كان هذا هو السبب الحقيقي وراء زيارة تيريك لمنزل ألفريد.
ففي قاعة الاستقبال، حين أعلنت آدورا فجأة عن نيتها الزواج، كان تيريك أكثر الحاضرين ذهولاً.
لم يسبق لهما أن خاضا حديثًا جادًا حول الزواج؛ فرغم أنه كان يمزحُ في هذا الشأن في سنوات طيشهما، إلا أنه كفّ تمامًا عن ذكر الأمر منذ أن عرف تاريخ عائلتها المؤلم.
فكيف لها أن تعلن زواجها بهذا الشكل المباغت؟
لم يشعر تيريك بخيبة أمل لأنها لم تستشره أولاً، بل تملّكه القلق؛ فقد أيقن أن وراء هذا القرار المفاجئ أسرارًا لا تُحكى، وغصةً كبيرة تمنعها حتى من البوح له، وهو رفيقُ دربها وصديقها المخلص.
لقد تساءل في نفسه أيّ وجعٍ تعتصرُه في صدرها هذه المرة؟
انعكست ملامحه القلقة بوضوح في عيني آدورا العنبريتين.
تذكرت كيف كان يتردد في الكلام وهو يودعها عند مغادرتها للفرسان، فابتسمت في سرها؛ لطالما كان تيريك بارعًا في قراءة ما وراء الوجوه.
“الأمر وما فيه أن هذه الحرب كانت طويلةً ومرهقة. عاد الجميع وهم يتوقون للقاء عائلاتهم أو من يحبون، أما أنا.. فلم أجد من ينتظرني. لقد فقدتُ عائلتي منذ الصغر، وليس في حياتي شخصٌ أناديه حبيبًا. لذا، فكرتُ أن الوقت قد حان لأجد من أشاركه الأفراح، ويواسيني في الأحزان، ويستقبلني بابتسامةٍ حين أعود.”
كانت كلماتها تحملُ جانبًا من الحقيقة؛ فعندما فكرت آدورا في الزواج، كانت هذه الأسباب حاضرةً في ذهنها، وإن لم تكن هي الدافع الجوهري، إلا أنها كانت تراود خيالها على أي حال.
اكفهرّ وجه تيريك بشدة فور سماع كلماتها.
شعرت آدورا أنها ربما فتحت جرحًا لم يكن يجدر بها لمسه، وهمّت بإغلاق الموضوع، لكنه سبَقها قائلاً:
“إن كنتِ لا تمانعين.. يمكنني أن أكون أنا ذلك الشخص.”
“ماذا؟! أهاهاهاهها!”
انفجرت آدورا ضاحكةً وكأنها سمعت نكتةً رائعة.
لو رآها رفاقها الذين كانوا يتوسلون إليها لترحب بهم بابتسامةٍ واحدة، لذهلوا من رنين ضحكتها.
لكن تيريك لم يشاركها الضحك، بل ظل وجهه جامدًا يفيض بالجدية.
كفت آدورا عن الضحك ونظرت إليه، وقد بقيت أثار ابتسامةٍ رقيقة على شفتيها.
“شكرًا لك يا تيريك.”
“أنا جاد. إن وافقتِ، سأرسلُ عرض الزواج رسميًا فور عودتي.”
“اسمع يا تيريك، حين أختار شريكي، ستكون أنت أول من يعلم حسنًا؟”
“…”
لم ينطق تيريك بكلمة أخرى، فقد أدرك أنها رسمت حدًا لا يمكن تجاوزه.
لم تكن آدورا تشك في صدق نواياه، لكنها لم تكن تريده أن يفعل ذلك.
ورغم أن معظم زيجات النبلاء تُبنى على المصالح، إلا أنها كانت تتمنى لتيريك أن يتزوج بمن يحبها حبًا حقيقيًا، لا مجرد عاطفةِ صداقة.
فكرت للحظة أن الحياة معه قد تكون ممتعة؛ فاهتماماتهما مشتركة، وذكريات طفولتهما واحدة، وسيكون من الجميل أن يشيبا معًا وهما يتكئان على بعضهما البعض.. كان ذلك خيارًا ليس بسيءٍ، لكنها اكتفت بالابتسام.
“لا تقلق بشأن الأمير ليونيل، لن يحدث مكروهٌ معه.”
رغم أن عرض الأمير الرابع كان مفاجئًا، إلا أنه لم يكن قسريًا، ولم تشعر أنه سيضايقها إن رفضت.
أرادت آدورا أن تتعامل مع الأمر كحادثةٍ عابرة، و كذكرى طريفة تحكيها لاحقًا.
“بل ربما ينبغي لنا أن نقلق على الأمير نفسه.”
فلو رفضت عرضه، ألن يجرح ذلك كبرياءه كفردٍ من العائلة المالكة؟
“أنتِ أغلى عندي من مائة أمير.”
“هذه كلماتٌ لا تليق برجل يرتدي بزة الفرسان.”
رمقته بنظرةٍ فاحصة؛ فليس من شيم من أقسم على الولاء للتاج أن يتحدث هكذا.
شعر تيريك بالحرج وأضاف بسرعة: “اجعلي الأمر سرًا بيننا.”
“لك ذلك.”
ابتلع تيريك مرارة الرفض وهو يرى نظرتها العابثة، مدركًا أنها تمزح لتخفف عنه وطأة الموقف.
“لكنني كنت جادًا حين قلت إنكِ غاليةٌ عليّ.”
رغم خجله، إلا أنه أفصح عن مكنون قلبه.
لم ينظر إليها يومًا كامرأة، لكنه كان مستعدًا للارتباط بها إن كان ذلك سينقذها، هكذا كان عمق علاقتهما.
التقى تيريك بآدورا أول مرة حين كان فارسًا مبتدئًا.
صُدم يومها لرؤية طفلةٍ ضئيلة الحجم بين أقرانه.
كانت مأساة عائلة ألفريد قصةً يعرفها الجميع، لكنه أدرك حين رآها أن سماع الفجيعة شيء، ورؤية أثرها في العيون شيءٌ آخر تمامًا.
كانت بشعرٍ قصير، وثيابٍ تشبه الصبيان، ووجهٍ خلا من أي بصيص للبهجة.
لم يبقَ أثرٌ لتلك الطفلة البريئة؛ وقفت أمامه غريبةً بملامح تفوق سنها، وكأن يدًا غاشمةً انتزعت السعادة من حياتها.
عندها فقط، أدرك تيريك مدى عمق المأساة التي هزت كيان تلك العائلة.
كانت آدورا محط الأنظار لكونها الفتاة الوحيدة في سلك الفرسان.
تحول ذهول تيريك الأول إلى اهتمام، ثم إلى رباطٍ وثيق.
كانت آدورا جافة الطباع، لكن تيريك وجد فيها الصدق الذي يغني عن مئات الكلمات المعسولة.
راقبها لسنوات، وفي خضم التعب والجهد، نبتت بينهما ثقةٌ مطلقة ومودةٌ عميقة.
“أتمنى ألا تسلكي دربًا وعرًا بعد الآن.”
كان يعلم ما تعنيه هذه الحرب لها.
كان يتقطع قلبه حين يتذكر كيف كانت تلاحق هدفها، وكأنها شعلةٌ تصر على الاحتراق حتى آخر قطرة من شمعها.
“أريدكِ أن تكوني سعيدةً فحسب.”
كان تيريك أكثر من يتوق لرؤية شخصٍ يملأ الفراغ في حياتها، لكي لا تظل وحيدةً في مواجهة قدرها.
وإذا كان هذا الزواج المفاجئ سيحقق لها تلك السعادة، فإنه سيباركُه بكل جوارحه.
“أتمنى ذلك حقًا يا آدورا.”
“أجل.”
ولم تكن آدورا غافلة عن كل ما يختلج في صدره.
***
في عينين تتقدان بلهبٍ أشد من النار، انعكست صورةُ رجل.
الرجل الذي قاد ست سنوات من الحرب إلى الفوضى.
لم تنسَ آدورا وجه الرجل الذي كان يتقدم ليخفي الرجل العجوز الممدد على الأرض، مدى الحياة.
مرت سنواتٌ طوال منذ ذلك اليوم الجحيمي. ظنت لمرةٍ واحدة أنه قد يأتي للبحث عنها، ليصحح خطأه الفادح حين ترك تلك الطفلة المختبئة في الخزانة حية.
لكنه تركها تعيش، ربما استهان بكونها فتاةً، ولم يتخيل قط أنها ستحمل السيف يومًا لتثأر منه.
كان ذلك هو خطأه القاتل، واليوم ستجعله يدرك مدى غفلته!
اندفعت آدورا نحوه وهي تقبض على سيفها بقوة.
تلاحمت النصال وتطاير الشرر في صخبٍ عنيف. كان الإجهاد قد نال منهما، وأصبحت الكفة تميل لمن يملك إرادةً أقوى.
لمحت آدورا ثغرةً في خاصرته، فانقضت كالصقر. حمت ظهرها بنصلها، ثم دارت بجسدها لتغمد سيفها في خاصرة خصمها.
لم يستطع الرجل صد الهجوم المباغت، ففقد توازنه بينما خدش نصلُه وجنة آدورا.
تطلع الرجل ببطء نحو خاصرته المنزوفة، ومع سحب السيف، تفجرت الدماء.
ترنح وهو يمسك بوسطه، ثم سقط على ركبةٍ واحدة مستندًا إلى طرف سيفه. تقدمت آدورا منه وهي تلهث بشدة.
“أتذكرني؟”
رفع الرجل رأسه بضعف، تلاقت عيناهما للحظة قبل أن يطرق برأسه ثانية.
“لا أدري.. لا أتذكر.”
“بيديك هاتين قتلتَ أمي! و ربما أبي وأخي الصغير و خدمي الأعزاء أيضًا! أبعد كل هذا لا تتذكر؟!”
“هل يحصي المرء من قتلهم؟ إنها الحرب، وفي الحرب نفعل أي شيء من أجل النصر. ألم تقتلي أنتِ أيضًا الكثيرين لتصلي إلى هنا؟”
كزّت آدورا على أسنانها.
“اخرس!”
أطاحت بسيفها في حركةٍ خاطفة، فجرح النصلُ عنقه وتناثرت الدماء.
وفي تلك اللحظة، انكسر سيفها إلى نصفين؛ فقد استُهلك تمامًا في معاركها الطويلة.
تناثرت الشظايا على الأرض، وبقي في يدها مقبضٌ يحمل نصف نصل.
تهاوى الجسدُ بلا روح، و تدحرج الرأس المقطوع حتى استقر تحت قدميها.
انحنت ببطء، وأمسكت الرأس من شعره، والدم يقطرُ من موضع القطع.
اللحظة التي تمنتها كل يوم، باتت الآن بين يديها.
لقد تحقق الانتقام أخيرًا.
أغمضت عينيها واستنشقت الصعداء. شعرت بحلاوةٍ في ريقها، وبخفةٍ غريبة في جسدها المنهك.
لم يكن منظر الدماء على يدها يومًا بهذا الجمال؛ الآن فقط يمكن لأرواح من رحلوا أن ترقد بسلام.
انغمست في نشوة النصر.. ثم داهمها اليأس.
‘لقد نلتُ الانتقام الذي رغبتُ فيه، فماذا بقي لي غير الآن؟’
لم يبقَ لها شيء.
عادت إلى خيمتها وهي تعاني من ألمٍ يعتصر أحشاءها. كانت تشعر بتوعكٍ منذ أيام، لكن الوجع بلغ ذروته تلك الليلة.
التعليقات لهذا الفصل " 10"