ارتعد خدم قصر الأمير الأوّل من صرخة سيّدتهم المفاجئة.
حتى لقاء التحيّة الصباحيّ مع جلالة الإمبراطورة، بدت غلينا في مزاج جيّد.
لكنّها عادت بوجه جامد كالصّخر. و ما إن أُغلِق باب غرفة نومها خلفها ، حتّى صرخت.
“كيف تجرؤ على السّخرية منّي — وهي ليست سوى وغدة بيعت مقابل المال!”
“جلالتكِ!”
“تلك المزهرية — لا، أرجوكِ! لقد كانت هدية من جلالة الإمبراطورة!”
“اتركيني!”
دفعت غلينا الخادمة التي حاولت منعها من رمي المزهرية.
فسقطت الخادمة أرضًا، وزفرت غلينا قبل أن تعيد المزهرية إلى الطاولة.
“لستُ بذلك الغباء.”
تنهدت بعمق، ثمّ ارتمت على الأريكة و سوّت شعرها. رفعت ذقنها بفخر، وبدأت تنقر على مسند الأريكة بأطراف أصابعها.
كان تعبيرها هادئًا، كأنّها لم تنفجر غضبًا قبل لحظات.
“ليست كما تقول الشائعات”
تذكّرت غلينا هيئة السّيّدة أمبروز.
كانت تتوقّع فتاة قرويّة مبتذلة — لكنّ المرأة كانت ترتدي أحدث صيحات الموضة.
عادةً، عندما تحاول فتاة من الأرياف تقليد أزياء العاصمة، تبدو كأنّها ترتدي ملابس لا تناسبها.
لكن لم يكن في هيئة السيّدة أمبروز أيّ إحراج أو تناقض.
حتّى مع عقد الإمبراطورة الماسيّ حول عنقها، ظلّت متماسكة وواثقة.
وأسلوبها في الحديث، رغم رقّته، كان حادًّا — كما لو كانت سيّدة ذات باع طويل في المجتمع الأرستقراطيّ.
“أين شارلوت؟”
“استدعيتِني ، جلالتكِ”
ما إن تحدّثت غلينا حتّى اقتربت خادمة ذات شعر بنّيّ و انحنت بعمق. حدّقت غلينا في الخادمة قليلًا ثمّ فتحت فمها ببطء.
“إذًا، يمكن أن تكون معلوماتكِ خاطئة أيضًا، أليس كذلك؟ السيّدة أمبروز لم تكن قرويّة ساذجة عاجزة حتّى عن الظهور في المجتمع. بل حصلت على عقد ماسيّ من جلالة الإمبراطورة”
كانت غلينا تفحص أظافرها بعناية بينما واصلت الحديث.
“ولم تكوني تعلمين أنّ الأمير فرانز قد أحضرها بنفسه. وبسبب ذلك، بدا موقفي في غاية السّخافة”
“أنا — أنا أعتذر، جلالتك.”
“أنتِ تعرفين ما يجب عليكِ فعله، صحيح؟”
“نعم، جلالتك!”
ردّت شارلوت على الفور وهي تضرب جبينها بأرضيّة الرخام. دون تردّد.
راقبتها غلينا طويلًا بينما كانت جبهة الخادمة ترتطم بالأرض — تاك ، تاك ، تاك.
و حين بدأ الدم يتجمّع على جبينها، نقرت غلينا بلسانها.
“لا تلوّثي الأرض.”
“أ-أنا آسفة، جلالتكِ!”
“سأسامحكِ لأنّني أعلم بولائكِ.”
“شكرًا لكِ! لن أكرّر هذا الخطأ مجدّدًا!”
كانت شارلوت تهزّ رأسها بقوّة والدم يسيل على وجهها.
ضيّقت غلينا عينيها وهي تراقب الخادمة برضا.
رأت في عينيها الخوف والخضوع، وأرضاها ذلك.
“راقبي السيّدة أمبروز عن كثب. أريد تقارير عن كلّ شيء — ما تفعله، من تلتقي، إلى أين تذهب، كلّ شيء.”
“و-لكنّ السيّدة أمبروز تقيم في قصر الأمير الثّاني … من الصّعب زرع خادمة هناك. كما تعلمين، فرسان الأمير الثّاني هم من يحرُسون القصر شخصيًّا …”
“أتختبرين صبري؟”
رفعت غلينا حاجبها. وميض بارد ظهر في عينيها الزرقاوين المتجمّدتين، فانحنت شارلوت بسرعة وقالت بصوت مذعور:
“لـ-لا! سأجد طريقة للقيام بذلك!”
أشارت غلينا إليها بيدها بفتور.
قفزت شارلوت واقفة و خرجت بسرعة لحظة أن أُذِن لها بالمغادرة.
تأمّلت غلينا الباب وهو يُغلق ، وعبست حاجباها.
لم ترتكب شارلوت خطأً. لا … لا بدّ أنّ شيئًا ما قد حدث قبل أن تغادر أراضي أمبروز.
بالنّسبة لغلينا، كان الأمير الثّاني عقبة كبيرة في طريقها لتصبح ولية العهد.
ولهذا شعرت بارتياح بالغ حين اختيرت ابنة بارون مغمور لتكون زوجته. كلّما كانت الفتاة أكثر سذاجة ، كان من الأسهل تدميرها اجتماعيًّا.
بحسب القيل والقال، كانت السيّدة أمبروز خاضعة لزوجة أبيها، ولم تدخل المجتمع الراقي على نحوٍ مناسب قط.
صحيح أنّها قد ظهرت رسميًّا، لكنّ ذلك لم يكن إلّا لأنّ زوجة أبيها خطّطت لبيعها لنبيل ثريّ.
ووفقًا لما علمته غلينا، لم تكن الفتاة ساذجة وحسب — بل كانت غبيّة تمامًا.
هي الوريثة الشّرعيّة لبارون راحل ، و مع ذلك لم تطالب بإرثها، بل سمحت لنفسها أن تُساء معاملتها وتُباع للعائلة الإمبراطوريّة.
فمن أين جاءت بتلك الثّقة؟
لم تُظهر السيّدة أمبروز أيّ رهبة أمام غلينا ، الجوهرة الغالية وزوجة الأميرة الأولى.
بل على العكس، كان تصرّفها جريئًا، بل واستفزازيًّا.
وكيف استطاعت أن تجعل الإمبراطورة تلتفّ حول إصبعها؟
فركت غلينا صدغيها بإحباط.
حين زارت جلالة الإمبراطورة لتحيّتها صباحًا، صُدمت حين رأت ذلك العقد يزيّن عنق تلك الفتاة.
عرفته فورًا.
كان هو العقد الذي ارتدته الإمبراطورة في زفافها من الإمبراطور — آخر تحفة صنعها الحرفيّ ريشير.
وكان كذلك العقد الذي طالما رغبت به غلينا بشدّة.
كانت الإمبراطورة قد أهدتها بعض المجوهرات من قبل.
لكنّ ذلك العقد الماسيّ ظلّ محفوظًا بعناية، ولم يُعرض على أحد قط.
ظنّت غلينا أنّها لن تحصل عليه إلّا بعد وفاة الإمبراطورة.
لكن … فتاة تافهة دُحرجت من الريف، حصلت عليه أوّلًا.
سأحصل على ذلك العقد — مهما كلّفني الأمر.
صرّت غلينا على أسنانها. لقد اعتادت أن تحصل دائمًا على ما تشاء. وهذه المرّة لن تكون استثناءً.
وخاصةً … حين تكون خصمتها فلاحة كـإليزيا أمبروز.
***
حدّقت أليزيا بانعكاس صورتها في المرآة.
كان العقد الماسيّ المتلألئ يزيّن عنقها ، لكن ملامحها كانت خالية من التّعبير.
“سيّدتي ، هل أنتِ بخير؟”
“…سارا”
أدارت إليزيا رأسها نحو الخادمة.
كانت سارا قد جاءت معها من قصر آل أمبروز.
حين تتزوّج النّبيلات من العائلة الإمبراطوريّة، يُسمح لهنّ بإحضار خادمة من أسرتهنّ. وذلك لتسهيل الانتقال إلى الحياة في القصر.
اختارت إليزيا سارا دون تردّد.
كانت سارا ابنة مرضعتها، وقد نشأتا معًا كأختين وصديقتين.
لم تكن هناك من تثق بها إليزيا أكثر منها.
“لا تبدين على ما يرام. هل أُحضِر لكِ شوربة الدّجاج؟ أنتِ تحبّينها.”
قالت سارا بابتسامة لطيفة. هزّت إليزيا رأسها وأشارت إلى عنقها.
“لا شوربة. فقط ساعديني على خلع هذا العقد، من فضلكِ”
“بالطّبع. لحظة واحدة فقط.”
نقرت المشابك. و انفكّت الألماسات المتلألئة من عنقها.
وضعت سارا العقد في صندوقه برفق ، و عيناها تتأمّلان جماله بإعجاب بريء.
“إنّه جميل جدًّا. لقد أصبحتِ فعلًا من العائلة الإمبراطوريّة الآن. لا شكّ أنّ جلالة الإمبراطورة تحبّك كثيرًا”
“حقًّا؟”
“بالطّبع! سمعتُ أنّ الأميرة غلينا أرادت هذا العقد أيضًا. لكنّ جلالتها أعطته لكِ. وهذا أمر ليس هيّنًا أبدًا”
ابتسمت سارا بفرح و هي تسلّم الصندوق لخادمة أخرى.
“إيزولدي ، ضعيه في خزنة غرفة الملابس. في أبعد مكان — في العمق تمامًا ، حسنًا؟”
“بالطّبع.”
أجابت إيزولدي بابتسامة خفيفة و توجّهت إلى غرفة الملابس. كانت من الخادمات اللواتي خصّصهنّ لوشيوس للقصر — و قد اختارها بعناية باعتبارها الأجدر بينهنّ.
وبالفعل، كانت إيزولدي كما وصفها لوشيوس تمامًا.
حذرة، فعّالة، وكاتمة للسرّ.
في حياتها السّابقة، بقيت إيزولدي مع إليزيا و سارا حتّى النّهاية في القصر المعزول. و لهذا ، و رغم أنّهما التقتا حديثًا ، لم تتردّد إليزيا في الوثوق بها.
و بعد أن غادرت إيزولدي الغرفة ، لم يتبقَّ فيها سوى إليزيا و سارا.
و بمساعدة سارا ، خلعت إليزيا ثيابها الرّسميّة و ارتدت فستانًا منزليًّا أكثر راحة.
وأثناء استدارتها، وقعت عيناها على الباب الجانبيّ المؤدّي إلى غرفة فرانز.
ترى … ماذا يفعل فرانز الآن …؟
“سارا، هل تعتقدين أنّه ربّما —”
“نعم؟”
“…لا شيء. فقط اربطي الشّريط عند خصري بشكل مرتخٍ. أشعر بالتّعب”
“بالطّبع. لا تقلقي”
عدّلت سارا الشّريط حول خصر إليزيا بمهارة، وكانت يداها رشيقتين بفعل سنوات من التّمرين.
جلست إليزيا على حافة السّرير وهي تتنهّد، وراحت تمشّط شعرها ببطء، غارقة في أفكارها.
‘هو من أحضرني إلى هنا بنفسه … لكنّه لم يأتِ لرؤيتي منذ ذلك الحين.’
لم يتحدّثا حديثًا حقيقيًّا منذ وصولهما إلى قصر الأمير الثّاني. قال فرانز إنّ لديه عملاً، وغادر على الفور.
و كان ذلك قبل يومين.
بالطّبع، لم تكن تتوقّع علاقة رومانسيّة. فخطبتهما كانت ترتيبًا سياسيًّا في الأصل. لكنّ بُعده الكامل عنها … كان مقلقًا.
‘حتّى أنّه لم يسألني إن كنتُ بخير …’
أطبقت إليزيا شفتيها.
كان صدرها يثقلها، لكنّها اعتادت على هذا الثّقل منذ زمن.
فقد كانت دائمًا وحيدة، حتّى في بيتها.
لا يهتمّ بها أحد ما لم يكن له مصلحة في ذلك.
التفتت إلى سارا التي كانت تطوي ثوبها المهمل و تضعه في صندوق الملابس.
“سارا.”
“نعم، سيّدتي؟”
“إذا جاء أحد من قصر الإمبراطورة مجدّدًا، لا تفتحي الباب دون أن تسأليني أوّلًا.”
رمشت سارا بدهشة ، “هل حصل شيء؟”
“لا. فقط … لا أريد أن أتفاجأ مرّة أخرى.”
“… مفهوم. سأكون حذرة.”
أومأت إليزيا بخفّة و اتّكأت قليلًا على الوسائد. كانت ترغب في الرّاحة، لكنّ أفكارها كانت تضجّ برأسها.
و حين انجرفت عيناها نحو الباب الموصد المؤدّي إلى غرفة فرانز، تمتمت بصوت خافت: “… فرانز.”
ثمّ … دوى الطّرق على الباب.
طق-! ، طق-!
استدارتا إليزيا و سارا بدهشة.
“من الطّارق؟”
“إنّه أنا. جيرارد”
جاء صوت شقيقها من خلف الباب.
نهضت إليزيا بسرعة ، “ادخل.”
فُتح الباب ببطء، وظهر جيرارد أمبروز.
كان يرتدي لباسًا رسميًّا، كما لو أنّه عاد للتوّ من مجلس القصر. بدا وجهه هادئًا، لكن التوتّر حول عينيه كان واضحًا.
“عدتُ للتوّ من لقاء جلالة الإمبراطور”، قال بصوت متماسك.
“وماذا حدث؟”
شدّ شفتيه خطًّا مستقيمًا.
“…كما توقّعت، جلالته يدعم الأمير فرانز بالكامل. والنّبلاء جميعًا يراقبون بصمت كيف ستتطوّر الأمور”
تصلّب بصر إليزيا ، “وماذا عن الإمبراطورة؟”
“لا تبدو راضية. خصوصًا بعد زيارة اليوم … لا بدّ أنّ غلينا أحدثت ضجّة بعد عودتها إلى جناحها.”
“نعم ، فعلت.”
نظر جيرارد إلى أخته بتمعّن ، “هل أنتِ بخير؟”
ابتسمت إليزيا بخفّة ، “أنا بخير.”
“…لقد تغيّرتِ.”
رفعت رأسها تنظر إليه ، “ماذا؟”
“أصبحتِ مختلفة. أقوى. أكثر اتّزانًا. إليزيا القديمة ما كانت لتقف وجهًا لوجه مع امرأة مثل غلينا”
ضحكت إليزيا ضحكة جافة ناعمة.
“ربّما فقط … سئمتُ من الخسارة”
تلطّف وجه جيرارد قليلًا. اقترب منها وأعطاها ظرفًا صغيرًا.
“ما هذا؟”
“معلومات. عن ما يحدث في العاصمة … و عن جناح الإمبراطورة.”
“…إذًا الإمبراطورة حاولت أن ترتّب زواجًا بين فرانز وابنة عمّ غلينا”
“نعم. لكنّ فرانز رفض. و لهذا على الأرجح تُكنّ لكِ غلينا كلّ هذا العداء”
“فهمت.”
أغلقت المذكرة و وضعتها في درجها.
“سأكون حذرة.”
تردّد جيرارد، ثمّ قال بصوت منخفض: “لا تثقي بأحد بسهولة. حتّى من هم مقرّبون من فرانز”
نظرت إليه إليزيا بثبات ، “لن أفعل.”
“سأبقى في العاصمة لبعض الوقت. إذا احتجتِ شيئًا، أرسلي عبر سارا.”
“شكرًا لك ، جيرارد”
ومع إيماءة أخيرة، خرج جيرارد وأغلق الباب خلفه.
وعندما عاد الصّمت إلى الغرفة، نظرت إليزيا مرّة أخرى إلى انعكاسها في المرآة.
كانت عيناها، اللّتان كانتا مليئتين بالتردّد يومًا، تشعّان الآن بعزيمة باردة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 9"