وضعت إليزيا فنجان الشاي بصوت حاد، وفتحت شفتيها.
“أنتِ …”
تلاقت نظرات نيريس مع نظرات ولية العهد، وابتسمت ابتسامة نصر.
أخذت تتفقد الغرفة بنظرة مسترخية، وكأنّ المكان ملكٌ لها.
ثم التفتت نحو إليزيا بابتسامة ساحرة.
“أنا نيريس روشاناك، يا صاحبة السمو ولية العهد الثانية. لِيَدم عليكِ نور الشمس.”
قدّمت نيريس تحيّة مثالية الأدب.
أمسكت إليزيا بمسند الكرسي بينما تلقّت الانحناءة.
“كيف انتهى بكِ الأمر بمرافقة كاليب والبارون أمبروز، يا ليدي روشاناك؟”
سألت إليزيا بهدوء.
جلست نيريس بهدوء إلى جانب كاليب، تحمل تعبيرًا رصينًا. و تولّى كاليب الرد بنبرته المعتادة الهادئة، بعد أن راقب تعابير أليسيا.
“كنتُ في نارو عندما وصلت الدعوة. و قد تلقيتُ واحدة من بيت روشاناك.”
“إذًا جئتَ معها إلى كاليبس؟”
“نعم. كذلك، أرادت الليدي روشاناك أن تُقدّم تهنئتها شخصيًّا إلى سموّكِ وسموّ الأمير الثاني”
“كان بإمكانها فعل ذلك في الحفلة الراقصة.”
تحوّلت نظرات إليزيا إلى البرودة بينما ردّت.
كانت بحاجة لأن تعرف إن كان كاليب قد فعل ذلك بجهل، أم أن لديه دافعًا خفيًّا.
وإن كان هناك دافع، فلا بدّ أنه دفعٌ بنيريس نحو فرانز.
في حياتها السابقة، كان الأمير الأول هو من قدّمها إلى فرانز.
لكن هذه المرّة، كان فرانز يرفضها رفضًا قاطعًا.
من المرجّح أن الأمير الأول و عائلة كورني يحاولون يائسين استخدام نيريس كبديلة لإليزيا أمام فرانز.
‘هل استُخدِم كاليب؟ أم أنه تواطأ معهم؟’
ولا أحد من الاحتمالين يُرضيها.
كاليب كان أخاها الأكبر. و الشخص الذي تعرفه لم يكن طموحًا أو متعطشًا للسلطة.
لكن هل كان ذلك كلّ ما فيه فعلًا؟
تذكّرت تحذير فرانز عندما ناقشوا مسألة طرد كرايتون.
«لا تثقي بأحد. لا بعائلتكِ ، ولا بي حتى. ثقي بنفسكِ فقط»
عضّت إليزيا باطن خدّها بينما كانت تنظر إلى كاليب.
لم يكن بإمكانها تجاهل نصيحة فرانز.
الناس لهم وجوه كثيرة. و الثقة العمياء ضرب من الحماقة.
ألم تتعلم هذا الدرس للتو؟
كرايتون، الذي كان يبدو لطيفًا دومًا، كان من قتلها في النهاية.
ربّما كان لدى كاليب هو الآخر رغبات خفيّة.
خفضت إليزيا نظراتها، وارتسمت على وجهها ابتسامة لطيفة، تُخفي بها مشاعرها.
“تشرفتُ بلقائكِ، يا ليدي روشاناك”
“نعم، يا صاحبة السمو. الشرف لي”
ردّت نيريس بهدوء، ورفعت فنجان الشاي.
كان غرورها ظاهرًا، ما جعل إليزيا ترفع طرفي شفتيها.
“هل كان هناك سبب خاص أصررتِ لأجله على تحيتي شخصيًّا؟ لا أرى فرقًا كبيرًا بين هذه الزيارة والتحية في الحفلة.”
كانت كلماتها دافئة، لكنها مشحونة.
نظرت إليزيا إلى نيريس ببرود بينما كانت ترشف من شايها.
وضعت نيريس فنجانها ببطء، وأجابت بهدوء: “أعتذر إن كنتُ قد سبّبت لكِ الانزعاج. أنا خجولة بطبعي، كما أنني لم أتعافَ تمامًا بعد العلاج الأخير.”
“أوه، حقًّا؟ هكذا إذًا؟”
أبدت إليزيا قلقًا صادقًا.
“إن كانت صحتكِ ضعيفة إلى هذا الحد، كان الأجدر بكِ البقاء فترة أطول في نارو، فهناك الهواء أنقى. حفلة عيد ميلاد الأمير الأول تُقام كل عام، كما تعلمين.”
“آه، يا صاحبة السمو، هذا—”
“كاليب، أنا أتحدث مع السيدة الآن.”
قاطعته إليزيا بلطف.
إن كان كاليب قد رافق نيريس بدافع اللطف فحسب، فستتغاضى عن الأمر. لكن إن كان هناك تدبير خفي، فلن تتهاون.
“يا صاحبة السمو، يبدو أن الليدي روشاناك تعرف الأمير فرانز مسبقًا. لقد جاءت مبكرًا لتُقدّم تهانيها بالزفاف”
ضغطت إليزيا شفتيها معًا في خط رفيع.
للأسف ، يبدو أن كاليب قد خانها.
ما الذي يمكنها قوله الآن؟
خلا ذهنها من الأفكار.
وقد ظنّ كاليب أنّ صمتها صدمة، فضحك بمرح و قال: “هاهاها! فاجأَتكِ، أليس كذلك؟ أنا أيضًا تفاجأت. يا لها من مصادفة غريبة، أليس كذلك؟”
“…مصادفة غريبة.”
“أين سموّ الأمير فرانز؟ أرغب في تحيّته أثناء وجودي هنا.”
عندما سمعَت إليزيا نيريس تسأل بصراحة عن فرانز، انعوجت شفتيها.
“هل تطلبين مني حقًّا استدعاء الأمير الثاني الآن؟”
طردت الارتباك من رأسها، وتحدّثت بحزم.
“أنا خائبة الأمل.”
“عذرًا؟”
“حتى بين النبلاء العاديين ، الزيارة من دون موعد تُعدّ تصرّفًا وقحًا للغاية—خاصةً في اللقاء الأول. من المحبط أن تتجاهل ابنة كونت مثل هذا الأدب البسيط”
تلاشت ابتسامة نيريس مع وقع كلمات إليزيا. وظلّت إليزيا تحدّق بها بحدة.
“وحتى لو كنتِ قد التقيتِ بزوجي سابقًا، فهذا أول لقاء بيني وبينكِ. ومع ذلك تقتحمين مكاني وتسألين عنه؟ كيف عليّ أن أفهم ذلك؟”
“أنا-أنا فقط جئتُ لأُبارك لكِ زواجكِ، يا صاحبة السمو …”
“حقًّا؟”
رفعت إليزيا حاجبها لتبرير نيريس المزيّف.
“في هذه الحالة، سأقبل هديتكِ بكل سرور.”
مدّت يدها برقيّ، تتوقع هدية. وارتسم الاضطراب على وجه نيريس.
“يا صاحبة السمو، في الحقيقة …”
“نعم؟”
حدّقتها إليزيا بنظرة حادّة، وقد التوت ملامحها اشمئزازًا.
“لا تقولي إنكِ جئتِ خالية اليدين لتباركي زفافًا ملكيًّا؟ هل تدركين من تخاطبين؟”
“هـ-هذا …”
نظرت نيريس إلى كاليب برجاء.
رفعت إليزيا ذقنها و قالت: “أنا ولية العهد الثانية لإمبراطورية لوران. ومع ذلك جئتِ لتُقدّمي كلمات فقط؟ حسنًا، تمّت ملاحظة ‘نيّة’ بيت روشاناك.”
أنهت إليزيا كلامها، ونهضت واقفة.
وما إن همّت بالمغادرة حتى أسرع كاليب لإيقافها.
“ليز!”
استدارت إليزيا ببطء. نظراتها الباردة جعلت كاليب يرتجف وهو ينحني بعمق.
“ي-يا صاحبة السمو ولية العهد الثانية … أرجوكِ سامحينا من أجلي. كان خطئي. دعوتُ الليدي روشاناك معي بلا تفكير …”
“أفهم.”
ابتسمت إليزيا وكأنّ شيئًا لم يكن.
سحبت كمّها من يده بلطف وقالت بهدوء: “سأتغاضى عن الأمر هذه المرة—من أجل البارون أمبروز. لكن إن تكرّر شيء كهذا مرة أخرى، قد أخيب أملًا في البارون نفسه.”
“يا صاحبة السمو …”
شحب وجه كاليب من حدة كلماتها. ابتسمت إليزيا ابتسامة عذبة وهي تنظر إلى الاثنين المربكين.
“إذًا، أراكم في الحفلة.”
وبوداعٍ مختصر، استدارت وغادرت بخطى واثقة نحو الباب.
وما إن أُغلق الباب خلفها بوقع ثقيل، حتّى ظلّا واقفَين يتبادلان نظرات الذهول.
***
“ما الذي حدث بحق الجحيم؟! كنتُ أظنّ ولية العهد الثانية حمقاء ساذجة!”
صرخت نيريس في وجه كاليب، الذي كان لا يزال واقفًا، يضغط على جبهته بيده.
ومنذ أن طُردا فعليًّا من القصر، وهما في طريقهما إلى منزل عائلة روشاناك، ظلّ على وجهه تعبير الذهول نفسه.
تمتم كاليب بصوت خافت، وكأنه لم يعد يعرف أين هو.
“بالفعل … هناك خطب ما. أمرٌ خطير …”
“هل هذا كل ما ستقوله؟!”
داسَت نيريس الأرض من شدّة الغضب، غير قادرة على كبح سخطها.
الصراخ وإثارة الفوضى لا يليقان بابنة عائلة نبيلة مدلّلة مثلها—لكنها لم تُبالِ.
أما كاليب، فلم يتأثر بنوبة غضبها.
فبعد أن قضى الأيام الماضية في ضيافة عائلة روشاناك ، صار يعلم تمامًا أن نيريس أنانية.
لكن ما صدمه حقًّا لم يكن نيريس ، بل تصرّف إليزيا.
‘البارون أمبروز؟ هل نادتني للتو بهذا الاسم؟’
فغر كاليب فمه قليلًا، غير مصدّق لما رآه.
لم تكن إليزيا تُنادِيه هكذا أبدًا.
فقط في حضور باتريشيا كانت تتعمّد استخدام اللقب—أما في سائر الأوقات، فكانت تناديه “كاليب” دائمًا وتعامله بمودة.
فما الذي تغيّر؟
حتى عندما وصل إلى القصر للمرّة الأولى وحيّاها، نادته “كاليب”. وقد أهدته قفّازات لتكسب وده.
حتى تلك اللحظة، كانت الأخت الصغيرة الحنونة التي يعرفها.
حتى ظهرت نيريس.
“بسببها، لم نلتقِ بالأمير الثاني حتى، وطُردنا! وماذا الآن؟”
“اهدئي ، يا ليدي”
ضغط كاليب على صدغَيه محاولًا تهدئة نيريس.
عادةً، كان سينهرها بكلمة واحدة فقط. لكن الآن ليس الوقت المناسب لذلك.
ولشديد أسفه.
‘لو كانت ليز، لصمتت من مجرّد كلمة واحدة أقولها …’
رمق كاليب نيريس بنظرات مشتعلة.
التعليقات لهذا الفصل " 55"