كانت بضع قطرات من الدم لا أكثر، لكنَّ نفثَ الدماء لم يكن قطُّ بالأمر الهيّن.
خضعت آدورا فورًا لفحص الطبيب، الذي بدت عليه ملامحُ التجهم والوجوم وهو يستمع لوصف أعراضها.
لم تسأله آدورا عن سبب حزنه؛ فقد تذكرت للتوّ أحاديث عابرة سمعتها قديمًا، تفيد بأن جدتها من جهة أمها وافتها المنيةُ بعد صراعٍ مع أعراضٍ مشابهة.
أدركت آدورا الحقيقة في لحظتها.
لقد كان انتقامًا أفنت فيه عُمرها، ورغم أنها أتمته أخيرًا، إلا أن غضبها المتراكم طبقاتٍ فوق بعض لم يخمد بسهولة، بل ضلَّ طريقه وانتشر بلا كبح.
لم يكن مرضها الآن سوى رحمةٍ، لتضع حدًا لهذا الانتقام الذي بات يهيمُ بلا وجهة.
وفي طريق عودتها بعد إعلان النصر، غفت آدورا ورأت حلمًا.
رأت أسعد لحظات حياتها، حين كان العالم في عينيها جميلًا لا يشوبه شك؛ رأت أمها وأباها وهما يمسكان بيدها الصغيرة الناعمة التي لم تذق طعم الشقاء بعد، ورأت شقيقها الأصغر وهو يبتسم لها ببراءة.
حين استيقظت، عقدت العزم.
ستؤسس عائلة.
كانت بحاجة لمن يحمي اسم العائلة من بعدها، ويرعى الخدم، ويقوم على مراسم جنازتها.
‘لا بُد لي من الزواج.’
وبهذا القرار، تركت كل شيء خلفها وعادت إلى قصر عائلة ألفريد.
استيقظت آدورا فجأة حين شعرت بحركةٍ قربها.
وحين أدارت رأسها بذهول، وجدت جون واقفًا بارتباك.
“يا إلهي، يبدو أنني أيقظتُكِ يا سيدتي.”
“لا، لم تكن غفوة، بل مجرد استغراقٍ في التفكير.”
أشاحت بيدها ونهضت من مكانها. وبينما هي تستجمع شتات عقلها، قدم لها جون رسالةً بمنتهى الأدب.
“لقد جاء شخصٌ من القصر الملكي منذ قليل، الأمير الرابع يطلب لقاءكِ.”
“حسنًا.” كانت تعلم أنه سيطلب رؤيتها مجددًا.
تناولت الرسالة الرسمية وفتحتها، لتجد فيها كلماتٍ تعبر عن رغبته في لقائها، مع تحديد المكان والزمان.
وقعت عيناها بعد ذلك على باقة الزهور التي كان يحملها جون؛ ورود حمراء نضرة، لم تكن بحاجة للسؤال لتعرف من أرسلها.
لوحت بالرسالة وهي تفكر مليًا.
“جون، ما رأيك بالأمير الرابع كزوجٍ محتمل؟”
“في الحقيقة…”
جرَّ كلماته بتردد، فالتفتت إليه آدورا. كان جون يفك غلاف الباقة ويستبدل بها الزهور الذابلة في المزهرية.
“ألا يعجبك؟”
“كلُّ ما أتمناه هو أن تكوني سعيدة، يا سيدتي.”
كانت تلك طريقته اللبقة في قول “أنا أعترض.” لقد كانت تفهم مخاوفه تمامًا، كما أنها لم تكن مرتاحةً لعرض الأمير.
فطلب الزواج من فردٍ في العائلة المالكة أمرٌ مشرف بقدر ما هو عبءٌ ثقيل، ناهيك عن أن عرضه لم يكن يخلو من ريبة تجعل النفس لا تتقبله بصفاء.
“حسنًا، إنه ليس رجلًا سيئًا ربما؟”
ربما كانت شخصيته فريدة فحسب، أو غريبة الأطوار قليلًا، أو ربما كان من الصعب مجاراته في الحديث أحيانًا.
أدركت آدورا منذ لقائهما الأول حين جُذب شعرها أن الأمير الرابع، الذي يبدو ضئيلًا وضعيفًا كما تقول الشائعات، لم يكن صعب المراس فحسب، بل كان غريب الأطوار حقًا.
فبعد أن طردها من غرفته لمجرد أنه كان في مزاجٍ سيء، أمرها وهي في طريقها لغرفتها:
قالها بابتسامةٍ مشرقة، ومنذ ذلك الأمر لم تطأ قدماها غرفته.
لم يكن هناك داعٍ لحمايته في الداخل على أيِّ حالٍ، فصار مكانها الطبيعي خلف الباب.
ولولا أنه سقط فجأةً بنوبة صرع وهو وحيد، ولولا أنها لم تشك في تصرفاته المريبة، لظلت تقف كالحارس الصامت خلف الباب طوال مدة خدمتها.
“هل تنوين قبول عرضه؟”
“لا أدري… ربما سأرفضه.”
وضعت رسالة الأمير جانبًا، واتجهت بنظرها إلى رسائل الخطبة المتناثرة على الطاولة.
حتى لو رفضت الأمير الرابع، كان عليها أن تختار شخصًا ما قريبًا، أو على الأقل تحصر الخيارات.
تذكرت طلبات الزواج التي قرأتها بعناية، لكن لم يشعر قلبها بأي انجذاب لأحد، حتى أولئك الذين زاروها شخصيًا.
“أخبرني يا جون، هل ترى بين هؤلاء من يستحق؟”
سألت كبير خدمها الموثوق مجددًا، لكنه أجاب بحزم هذه المرة:
“هذا قراركِ وحدكِ يا سيدتي، فهو شريك حياتكِ.”
“الحقيقة أنني لا أعرف من الأنسب.إنّه أمرٌ شاقٌ حقًا.”
“نعم، شاقٌ للغاية.”
لو لم تكن هناك خيارات لكان الأمر محزنًا، لكن كثرتها كانت معضلة أيضًا. فكلما زاد التفكير، صعب القرار.
لم تكن آدورا تطمع في الكثير؛ لا تريد حبًا جارفًا ولا مودةً مبالغًا فيها. زواجها في الحقيقة لم يكن سوى عقدٍ بين طرفين تلتقي مصالحهما.
لكن الطمع الزائد لدى الطرف الآخر لن يكون مناسبًا أيضًا، فهي لن تستطيع تلبية رغباته بعد رحيلها.
كانت تبحث عن شخصٍ طموحه معتدل، لديه حس بالمسؤولية، ويحسن معاملة من حولها. والأهم من ذلك، كانت تريد شخصًا لا يحبها.
‘لأني لا أريد لأحدٍ أن يحزن عليّ طويلًا…’
ستموت آدورا قريبًا، هذه حقيقةٌ لا جدال فيها.
ستكون ممتنةً لمن يأسف لرحيلها، لكنها لم تكن تريد لشخصٍ أن يغرق في حزنٍ عميق يحرق ما تبقى من حياته كما فعلت هي.
لهذا السبب رفضت عرض تيريك؛ فموتها كصديقةٍ سيكون وقعُه ثقيلًا بما يكفي، أما كزوجٍ فالأمرُ محال.
لم تكن تريد له أن يحمل هذا العبء، وحتى لو لم تكن مريضة، لم تكن لتقبل بأن يستنزف حياته في التفضل عليها.
“لهذا السبب استبعدتُ أصحاب الأطماع الزائدة، والذين بدت مشاعرهم أعمق مما ينبغي. استبعدتُ المتملقين والمندفعين، وحتى أولئك الذين لا يملكون اهتمامًا بالزواج وسيقضون وقتهم خارج المنزل.”
لكن الحكم على المظاهر له حدود. وحتى لو حالفها الحظ ووجدت الشخص المناسب، فلا أحد يضمن كيف سيتغير بعد الزواج؛ فالبشر عادةً ما يخفون غير ما يظهرون.
لا بد من ترك الأمر للقدر.
القدر… لمست آدورا جبهتها ونظرت إلى جون وهو يرتب الرسائل المبعثرة.
“أنا معجبةٌ بك يا جون. ما رأيك أن تتزوجني أنت؟”
“سيكون ذلك رائعًا. وحينها سأتحمل توبيخ سيدتي وسيدي الراحلين في الآخرة، وسأستمع لسخرية زملائي وهم يتساءلون إن كان العجوز قد خرف أخيرًا.”
ضحكت آدورا ضحكةً خافتة على رده الساخر.
لو قال جون الصارم والقاسي قديمًا كلماتٍ كهذه لما استطاعت حتى الابتسام، لكن جون الوديع الآن جعلها تتخيل منظره وهو محاطٌ بالزملاء الذين ينهالون عليه بالنصح.
تلاشت الضحكة سريعًا وحلَّ الصمت في الغرفة مجددًا.
عادت عيناها للطاولة، بملامح خالية من التعبير تشي بتعقيد أفكارها.
حاول جون متابعة الحديث بحذر:
“سيدتي، إن كان الأمر يحيركِ هكذا، فلِمَ لا تفكرين بتمهل؟ الزواج مسألةٌ تتطلب التروي.”
كانت المسألة تتطلب أقصى درجات التروي، لكن آدورا لم تكن تملك ترف الوقت.
لم تكن تعرف كم سيصمد جسدها هذا. كان الوقت بالنسبة لها كالساعة الرملية التي لم يبقَ في جزئها العلوي إلا القليل؛ كانت قلقة من ضياع يومٍ واحد هباءً، وهذا ما جعلها أكثر حذرًا.
“جون.”
“نعم، يا سيدتي.”
“جدتي والدةُ أمي قد ماتت بسبب المرض، أليس كذلك؟”
“نعم، كان الأمر كذلك. ساءت حالتها فجأةً، مما جعل السيدة والدتكِ تعاني كثيرًا حينها.”
تباطأت حركة يد جون وهو يرتب الأوراق، وكأنه يسترجع ذكرى بعيدة جدًا.
“ساءت فجأة؟ ألم تكن مريضةً من قبل؟.”
“في البداية لم تكن الحالة خطيرة. كانت تسعل قليلًا لكن وجهها كان نضرًا، ولم تكن تشكو من ألمٍ يمنعها من التجوال. لم يكن أحدٌ يعلم بمرضها، حتى هي نفسها.”
“وكيف عُرف الأمر إذن؟”
“على ما أذكر، انهارت فجأةً فعُرف مرضها. ويُقال إنها كانت تبصق الدم في ذلك الوقت فأدركوا مرضها. سمعتُ أن سرعة استشراء المرض تختلف من شخصٍ لآخر.”
“وماذا حدث بعدها؟ هل توفيت فورًا؟.”
“لا، عاشت بعدها حياةً طبيعية بلا مشاكل تذكر. ولكن بعد مرور عام تقريبًا، تدهورت حالتها فجأة، ثم أغمضت عينيها ولم تستيقظ ثانية.”
‘فهمت… إذن لن يكون الموت غدًا…’
طمأنها هذا اليقين. كانت حالتها تشبه حالة جدتها؛ لا تشعر بألمٍ يفتك بها الآن، ولا يبدو شحوب الموت على وجهها.
كانت تشعر بالنشاط حتى بعد تمارين الصباح. قبل مدة كانت تعاني من آلام في المعدة أو قيء، لكنها الآن تأكل وتعيش بشكلٍ جيد. لولا فحص الطبيب، لظنت أنه مجرد إرهاقٍ متراكم.
ربما ستغادر هي أيضًا فجأة في يومٍ ما.
انكمشت آدورا على الأريكة، وشعرت بشيءٍ من الراحة؛ فهي لا تريد معاناةً طويلة.
“ولكن، لِمَ تسألين عن هذا؟”
“لا شيء مهم. المهم أنني لا أستطيع تأجيل الزواج للأبد، سأختار بعض المرشحين. لا يمكنني ترك الأمور معلقة بعد كل هذه الضجة.”
بما أنها لم تشعر بشيء تجاه من قابلتهم، فربما ليس سيئًا أن تذهب لمقابلة من أرسلوا الرسائل بنفسها.
بدأت تتفحص الرسائل التي رتبها جون واحدةً تلو الأخرى، حينها بادرها بسؤالٍ آخر:
“سيدتي، هل لي أن أسألكِ شيئًا؟.”
“تفضل.”
“لماذا… لماذا تركتِ منصبكِ كقائدة الفرسان و كفارسة؟”
نظرت إليه آدورا بلمحةٍ سريعة، ومرت في ذهنها آلاف الأفكار.
كان جون يتذكر الآنسة الصغيرة الشجاعة؛ تلك الطفلة الجميلة الرقيقة التي تغيرت منذ تلك الليلة.
لم تعد تضحك، ولم تعد تظهر مشاعرها. حتى في الجنازة التي بكى فيها الجميع، لم تذرف دمعة واحدة.
كان وجهها الجاف يبدو هشًا وكأنه سيختفي الرياح.
وفي سن الرابعة عشرة، قصت شعرها فجأة وحملت سيفها ورحلت عن القصر دون التفاتة.
رحلت كمن وجد وجهته أخيرًا، ولم تعد أبدًا طوال تلك السنين.
والآن، تعود بعد أن قادت الحروب وحققت الأمجاد، لتتخلى عن كل شيء ببساطة.
“لقد عانيتِ كثيرًا في تلك السنين، أليس كذلك؟”
“كثيرًا جدًا.”
“وبذلتِ مجهودًا عظيمًا.”
“فعلت.”
“وجسدكِ نال منه التعب.”
فهمت آدورا مغزى سؤاله. إنه يقول: “لِمَ أصبحتي فارسةً رغم كل الشقاء والتعب، ثم تتركين كل شيء فجأة لتتزوجي؟”
لا بد من سبب. وبالطبع كان هناك سبب، لكنها لم تكن تنوي إخباره به بعد.
تمتمت آدورا بعد تفكير: “لأن سيفي انكسر.”
كعادة الفرسان، يتعلقون بسيوفهم. كان سيفها إرث والدها وكنز العائلة. ذلك السيف الذي رافقها في طريق الانتقام حتى نهايته، انكسر في أواخر الحرب. وكأنه كان يخبرها: “كفى، يمكنكِ الاستراحة الآن.”
لذا، كان أول ما فعلته بعد قرار الزواج هو الاستقالة.
كانت تلك خيانة لعهد الفرسان بالتضحية بالروح والجسد من أجل المملكة، لكنها في الحقيقة لم تلتزم بذلك العهد قط؛ فقد كان “فروسيتها” وسيلةً للانتقام فحسب، ومع انتهائه، لم يعد لديها ما تتمسك به.
“لقد نال مني التعب في هذه الحرب، ومواقف الموت المتكررة جعلتني أعيد التفكير. رؤية الزملاء يموتون كانت ترهقني في كل مرة. شعرتُ أن الاستمرار بقلبٍ كهذا سيكون خطأً.”
كانت هذه حقيقة. كانت تشعر بدنوّ أجلها مع كل مرة تشهر فيها سيفها، وموت الرفاق لم يصبح يومًا أمرًا مألوفًا مهما مرَّ الزمن.
“لم أُجبر على الاستقالة، بل فعلت ذلك برغبتي. كما قلتَ يا جون، لقد فعلت ما بوسعي، وبذلت قصارى جهدي، والآن أريد التوقف.”
رغم أن مرضها كان السبب الحاسم، إلا أنها لم تكن متأكدةً إن كانت ستستمر حتى لو كانت بصحةٍ جيدةٍ.
لربما استقالت في النهاية على أي حال. فالإرادة التي تفقد هدفها، لا بد أن تنكسر.
“هذا كلُّ ما في الأمر.”
كان هذا كل شيء في حياة آدورا ألفريد.
حياةٌ لم تكن تدعو للفخر ولا للندم، تمامًا كالسيف الذي انكسر تحت ثقل الدماء التي تلطخ بها.
التعليقات لهذا الفصل " 11"