“يا صاحب السمو ، الأمير الثاني”
اقترب رجلٌ مقنّع من فرانز. كان هو القاتل الذي طعن إليزيا.
ابتلع فرانز ريقه بشدّة، وشدّ ذراعيه حول إليزيا أكثر.
إن كان القاتل سيوجّه ضربته التالية إليه، فسيتقبّل ذلك.
لم يكن إلى جانبها في حياتها—لذا، على الأقل، أراد أن يموت معها.
لكن القاتل لم يهاجم فرانز. بل اقترب منه وهمس في أذنه برسالة غير متوقّعة.
“الأمير كرايتون أمرك بمغادرة القصر. خذ جثمان زوجتك و ارحل. إن لم تذهب الآن، فلن تتمكّن من أخذ جسدها سليمًا”
عضّ فرانز شفته عند سماعه تلك الكلمات.
اشتعلت النيران في عينيه، وارتجف جسده غضبًا.
وفاضت المانا داخله في موجاتٍ هادرة.
“كرايتون…!”
صرخ فرانز وكأنّ كرايتون واقفٌ أمامه مباشرة.
لم يُدبّر كلّ تلك المسرحية فقط ليخسر إليزيا بهذا الشكل السخيف.
لم يُحضرها إلى القصر ليستخدمها كأداةٍ للتهديد.
لم يتزوّجها ليراها تموت بهذه الطريقة.
رفع فرانز رأسه بعنف.
قد تكون إليزيا بالنسبة إلى كرايتون مجرّد بيدق. لكنّها كانت حبّ حياته بالنسبة إلى فرانز.
ولهذا، سيحرص على قتل كرايتون. لكنّ عليه أولًا التعامل مع أمرٍ آخر.
القاتل الذي طعن إليزيا.
حدّق فرانز في الرجل المقنّع. وتأجّجت المانا من حوله. فتجمّد القاتل في مكانه، عاجزًا عن الحركة.
“أغغ!”
“سأجعلك تشعر بتجمّد جسدك من الداخل—حتى عظامك. سيتجمّد دمك، ويتوقّف قلبك …”
انعوجت شفتا فرانز و هو يتمتم لعناته.
“…فرانز…”
ناداه صوتٌ خافت.
استدار فرانز بسرعة نحو إليزيا، تاركًا القاتل محاصرًا داخل المانا.
التقت أعينهما.
إليزيا، الملطّخة بالدماء، رفعت يدًا مرتجفة ولمست خدّه بلطف. كانت هذه المرّة الأولى التي تبادر فيها بلمسه.
ارتجف فرانز. و خفق قلبه بجنون.
توسّل إليها بيأس:
“لا تموتي، ليز. أرجوكِ، اصمدي قليلًا فقط …”
كانت توسّلاتٍ يائسة.
لم يتبقّ لها الكثير من الوقت. لكنّ فرانز لم يستطع إلّا التمسّك بذلك الأمل الضئيل.
المعجزات موجودة في هذا العالم.
و إليزيا نفسها كانت معجزة بالنسبة إلى فرانز—فربما، فقط ربما، تحدث معجزة لها أيضًا.
حتى وإن كانت احتمالاتها ضئيلة.
“فرانـ …ز”
اتّسعت عينا فرانز عند سماع صوته.
اجتاحه مزيجٌ من حزنٍ عارم وسعادةٍ جارفة.
كانت هذه أول مرة تنطق فيها باسمه.
وكان لا بدّ أن تكون في مثل هذا الوقت.
اغرورقت عيناه بالدموع. و من خلال رؤيته المشوّشة ، أهدته إليزيا ابتسامة باهتة.
تشوّه وجه فرانز من شدّة الألم. أراد أن يبتسم لها—لكنه لم يستطع.
“ليز.”
اختنق صوته في حلقه.
كان اسمًا أراد أن يناديها به عددًا لا يُحصى من المرّات.
لكنّه كان يكبح نفسه دائمًا—خوفًا من أن يُفضح حبّه ، خوفًا من أن يُفصح عن عمق مشاعره.
“لا داعي … لتتظاهر بالابتسام”
قال ذلك بصوتٍ مرتجف. و لعلّها فهمت—فانطبقت شفتاها بصمت.
نظر إليها ، يتخبّط في مشاعره.
في كلّ مرةٍ تسلّل فيها إلى فيلّتها تحت ضوء القمر، كان يرغب في رؤية ابتسامتها.
لم يكن يريد فقط وجهها الهادئ وهي نائمة—بل شفتيها الرقيقتين المرسومتين في قوسٍ ناعم.
رؤية تلك الابتسامة كانت تُشعره وكأنّه يملك العالم بأسره.
لكن الآن، لم تعد تلك الابتسامة سوى مصدر يأسٍ له.
“سوف … أستدعي طبيبًا. فقط، تمسّكي قليلًا بعد …”
لم يتمكّن فرانز من إكمال كلامه.
لقد اخترق السيف قلب إليزيا.
وكان الدم المتدفّق من صدرها يُشكّل بركة سوداء أسفلها.
كان واضحًا لأيّ شخص—حياتها في طريقها للانتهاء.
ولا طبيب قادر على إنقاذها الآن.
“سأكون بخير …”
لكن فرانز أنكر الواقع. خفَض رأسه و احتضنها بقوّة.
كان خائفًا أن تنهار بين ذراعيه.
خائفًا من أن تتلاشى كالدخان.
لكنه لم يُرد أن يخسرها.
لم يُرد أن ينتهي كلّ شيء هكذا.
إن كان لا بدّ من خسارتها، فعلى الأقلّ، أراد أن تُدرك مشاعره الحقيقيّة.
لم يُرد لها أن ترحل عن هذا العالم دون أن تعلم بحبّه.
“ليز ، أنا … أنا …”
“هاه…”
قطعت أنفاسها الهزيلة اعترافه.
أغلق فرانز فمه و نظر إليها.
كان وجهها الجميل مشوّهًا من الألم—ألمٌ لم يره في حياتها من قبل.
ومزّق هذا المشهد قلبه.
عضّ شفته. و أرهف سمعه لكلّ شيء تبقّى لها في هذا العالم—حتى أنفاسها المتقطّعة.
تحرّكت شفتا إليزيا الجافتان.
“ستكون … بائسًا. تمامًا كما كنتُ و أنا أحبّك.”
أومأ فرانز برأسه. لقد كان مستعدًا للبؤس.
لقد بدأ بالفعل بالسقوط في الظلام.
“أنا أحبّك.”
في تلك اللحظة—حين دوّى اعترافها الأخير في الهواء، وحين أضاءت المانا فجأة الغرفة كأنّها ضوء النهار—
أدرك فرانز أنّ المكان الذي عاش فيه طوال هذا الوقت لم يكن الجحيم.
بل هذا هو الجحيم.
جحيمٌ بلا إليزيا.
حدّق فرانز بجسدها الخالي من الحياة بعدم تصديق.
“ليز؟”
لم يحظَ بفرصةٍ ليُخبرها أنّه يحبّها.
ولم تسمح له حتى بذلك.
تلك كانت أقسى عقوبةٍ تركتها له.
“هذا … لا يمكن أن يكون حقيقيًا …”
تشوّشت رؤيته. واحترقت عيناه. وانعوج وجه فرانز بالألم.
شدّ جثمان ليز إلى صدره، وبكى.
“لا… لا، ليز …”
“يا صاحب السمو.”
ناداه صوتٌ هادئ من خلف بكائه.
فتح فرانز عينيه المغلقتين بقوّة.
وما إن فعل، حتى امتلأت الغرفة بضوءٍ ذهبي.
وفي اللحظة نفسها، اجتاحت موجةٌ من البرد العنيف المكان.
“آغ …!”
لم يملك القاتل حتى الوقت ليصرخ—تجمّد تمامًا في لحظة.
لم يمنحه فرانز حتى رفاهيّة التلوي من الألم.
تلك كانت ستكون نعمةً—لرجلٍ قتل إليزيا.
ظلّ فرانز يحتضنها طويلًا، دون حركة.
كلّ تركيزه كان عليها.
حتى مع تكوّن طبقة من الجليد على جسدها، وحتى عندما تجمّدت خصلات شعرها الأحمر الناعم، لم يتحرّك قيد أنملة.
كانت غرفة الأمير الثاني تتحوّل إلى شتاءٍ قارس.
“ماذا تفعل؟”
اهتزّت النوافذ من عاصفة الثلج التي تعصف بالخارج.
و اندفع أحد الأبواب الجانبيّة—دخل كرايتون.
كان مختبئًا في مكانٍ قريب، ينتظر ليرى إن أتمّ القاتل مهمّته.
لكنّ ذلك لم يعد مهمًّا بالنسبة إلى فرانز. لم يلتفت إليه حتى.
تلفّت كرايتون حول الغرفة المغطّاة بالجليد ، مصدومًا بوضوح.
“تفقد السيطرة على مانا بسبب امرأة ميّتة؟ أنت غير مؤهّل لتكون إمبراطورًا أبدًا—”
قبل أن يُكمل، اخترق ضوءٌ حادّ قلبه—سهمٌ ذهبي من المانا.
“آغ!”
سقط كرايتون على الفور، وفغر فمه.
لم تخرج من فمه، الذي لطالما أهان فرانز واحتقر إليزيا ، سوى أصوات الاختناق.
“أ-أنت…”
“متّ.”
تجاوب سهم المانا الذي اخترق قلب كرايتون مع أمر فرانز.
اشتدّ الضوء—وأطلق كرايتون صرخةً مرعبة.
صرخة الوحش المحتضر.
لكنّ وجه فرانز بقي هادئًا، كأنّه لم يسمع شيئًا. أغلق عينيه و انتظر حتى تتوقّف الصرخة.
وحين توقّفت، فتح عينيه ببطء وابتسم بخفوت.
كانت ابتسامة رجلٍ مستعدٍّ لمغادرة هذا العالم.
“كان يجب أن أفعل هذا منذ البداية.”
امتلأت عيناه بالدموع وهو ينظر إلى وجه إليزيا الشاحب.
محاطًا بثلاثة جثث، أطلق فرانز ضحكةً جوفاء.
“لو كانت لي فرصةٌ للتكفير … لجعلتكِ سعيدة.”
ثمّ بدأ ضوءٌ مشرق يتوهّج من صدر فرانز. واشتدّ الضوء، وشحب وجهه حتى أصبح كالشبح.
وانزلقت دمعةٌ صافية على خدّه.
“لكنّني لن أطمع أكثر.”
بدأ بجمع كلّ مانا جسده، مُقدّمًا قلبه نفسه كقربان.
المانا التي تلتهم قلب سيّدها تتحدّى قوانين الطبيعة—وتصنع المعجزات.
لكن لم يسبق لأحدٍ أن نفّذها فعلًا.
لأنّها تتطلّب حياة الإنسان.
وحتى مع ذلك، فإنّ فرص النجاح ضئيلة جدًّا.
لم تُذكر الطقوس إلا في النصوص القديمة—ولم تُروَ أبدًا قصصٌ عن أحدٍ نجا منها.
ولا أحد يعلم ما الآثار الجانبيّة التي قد تترتّب عليها.
المخاطرة بالحياة لأجل تعويذة بعواقب مجهولة—جنونٌ محض.
لكن بالنسبة إلى فرانز، إن كان ذلك سيعيد الزمن لإليزيا، فلا شيء آخر يهمّ.
هذا كان تكفيره.
تكفيرٌ يائس و بائس.
“أنا آسف، ليز.”
سقطت دموع فرانز على خدّ إليزيا.
و مع تقديم توبته إلى هذا العالم ، بدأ الضوء المتوهّج الذي ملأ الغرفة ينتشر عبر القصر الإمبراطوريّ بأكمله.
التعليقات لهذا الفصل " 52"