست أدري حقًا، ولكن….”
استحضرت آدورا ذلك الحلم الجميل الذي يراودها مؤخرًا.
أيام الطفولة حين كان الوقوف تحت أشعة الشمس أمرًا بديهيًا، حين كان الدفء يحيط بها بمجرد أن تمد يدها، والمودة الخالصة تغمرها من كل جانب.
هل كانت تتخيل حينها أن لحظةً ستأتي تفيض فيها نفسها حسرةً على كل ذلك؟
“أعتقد أن وجود عائلة هو أمرٌ طيب.”
عائلة.. كلمة باتت غريبة على لسانها. ذلك الدفء لم يعد له أثر في قلبها.
كيف كانت حياتها وسط عائلتها؟
تذكر أنها كانت سعيدة، وتجزم أنها كانت دافئة، لكنها الآن تكاد تنسى كيف كانت تعيش قبل أن تتعلم تحريك السيف.
“سيدتي، لا داعي لإجبار نفسكِ على الزواج إن كنتِ لا تريدين.”
قالها جون والهمُّ يكسو ملامحه، فضحكت آدورا: “حقًا؟ قد يبدأ الناس بذمي إن ظللتُ بلا زواج.”
“سأستمع لذمهم بدلًا منكِ.”
“وأنت يا جون، ألا تفكر في الزواج؟”
“لا أفكر.”
“أبدًا؟”
“أبدًا.”
كانت لهجته الحازمة تبدو كعهدٍ قطعه على نفسه. ضحكت آدورا بخفة مرةً أخرى.
“إذن سأقضي عُمري كله برفقة جون.”
“أجل، إن لم يكن في ذلك ضيقٌ لكِ يا سيدتي.”
“وكيف يضيق صدري بوجودك؟”
لم تشعر آدورا يومًا بالضيق من رفقة جون.
معه، كانت تشعر وكأنها تعود إلى ابنة ألفريد البريئة التي لا تعرف عن شقاء العالم شيئًا، وتجد نفسها تتدلل عليه دون وعي.
ربما كان وجود جون هو ما جعلها تصبح فارسة بلا تردد، لعلمها أنه سيحمي القصر في غيابها.
وحتى بعد رحيلها، سيبقى جون هنا، يحرس هذا القصر كعادته دائمًا، مع من تبقى من الخدم، أو وحيدًا إن لزم الأمر.
التفتت آدورا فجأة نحو الورود الحمراء على الطاولة، وتذكرت الأمير الرابع الذي رأته في حلمها.
الأمير الذي تذكره كان يقضي كل لحظاته وحيدًا، يكره بشدة وجود أي شخص بجانبه.
كان يستيقظ، ويتناول وجباته، وينزل أحيانًا إلى غرف الطابق السفلي ليقطع بتلات الورد في نوبات غضب، حتى حين كان يصارع الموت في غرفته، لقد كان وحيدًا.
لكن بالنظر إلى الماضي، بدا وكأنّه شخصٌ اعتاد الوحدة، فصار وجود الآخرين يربكه، ولذلك نبذ فكرة حرساتها له.
والحق أنّها لم تره مع أحدٍ إلا نادرًا، وحتى في تلك المرات، لم يكن معه سوى من يقوم على خدمته.
“ومع ذلك يا جون.”
“نعم يا سيدتي.”
“لا تعش وحيدًا.”
فالوحدة ليست سوى منبع للوحشة.
حتى وهي وسط رفاقها الذين شاركتهم الأفراح والأحزان لسنوات، كانت آدورا تشعر بالوحدة أحيانًا.
فالعائلة تختلف تمامًا عن الرفاق، ولكلِّ علاقةٍ مشاعر لا يمنحها غيرها.
“أسس عائلة.”
كما كان جون بمثابة العائلة لآدورا، كانت هي عائلته أيضًا.
وهي تدرك تمامًا مرارة فقدان العائلة، لذا لم تستطع إخباره بحقيقة مرضها؛ فالأسرار تزداد خفاءً كلما زاد معزّة الشخص في القلب.
وبما أنه سيعرف الحقيقة في النهاية، فلتكن في وقتٍ متأخر، لعل حزنه يكون أقصر أمدًا.
“هذا ما أتمنّاه.”
لا أريد لحزنه أن يطول، بل أريد لحياته أن تفيض بالسعادة، تمامًا كما يتمنى هو لي.
“أنا بخير، لا تقلق.”
أحيانًا كانت تراودها تلك التساؤلات،
ماذا لو كان والداها على قيد الحياة؟
ماذا لو نجا شقيقها مكانها؟
ماذا لو لم تقع مأساة ذلك اليوم، وعاشت كنبيلةٍ عادية لا كفارسة؟
كيف كانت ستكون حياتها الآن؟
على الأقل، ربما لم يكن المرض لينهش جسدها.
لكن الموت حقٌ على الجميع، وكل ما في الأمر أنه عجل بلقائها هي و عائلتها.
والموت الذي أخطأها حينها، عاد ليطلبها الآن.
حين تفكر في الأمر هكذا، لا يبدو هذا المرض المفاجئ أمرًا غريبًا.
أجل، ليس غريبًا أن نموت.
لقد حققت كل أمانيها؛ نالت ثأرها، وعادت إلى موطنها حية، وحظيت بفرصة لتقضي ما تبقى من عمرها بهدوء.
لا يمكن القول إن سنوات الانتقام كانت سهلة، لكنها تخللتها لحظات من السعادة بطريقتها الخاصة.
“أنا بخيرٍ حقًا.”
حتى بلا سيف، أنا بخير.
وحتى لو حان وقت أخد روحها، آدورا بخيرٍ حقًا.
ارتدت فستانًا بعد انقطاع طويلٍ؛ فستانٌ يتدلى ذيله حتى الكاحلين، ويضيق عند الخصر بينما يزدان صدره بالدانتيل الرقيق.
أضافت فوقه معطفًا من الفراء ولبست قفازيها.
شعرت بضيقٍ لم تعرف كيف كانت تطيقه في صغرها؛ فملمس القماش الملتصق بجسدها كان يبعث على الضيق، وحركة ذيل الفستان عند أطراف أصابعها بدت غريبة، ومعطف الفراء كان يعيق حركتها مع كل خطوة.
انقضى الشتاء، لكن الجو ما يزال باردًا لا يبشر بقرب الربيع.
بالنسبة لآدورا التي كانت تركض بملابس خفيفة في عزّ الثلوج، لم يكن هذا البرد شيئًا يُذكر، لكنها استسلمت لإلحاح جون وقلقه الزائد وارتدت ملابس ثقيلة.
حين نظرت آدورا إلى مرآتها، لم تشعر بالجمال بقدر ما شعرت بالغرابة.
حتى بعد أن اعتنت الخادمات بها، بدا شَعرها القصير الذي لا يطاوع المشط، وخلوّ يدها من السيف، يجعلانها تبدو وكأنها ترتدي ثيابًا لا تخصها.
لن تخرج هكذا عادةً، لكن لقاء اليوم يفرض عليها الالتزام بالرسميات.
وما واساها قليلًا هو أن تصاميم الملابس لم تكن مبهرجة بشكل مبالغ فيه نظرًا لانتهاء الحرب حديثًا.
غطت شَعرها القصير بقبعة، وكانت أربطتها تتطاير مع الريح فتلامس وجهها مع كل خطوة، بينما طنين الأقراط اللؤلؤية في أذنيها بدا لها صاخبًا بشكل غير معتاد.
وصلت آدورا إلى مكان الموعد وهي تتنفس بعمقٍ لتطرد توترها.
كان ضفاف البحيرة المقفر هادئًا يسوده الصقيع، ولم يكن الطرف الآخر قد وصل بعد.
راحت تعبث بأربطة قبعتها وتتأمل سطح البحيرة الساكن لتمضية الوقت.
“سيدة ألفريد.”
حينها وصل الأمير ليونيل.
التفتت إليه آدورا بهدوء، ثم لم تمالك نفسها من الإعجاب الصامت؛ فقد تزينت هي اليوم، لكنها لم تبلغ شأو هذا الرجل.
كان جماله الباهر يتجلى اليوم بوضوحٍ يخطف الأبصار.
“سمو الأمير.”
حيتْه بوقار، فترددت أصداء ضحكته الخافتة فوق رأسها كما في المرة السابقة.
كان يمسك كالعادة بعصا ذات مقبض فضي، بينما قدم لها باليد الأخرى باقة من الورود الحمراء.
نظرت آدورا إلى تلك الزهور النضرة التي أصبحت مألوفة لديها، ثم سألت: “ألم تكن تكرهها؟”
لقد كان يكره الورود الحمراء، سواء بسبب اللقب الذي لُقب به أو لسببٍ يتعلق بالتشاؤم؛ ألم يسحق الورد الأحمر في لقائهما الأول؟
“الآن، أصبحت أُحبّها كثيرًا.”
هكذا إذن. لقد قدم هذا النوع كهدية للخطبة لأنّه صار يحبّها.
في تلك اللحظة، تذكرت آدورا وجه جون الذي كان يمتعض كلما وصلت باقة حمراء، محتارًا في أيِّ زاويةٍ يخفيها، حتى علمت أنه كان يضعها بإهمال فوق خزانةٍ في أقصى الممر، فأمرته بوضعها في مكتبها الخاص.
لا بد أن تخبر جون عند عودتها أن هذه الورود لم تكن مرسلةً كلعنة.
عندما رفعت بصرها عن الزهور، وجدت ليونيل يرمقها بنظرةٍ ثابتة. تملكها الحذر؛ لِمَ ينظر هكذا؟
“أنتِ جميلةٌ للغاية اليوم.”
أهذا ما أراد قوله؟
فجأةً تلاشت ريبتها، وفكرت في سرها بـ’ما هذا الكلام!’
فالحق أن المديح من شخصٍ فائق الجمال لا يبدو دائمًا كإطراء صادق.
هل يجب أن أرد عليه قائلة: “جمال سموك يشرق اليوم أيضًا”؟ لكن ماذا لو اعتبر ذلك إساءةً له وأساء الفهم؟
“لو كان الجو صحوًا لركبنا القارب في البحيرة، لكن يبدو أن الوقت لم يحن بعد، وهذا يدعو للأسف.”
“أنت محق، فما رأيك في المشي؟”
“فكرةٌ جيدة.”
سار الاثنان جنبًا إلى جنب في الممشى.
كانت أشجار الصنوبر الخضراء تصطف على جانب البحيرة، وصوت الريح يداعب الأرض الجافة بخفة.
لم يكن الدفء المنبعث بين الحين والأخرى في ذلك الهواء البارد مزعجًا.
كان الممشى خاليًا من المارة، وهذا ما جعل السير بجانب هذا الرجل الملفت للنظر أمرًا مريحًا.
لم ينبس أيٌّ منهما بكلمةٍ لبعض الوقت؛ ليس لقلة كلامهما، بل كان كل منهما يترقب الآخر ليبدأ الحديث.
أطلقت آدورا زفيرًا متوترًا وهي تتأمل اتساع البحيرة، حيث كانت بطة سوداء وحيدة تسبح في الأفق.
“كيف كانت حالكِ في المدة الماضية؟”
بدأ ليونيل الحديث أخيرًا.
“بخير، شكرًا لسؤالك. وكيف كانت حال سموك؟”
“بخيرٍ طبعًا. وعلاوة على ذلك، عرفتُ كم أنَّ السيدة ألفريد عظيمةٌ.”
التعليقات لهذا الفصل " 12"