ارتعشت شفتا فرانز الشاحبتان قليلًا و هو يحاول أن يتكلّم.
-تموّج الماء في حوض الاستحمام برفق، وتحركت يده المبللة بضعف داخله.
استدارت إليزيا نحوه، وكأنّ حركته الهزيلة جذبتها لا إراديًّا.
ومع اقترابها من الحوض، تبعتها أنظار لوشيوس والخدم الحاضرين بشغفٍ ظاهر.
جعلها تركيزهم تتردّد، لكن فرانز، وقد لاحظ ذلك، أدار رأسه بصعوبة نحو لوشيوس.
قرأ لوشيوس الأمر الصامت في نظرة الأمير، فأسرع بإخراج الطبيب والخدم من الغرفة.
وما إن خرج الجميع، حتّى خيّم الصمت.
لم يكن يُسمع سوى طقطقة الخشب في الموقد.
ولعلّهم خشوا أن يبرد الأمير من الداخل، فبالغوا في تكديس الحطب … كما لو أنّهم يجهّزون للشتاء القارس.
نتيجةً لذلك، شعرت إليزيا، بثوبها المخمليّ، وكأنها على وشك الغليان.
“إليزيا … الليدي أمبروز.”
ناداها فرانز مرّةً أخرى، بينما كانت تمسح جبينها بمنديل.
كان صوته أوضح هذه المرّة، وأكثر ثباتًا.
وضعت المنديل على الطاولة الجانبية، واقتربت ببطء من الحوض.
حتى أثناء زواجهما، نادرًا ما رأت جذعه العاري-والآن، كان واضحًا تحت الماء النقيّ.
لطالما ظنّت أنّ وجهه وحده هو ملامح الكمال، لكنّ جسده أيضًا بدا كمنحوتة.
إذًا لهذا كانت سيدات الطبقة النبيلة يتهامسن بأنّي “امرأة محظوظة”…؟
بدأت تدرك أخيرًا معنى تلك النظرات المليئة بالحسد.
لكن، وعلى عكس ما اعتقدن، لم يُسمح لها يومًا أن تلمسه دون إذنه.
“لديّ … طلب”
سحبها صوته الواهن من أفكارها.
ركعت بجانب الحوض، بلا تعبير على وجهها.
وحين التقت أعينهما، حاول فرانز رسم ابتسامة على شفتيه.
في الماضي، رؤيته على هذا الحال كانت لتجعلها تبكي من الشفقة.
لكنّها لم تعد تلك المرأة.
حين قال إنّ لديه “طلبًا”، تجمّد قلبها من جديد.
طلب … بالطبع.
دائمًا، في الماضي كما الآن، لا يرى فيها سوى وظيفة واحدة.
“تفضل، صاحب السمو الأمير الثاني.”
أجبرت نفسها على الردّ بأدب، وقمعت رغبتها بالابتسام بسخرية.
تردّد فرانز، غير واثق من قول ما في ذهنه.
ووجدت تردّده مقزّزًا.
قلها فحسب-اطلب مني أن أريحك.
اطلب مني تحييد مانا جسدك.
أليس لهذا السبب أتيتَ إلى آل أمبروز بنفسك؟
“لقد … ناديتِني فرانز …”
“…عذرًا؟”
فاجأتها كلماته. رمشت بدهشة.
“ماذا قلت؟”
“فـ … فرانز. هاه …”
لهث وهو يحاول التنفّس، وكأنّ مجرّد الكلام أثقل من طاقته.
نزل بصرها لا إراديًّا-و اتسعت عيناها.
رغم حرارة الغرفة التي جعلت العرق يتصبّب من جبينها، كانت طبقة رقيقة من الجليد قد تغطّت بها سطح المياه.
هل الوضع سيّء إلى هذا الحد؟
أدركت أخيرًا، وإن كان بشكل غير مباشر، مدى التدمير الذي يُحدثه المانا في جسده.
ارتجف عمودها الفقري.
وحين التقى نظراتها، أداره فرانز بعيدًا بخجل.
ومع تقلّص وجهه، ازداد سمك الجليد وتشقّق.
“رجاءً … لا تقلقي بشأنه.”
تفاجأت إليزيا بنفسها، إذ كادت تمدّ يدها إلى الحوض.
لو لم يوقفها، لربّما استخدمت مانا النار خاصّتها لا إراديًّا لتخفيف معاناته.
“ما هو طلبك إذًا؟”
“أنا… أريدكِ… أن تظلي تنادينني فرانز… دائمًا.”
“هذا فقط؟”
“نعم.”
حدّقت به في حيرة. تكاثف الصقيع فوق شعره الذهبي.
و أثناء تحديقها الخالي من التعبير ، رسم على شفتيه ابتسامة مُرّة و أضاف: “هل هذا … كثير عليّ؟”
“…”
إليزيا … كانت تكرهه.
في هذه الغرفة تحديدًا، قُتلت-بأمرٍ منه.
ولو قتلته الآن، لما لامها حاكم.
لكن … لم تكن تريد ذلك.
يقولون إنّ الناس لا يتغيّرون بهذه السهولة، أليس كذلك؟
كم كان ذلك ساخرًا.
إليزيا المتردّدة لم تمت تمامًا على ما يبدو.
ربّما بدا فرانز رجلًا مختلفًا الآن …
لكنّ هذا التغيّر لا يعني لها شيئًا.
أنا من كان يجب أن يتغيّر … فلماذا أنت وحدك من تغيّرت الآن؟
“لا. سأفعل.”
أجابت ببرود و نهضت.
ثمّ، دون أن تلتفت، سارت نحو الغرفة الجانبية التي أراها إياها لوشيوس في الليلة السابقة.
وما إن دخلت وبدأت تُغلق الباب، حتى وصلها صوته الخافت: “غطّي أذنيك. لا تستمعي. مهما سمعتِ من أصوات.”
وتلك الليلة، وحتى الفجر، تردّدت آهات الألم من غرفة فرانز.
***
“الأمير فرانز ذهب إلى قصر آل أمبروز بنفسه ليحضركِ ، أليس كذلك؟”
“نعم، وكان ذلك شرفًا لي.”
“هذا النوع من العناية قبل الزواج … يثلج الصدر.”
ابتسمت الإمبراطورة برقة وهي تصبّ الشاي.
كانت إليزيا في جلسة استقبال معها.
في الليلة الماضية، كان فرانز يتلوّى من الألم حتى الصباح.
دخل لوشيوس والخدم غرفته وخرجوا مرّات عديدة.
تبديل المياه، وحرق الحطب، لم يتوقّفا حتى بزوغ الفجر.
‘سامحيني على قبح منظري.’
لكن مع حلول الفطور، ظهر فرانز بكامل اتّزانه.
من لم يره بالأمس، ما كان ليصدّق ما مرّ به.
اعتذر عن ليلة الأمس ببضع كلمات، وتناول طعامه كأن شيئًا لم يحدث.
حتى الخدم لم يُظهروا أيّ ردّة فعل.
كان يبدو أنّ كل من في قصر الأمير الثاني … معتادون على هذا.
وذلك ما أرعب إليزيا أكثر من أيّ شيء.
هل كان الأمر كذلك في حياتي السابقة أيضًا؟
هل كان فرانز يتحمّل نفس الألم، ويبدأ يومه على هذا الشكل؟
لن تعلم أبدًا.
ففي حياتها الماضية، لم يتشاركا الإفطار.
ولن يتشاركاه أبدًا.
“شكرًا على كلماتكِ الطيّبة. ما زلت أفتقر لكثيرٍ من الأمور، لكنّي سأجتهد لأتعلّم.”
“آه يا صغيرتي …”
زفرت الإمبراطورة بارتياح أمام تواضع إليزيا.
ابتسمت إليزيا داخليًّا. لم تعد تلك الفتاة المرتبكة التي ترتدي أزهارًا ذابلة و فستانًا ريفيًّا.
فستان اليوم اختاره فرانز بنفسه.
وبعد سنوات من دراسة الإتيكيت ، كانت بلا ثغرات.
درّبت نفسها-حتى تصبح ندًّا يليق بفرانز.
“لا أرى فيكِ أيّ نقص على الإطلاق”
ومع ابتسامة، رفعت الإمبراطورة جرسًا صغيرًا وهزّته بلطف.
يبدو أنّ إليزيا تركت انطباعًا أوليًّا جيدًا.
أجتزتُ الامتحان.
وقبل أن يتلاشى رنين الجرس، ظهرت الخادمات الموحدات.
“كنّتي الجديدة تستحقّ هديّة صغيرة. تعلّمتِ الكثير ، و الآن … لنرَ …”
تفحّصت الإمبراطورة مظهر إليزيا من الرأس إلى القدمين.
قبضت إليزيا يديها بتوتر.
رغم اجتهادها في الظهور بمظهر مثاليّ ، إلّا أنّ عين الإمبراطورة الفاحصة سترى ما لا يُرى.
“البساطة جميلة، لكنّ الإفراط فيها ممل. أحضرنَ صندوق الجواهر.”
“أمركِ ، يا صاحبة الجلالة.”
أمالت الإمبراطورة رأسها بابتسامة رشيقة.
وقد ذكّرت شرارة عينيها البنيّتين إليزيا بالأمير كرايتون.
“الآن بعد أن استقبلنا الأميرة الثانية ، لا مزيد من القلق. سمعت أنّكِ تمتلكين مانا ناريًّا؟ هذا يكمّل مانا الجليد لفرانز تمامًا. توازن مثالي.”
“لقد أحضرنا صندوق الجواهر.”
عند عودة الخادمة، أدارت الإمبراطورة رأسها.
كانت إليزيا تتوقّع صندوقًا صغيرًا متواضعًا …
لكنّها فوجئت بصندوق بحجم حقيبة سفر.
وعند فتحه، ظهر صفٌ من الخطّاطيف كأنّه خزانة مجوهرات-كلّ واحد منها يحمل جوهرة متلألئة ، دون فراغات.
وكان الجزء السفليّ مليئًا بالأدراج، وكلّما فُتح درج، أضاءت الغرفة ببريقٍ ساحر.
كلّ قطعة … ثروة بحدّ ذاتها.
الآن فهمت لماذا يقولون إنّ نفوذ الإمبراطورة عظيم …
تأمّلت إليزيا ، ليس مأخوذة بالجمال… بل غارقة بالتفكير.
رؤية مجوهرات الإمبراطورة أجابت على سؤالٍ لطالما حيّرها.
رغم أنّ ماناها أضعف من الإمبراطورة السابقة-والدة فرانز-
إلّا أنّ هذه المرأة حافظت على مكانتها ، و حكمت بلياقة.
ظنّ الجميع أنّ الفضل يعود إلى عائلتها الغنيّة-آل روشاناك.
لكن لا أحد عرف مدى ذلك الثراء … حتى الآن.
“دعيني أرى … آه ، هذه تليق بكِ”
اختارت الإمبراطورة عقدًا فاخرًا يتوسّطه ياقوت بحجم عملة ذهبيّة.
“يتناغم تمامًا مع شعركِ الأحمر. مرحبًا بكِ في العائلة الإمبراطوريّة”
“أشكركِ على هذا الترحيب الكريم.”
وقفت إليزيا ، ناشرةً تنّورتها في انحناءة رسميّة.
أومأت الإمبراطورة بلطف، وأشارت إلى الخادمة لتضع العقد عليها.
لكن، ومع اقتراب الخادمة، تراجعت إليزيا خطوة و قالت:
“يا صاحبة الجلالة ، إن سمحتِ لي …”
التفتت الإمبراطورة نحوها، فرَفَعت إليزيا يدها وأشارت إلى عقدٍ آخر داخل الصندوق.
“أرغب أن أتسلّم هذا، إن أذِنَت لي جلالتُك.”
تغيّرت نظرة الإمبراطورة للحظة وهي تنظر إلى القطعة التي اختارتها إليزيا.
التعليقات لهذا الفصل " 7"