لم يُظهر كاليب أيّ شيء في ملامحه، لكن مزاجه كان سيّئًا للغاية لأنه أفسد الأمور.
كان كرايتون هو من طلب منه دفع نيريس نحو الأمير الثاني.
لكن الخطّة فشلت من البداية. و كان يشعر بالخزي من مجرّد التفكير في مواجهته.
كلّ هذا لأن تلك المرأة أفسدت كلّ شيء. تبًّا لها.
صرّ كاليب و هو يطحن أسنانه.
كان يريد أن يمسك كرايتون من قميصه و يطالبه بتفسير.
في رسالته، وصف كرايتون نايريس بأنها نبيلة جميلة، راقية، لا تشوبها شائبة.
وفوق كلّ ذلك، كانت تمتلك مانا ناريّة قويّة، لذا ما إن تلتقي بالأمير الثاني، فإنّ كلّ شيء سيجري كما هو مخطّط.
لم يكن كاليب يعرف مدى قوّة تلك المانا، لكن مزاجها الناريّ كان كافيًا لتصديق الأمر.
أمسك كاليب رأسه المتألّم و تحدّث: “يمكننا تحيّة صاحب السمو الأمير فرانز رسميًّا في الحفل لاحقًا.”
“سيكون هناك عشرات الفتيات الصغيرات يحيّين سموّه آنذاك! علينا أن نترك انطباعًا قبل ذلك!”
دبّت نيريس قدمها مرّة أخرى.
وعندها، اشتعل الحطب في المدفأة بعنف.
“لا أستطيع تحمّل هذا أكثر.”
تمتم كاليب وهو ينقر بلسانه ونظر إلى ألسنة اللهب المتصاعدة. ثم أنزل يده عن جبينه وأشار نحو النار.
بينما كانت نيريس تنظر إليه بحيرة، اجتاحت الرياح الغرفة فجأة.
كانت رياحًا قارسة. اهتزّت النوافذ، وتمايلت الثريّا الكبيرة فوقهم بشكل ينذر بالخطر.
“كييياه! توقف ، توقف!”
ولم تهدأ الريح إلا عندما صرخت نيريس.
ومع تلاشي العاصفة إلى نسيم خفيف، فتحت نيريس عينيها على اتّساعهما من الصدمة. فقد انقلب فستانها، وتبعثرت خصلات شعرها بالكامل.
“كيف تجرؤ على استخدام المانا داخل المنزل؟! هل جُننت؟”
“أنتِ من استخدمها أوّلًا، يا سيدتي”
“هذا منزلي! أستطيع استخدام المانا فيه متى أشاء!”
“إذا استمررتِ في الصراخ، قد أجنّ بالفعل. لذا أرجوكِ ، كوني هادئة.”
وعند تحذير كاليب، احمرّ وجه نيريس من الغضب.
ثم وقفت فجأة وهي تلهث و صاحت: “إن أفسدتَ مهمّة المرافقة لاحقًا، سأُخبر كلّ شيء للأمير الأول!”
كان تهديدًا فارغًا، وسحبت حبل الجرس بعنف.
فُتحت أبواب الغرفة، ودخل صفٌّ من الخادمات.
“ما الذي أخّركنّ؟”
“نعتذر يا سيدتي.”
صفعة-!
صفعت نيريس إحدى الخادمات البريئات على خدّها وحدّقت فيها بغضب.
ثم التفتت بنظرها إلى كاليب. و رغم التهديد الصامت في عينيها، إلا أنّه بقي غير مبالٍ.
“شعركِ فوضويّ جدًّا، يا سيدتي.”
“ومن تعتقد أنّه السبب؟!”
“بدلًا من التنفيس عن غضبكِ في الآخرين، ربما عليكِ إصلاح شعركِ. إلّا إذا كنتِ ترغبين في التأخّر عن الحفل، طبعًا.”
“سنرى من سيضحك أخيرًا!” ، قالت وهي تطحن أسنانها وغادرت الغرفة بغضب مع خادماتها.
ومع فتح الباب ثم إغلاقه، اشتعلت المدفأة للحظة، ثم هدأت من جديد.
راقبها كاليب و هي تختفي بنظرة باردة.
“يبدو أنني اخترت الورقة الخاطئة”
ارتخى على الأريكة وتنهد.
كانت عيناه الرماديتان اللامعتان تحدّقان في المدفأة.
كلّما نظر كاليب إلى النار، كان يتذكّر شخصًا واحدًا—
فتاة كانت تفرح بشدّة لمجرّد إشعال نار المخيّم.
بريئة ومبتهجة، أخته غير الشقيقة.
كان الناس يقولون إنّ كاليب و إليزيا أقرب من الإخوة الحقيقيّين. وكانوا يثنون عليه لأنّه أخٌ مخلص لها.
و كاليب بالفعل كان يعتني بها—في ذلك الوقت.
فمن ذا الذي يقاوم فتاةً لطيفة ذات عينين مستديرتين تنظر إليه بإعجاب صافٍ؟
كانت تختبئ خلفه بخجل كلّما واجهت والدتهما.
وكان يجد ذلك لطيفًا للغاية.
لكن كلّ شيء تغيّر حين توفّي البارون أمبروز السابق وأُعلن عن وصيّته.
في ذلك اليوم، شعر كاليب بنيّة القتل تجاه أخته الصغيرة التي كانت تتبعه مثل الجرو.
نصّت الوصيّة على أن اللقب الباروني سيذهب إلى كاليب ، لكن تركة آل أمبروز بأكملها ستؤول إلى إليزيا.
فقام كاليب بقتل الكاتب الذي قرأ الوصية في الحال.
لا يجب على إليزيا أن تعرف بمحتواها أبدًا.
شعر بالفراغ. بالغضب.
كان الناس يقولون إنّه محظوظ—مجرد عامّي ورث لقبًا نبيلًا.
لكنهم لم يكونوا يعلمون شيئًا.
لقب بالاسم فقط.
و بارون، أدنى رتبة من بين المراتب النبيلة الخمس.
بارونية بلا أرض أو ثروة لم تكن كافية لطموح كاليب.
لم يكن يستطيع الاكتفاء.
لذا بدأ بالتخطيط للاستيلاء على ثروة آل أمبروز كاملة والحصول على لقب أعلى.
وكان عليه أولًا التخلّص من إليزيا.
لكنّه لم يهملها قط. كان عليه أن يبقى ضمن وصيّتها.
كان ينوي مباغتتها وجعل موتها يبدو و كأنّه انتحار.
لكن باتريشيا اقترحت طريقة مختلفة.
وبما أنّ إليزيا كانت جميلة، فيمكن تزويجها مع مهرٍ ضخم.
اقترحت باتريشيا تزويج إليزيا لماركيزٍ مسنّ في الستين من عمره. ثم التخلّص منها بعد الحصول على المهر.
لم تكن خطة سيّئة.
فحتى تمّت خطبة إليزيا للأمير الثاني، كان عرض ذلك الماركيز هو الأعلى.
لكن عندما أصبحت عروسًا ملكيّة، تغيّر كلّ شيء.
قدّمت العائلة الإمبراطوريّة مهرًا يفوق ما قدّمه أيّ ماركيز.
شعر كاليب بالفخر لأنّه لم يقتلها في وقت أبكر.
لكن كانت هناك مشكلة.
حتى المهر الملكي لم يكن كافيًا لإشباع طموحه.
أراد أن يعيش بقيّة حياته دون أن يقلق بشأن المال.
أراد لقبًا عاليًا وأن يرى الناس ينحنون له.
أراد من السلطة ما يكفي لإسكات كلّ من يهمس بأصله العامّي.
لهذا اقترب من الأمير الأول أثناء وجوده في الأكاديميّة.
ولم يستغرق الأمر طويلًا ليصبح من المقرّبين إليه.
تمامًا كما خدع إليزيا، تظاهر بولائه لكرايتون، مدّعيًا أنّه سيمنحه كلّ شيء.
ومن خلال ذلك، نال الصداقة التي أرادها.
«هيه ، كاليب. تريد سماع سر؟ أنا أريد قتل أخي»
في ذلك اليوم، عندما اعترف له كرايتون، خفق قلب كاليب بقوّة.
أن يكون لديه قاسم مشترك مع الأمير الأول العظيم.
في البداية، كان قد اقترب من كرايتون فقط من أجل اللقب.
لكن بمرور الوقت، بدأ يرى نفسه فيه.
«في الواقع، يا سموّ الأمير… لديّ سرٌّ أيضًا. أنا أتفهّمك تمامًا»
فازداد كرايتون قربًا من كاليب، وبدأ يثق بمن شاركه سرّه.
لكن صداقتهما لم تدم بعد التخرّج من الأكاديمية.
فكرايتون من سلالة ملكيّة—شبه حاكم—بينما كاليب بارون بائس يحتاج إلى شهور من التخطيط ليزور العاصمة.
لذا حين أصبحت إليزيا خطيبة الأمير الثاني، بدا الأمر كأنّه قدر.
إليزيا والأمير الثاني، ثنائيّ.
وإن تمّ التخلّص من كليهما، فسوف تتحقّق أحلام كاليب و كرايتون بضربة واحدة.
لم يستطع كاليب إخفاء حماسه وهو يكتب إلى كرايتون.
ولم ينسَ كرايتون أمره. بل كلّفه بمهمّة حاسمة.
«إن حقّقت أمنيتي، فسوف أستدعيك إلى القصر الإمبراطوري. ستكون أوثق مستشار للإمبراطور القادم»
إذا قُتلت إليزيا و أُقصي الأمير الثاني ، فلن يضطرّ كاليب للتعلّق بلقب بارونيّ تافه.
سيحصل على كلّ ما تمنّاه في حياته.
وكانت الخطوة الأولى هي نيريس.
إذا تمّ اقتران نيريس بالأمير الثاني، فستذبل إليزيا التي تتوق إلى الحبّ.
لأنّها كانت من ذلك النوع—زهرة هشّة تحتاج إلى رعاية دائمة واهتمام مستمرّ.
وحين تنكسر رابطة الروح الخاصة بالأمير الثاني، سيتجمّد قلبه.
كان من المفترض أن يكون الأمر سهلًا.
وكأنّ حاكمة الحظّ مدّت يدها نحوه.
لكن منذ الخطوة الأولى، سارت الأمور على نحوٍ خاطئ.
ظهر عنصر غير متوقّع.
«إذا حدث شيء كهذا مرّة أخرى، فقد أضطرّ لإعادة النظر في مكانتك، يا بارون»
لقد تغيّرت إليزيا.
فخلال بضعة أشهر فقط في القصر، تصرّفت وكأنّها شخص آخر تمامًا. وبدلًا من أن تنهار أمام نيريس، انقلبت الطاولة عليها.
“هذا لن ينفع.”
فرك كاليب صدغيه. وأثناء إقامته في نارو، كان يراقب إليزيا عن كثب.
وبفضل خادمة السيّدة غلينّا، كان يعرف مكان نومها وما تأكله.
لكن لم يكن هناك ما يشير في التقارير إلى أنّها تغيّرت.
“هناك أمر غير طبيعي”
أنزل كاليب يده عن رأسه.
هل تغيّرت إليزيا فعلًا؟
أم أنّها فقط مخدوعة بأجواء البلاط الملكي، منغمسة في الشعور بأنها واحدة منهم؟
الفتاة التي طالما أُهملت، وفجأة تُعامل كأميرة—من الطبيعي أن تشعر بالدوار.
وإن كان ذلك فقط، فعليه فقط أن يُعيدها إلى حجمها الحقيقي.
وإن لم يكن، فعليه أن يعيد النظر في خطّته بالكامل.
“يجب أن أتحقّق من الأمر.”
نهض كاليب بنظرة حازمة. و وقعت عيناه على ساعة الحائط الكبيرة في غرفة الاستقبال.
لحسن الحظ، لا يزال هناك وقت قبل الحفل.
استدعى خادمه وأمر بإعداد العربة.
وأثناء الانتظار، أخرج صندوقًا صغيرًا من داخل سترته.
كان بداخله القفّازان اللذان أهدته إيّاهما إليزيا.
بوجه ممتعض، ارتداهما.
لم يكن يحبّ فكرة الزيارة مجدّدًا بعد أن طُرد عمليًّا في المرّة الماضية.
لكن لم يكن لديه خيار.
إلى أن تكتمل الخطّة ، عليه أن يبقى الأخ الطيّب—
ذاك الذي تثق به إليزيا و تتّبعه.
التعليقات لهذا الفصل " 56"