في اللحظة التي رأى فيها إليزيا، أدرك فرانز كم كان أحمقًا.
المرأة التي وصلت في عربة ذهبية فاخرة، كانت هي نفسها التي رآها في المكتبة.
هي، إليزيا، كانت أجمل بكثير مما كان يتذكر.
في اللحظة التي لمح فيها تعبيرها الخجول، بدأ قلب فرانز يخفق بجنون.
أراد أن يركض إليها ويمسك يدها. أراد أن يخبرها أنه كان يبحث عنها، وأنه اشتاق إليها.
لكنه اضطر لأن يُدير وجهه.
فقد التقطت عيناه نظرة كرايتون الحادة، والذي جاء ليرى عروس الأمير الثاني القادمة.
وفي اللحظة التي رآه فيها، تجمّد الدم في عروق فرانز.
لقد كانت كارثة.
عضّ فرانز شفته بشدة.
في يأسه للعثور على المرأة التي ستكون شريكته المرتبطة بالروح، لم يُفكّر في العواقب.
ما كان يجب أن يبحث عنها.
فمكانة فرانز في العائلة الإمبراطورية غير مستقرة.
وبمعنى أدق، لم يكن من الغريب أن يُقتل في أي وقت.
وقد ازدادت طموحات كرايتون في انتزاع منصب ولي العهد بعد زواجه.
بل إنه حاول صراحةً تسميم فرانز للتخلّص منه.
وفي مثل هذا الوضع، إن اكتشف أحد أن فرانز يُحب إليزيا —
إن عرف كرايتون أنها نقطة ضعفه الأكبر—
فسيكون أول من يحاول قتلها.
يجب ألّا يحدث هذا أبدًا.
لم يكن بوسعه أن يسمح لإليزيا بأن تصبح هدفًا لكرايتون.
عليه أن يحميها.
وقد ملأ هذا التفكير عقل فرانز بالكامل.
“أحيّي سموّ الأمير الثاني. أنا إليزيا أمبروز. فلتكن مجد الشمس معك …”
“اصطحبوا الآنسة أمبروز إلى القصر الثانوي.”
أصدر فرانز الأمر ببرود، وتجنّبها كما لو أنه يفرّ منها.
واحترق قلبه عندما رأى نظرة الحيرة في وجه إليزيا. لكن هذا كان السبيل الوحيد.
فمقارنةً بكرايتون، الذي يحظى بداعمين أقوياء، يفتقر فرانز إلى أي سند سياسي.
لذا، فإن أفضل طريقة هي أن يبقي المسافة.
ولأول مرة، أدرك فرانز أن انعدام طموحه قد أصبح سُمًّا.
لو أنه فقط أراد المزيد، لو أنه بنى لنفسه نفوذًا سياسيًّا—
لكان قد وجد طريقة أخرى، بدلًا من دفع إليزيا بعيدًا.
لكن فات الأوان.
فأساس كرايتون قد ترسّخ بالفعل. وليس لدى فرانز ما يكفي من القوة لمواجهته.
والأمر الوحيد المُطمئن هو أن كرايتون بدا غير مهتم بإليزيا.
فما إن أدار فرانز وجهه، حتى تلاشت الاهتمامات من عيني كرايتون.
وعندما قال فرانز إنه سيرسل إليزيا إلى القصر الثانوي، علّق كرايتون بسخرية على قسوته.
وقد بدا نادمًا حقًا.
كأنه أُصيب بخيبة أمل لعدم العثور على نقطة ضعف فرانز مرة أخرى.
وقد تأكّد فرانز في تلك اللحظة.
لحماية إليزيا، عليه ألّا يسمح لها بالبقاء في مرمى بصر كرايتون.
ولأجل ذلك، عليه أن يعاملها ببرود.
يستطيع فعل ذلك. فقد اعتاد إخفاء مشاعره منذ وفاة والدته.
وكان واثقًا من نفسه.
لكن عندما صعدت إليزيا إلى منصة الزفاف، لم يستطع كبح مشاعره.
فقد كانت ترتدي فستانًا أُعدّ خصيصًا لها، تتقدّم نحوه—وكانت فاتنة.
لم يكن أحد يعلم، لكن فستان الزفاف كان مشبعًا بهوس فرانز.
لقد أمر بأن يكون ذو ياقة عالية وأكمام طويلة، حتى لا يرى أحد منها شيئًا.
ووضِعت عليها طبقات من الحجاب حتى لا يستطيع كرايتون رؤيتها حتى من بعيد.
إلى الحدّ الذي يصعب فيه تمييز من تكون العروس أصلًا.
لكن، رغم أنها كانت مُحاطة بهذا الشكل، إلا أن رؤية فرانز لها جعلت قلبه ينبض بجنون.
كم أنت مثير للشفقة.
وبّخ فرانز نفسه. فما هذا سوى البداية، وهو بالفعل خائف من أن يُفسد الأمر.
لم يكن يدرك من قبل كم هو جبان.
كل شيء يُقلقه.
هل رأى كرايتون ارتعاش عينيه عندما دخلت إليزيا الكاتدرائية؟
هل سينهار تحت وطأة ابتسامتها؟
لم يكن إرسالها إلى القصر الثانوي كافيًا.
كان عليه أن يدفعها بعيدًا بصورة أقسى.
كان بحاجة لأن تنتشر الشائعات—بأن الأمير الثاني لا يُحب عروسه.
فجعل ذلك يحدث.
أمر بهدم النافورة التي أحبّتها، وتحدّث إليها بقسوة، وعاملها ببرود أمام أكبر عدد ممكن من الناس.
ومع كل فعل قاسٍ، كانت لمعة عيني إليزيا تخبو.
ومع كل نظرة إلى نورها الذي يذبل، كان قلب فرانز يتحطّم.
كان يُمسك صدره من الألم مرات لا تُحصى في اليوم الواحد.
‘هذا ليس صحيحًا.’
‘لا يجب أن أفعل هذا.’
‘كلا—هذه هي الطريقة الوحيدة.’
لم يكن هناك خيار. إن أراد أن يُبعد السمّ عن مائدتها، وأن يحميها من “حادث” غامض، فهذه كانت أفضل وسيلة.
فبالنسبة لأمير ثانٍ بلا قوة، كانت هذه الطريقة المؤلمة والجبانة هي كل ما لديه لحماية المرأة التي يُحبها.
لكن هذا لم يكن العذاب الوحيد الذي واجهه فرانز.
منذ أن التقى بإليزيا، استيقظت بداخله رغبة لم يكن يعرفها.
ليته لم يعرف.
لكن، بعد أن تذوّق عطرها الحلو، والمتعة العنيفة التي جلبتها له، تحوّلت لياليه إلى جحيمٍ حيّ.
كل ليلة، كان يُجبر نفسه على كبح رغباته، مُستحضرًا عبيرها.
خصوصًا في الليالي التي يُحيّدان فيها المانا معًا—كانت رغبته تشتدّ أكثر.
نظراتها الحانية، ولمسات يدها الناعمة، والعطر الذي ظلّ عالقًا على عنقها—
كلّ تفصيلة منها كانت حيّة في ذاكرته، تدفعه إلى الجنون.
كالمجنون، كان فرانز يُعيد ويُكرّر كل لحظة قضاها معها.
لكن للرغبة حدّ، لا يمكن كبحها إلى الأبد.
لذا، حصل فرانز على الحجاب الذي ارتدته إليزيا يوم زفافهما.
وفي كل ليلة، كان يدفن وجهه فيه، المشبع بعطرها، ويحاول تهدئة نفسه.
كان يعيش على حافّة الجنون، يصبّ شوقه القاتم داخل القماش.
يُقبّله بجنون، يلمسه بكفّيه المتّقدتين، ويُهمس له بكلمات حب لا تُعدّ.
يُفرغ حبًّا عبثيًّا، لن يصلها يومًا.
وكان يعلم كم هو دنيء ومخزٍ—لكنه لم يكن يستطيع التوقّف.
“سموّ الأمير؟”
ذات ليلة، دخلت إليزيا غرفته.
وفي اللحظة التي رآها مضاءة بضوء القمر، هوى قلب فرانز إلى القاع.
ارتبك من أن تلاحظ الحجاب—أو ترى حالته الفوضوية—فصرخ عليها: “اخرجي!”
“سموّ الأمير، أنا… أنا فقط أردتُ رؤيتك للحظة واحدة…”
وامتلأت عيناها الزمرديتان بالدموع وهي ترتجف.
وانعقد حلق فرانز مجددًا، فصرخ: “قلت لكِ اخرجي!”
“أنا… فقط أردتُ أن أراك للحظة واحدة…”
كان جسدها الرقيق المرتعش يبدو وكأنه على وشك الانهيار.
وكانت أطراف فرانز ترتجف.
أراد أن يُعانقها. أن يُهدّئها.
أن يُلقي بهذا الحجاب اللعين جانبًا ويهمس لها بحبّه الحقيقي.
أن يخبرها أنه، وبصدق، يُحبها.
“إلي—…”
“ا-السيدة غلينا قالت إنها تتشارك الغرفة مع الأمير كرايتون…”
لكن، فجأة—
“…ماذا؟”
وقبل أن يكتمل اعترافه، قاطعته.
“أ-أنا زوجة سموّ الأمير. وقيل لي إن الأميرة لا تحتاج إذنًا لدخول غرفة زوجها. حتى أمي قالت … أن هذا غريب. أرجوك … لا تدفعني بعيدًا.”
وساد الصمت بعد عذر إليزيا الباكي.
“أنا الوحيدة … الوحيدة التي تعيش وحدها في القصر الثانوي …”
“هل أخبرتِ الأميرة عني؟ هل تحدّثتِ عني إلى كرايتون؟”
سألها فرانز و هو مرتبك.
“هل لهذا السبب جئتِ إلى هنا؟”
“أرجوك، لا تغضب. أنا آسفة …”
“هل جئتِ بسبب ما قاله كرايتون؟”
ارتعش صوته. فقد اجتاحه شعور بالمهانة—وكأنها استغلّته.
لكن ما غلب كل شيء كان: الخوف.
لقد فعل المستحيل لإبعاد إليزيا عن كرايتون وغلينا.
لكن في الفراغ الذي تركه، لجأت إليهما.
جعلته هذه الفكرة يرتعش.
مستحيل.
قبض فرانز يده بقوة.
لن يسمح لها أبدًا أن تعتمد على كرايتون أو غلينا مجددًا.
عليها أن تندم على مجرد طلب نصيحتهما.
وكان هذا السبيل الوحيد لحماية هذه المرأة النقية.
عليه أن يكون قاسيًا.
عليه أن يجعل من هذه الليلة ذكرى مؤلمة، كي لا تفكّر أبدًا في اللجوء إلى بيت الأمير الأول مجددًا.
رفع فرانز قبضته. وأغمض عينيه بقوة، ثم صفعها على خدّها.
وأجبر نفسه على إخراج صوت بارد ومُتحجّر: “إليزيا —أأنتِ تحاولين السخرية مني؟ لولا رابط الأرواح بيننا، لكنت قد جرّدتكِ من لقبكِ منذ زمن!”
وامتلأت عينا إليزيا بالرعب. وانهمرت الدموع من تلك العينين البريئتين الجميلتين.
وتشنّج فكّ فرانز من المشهد المُفجع.
أراد أن يركع ويعتذر، أن يتوسّلها لتصفعه.
لكنه لم يستطع الانهيار الآن.
لم يكن بوسعه أن يجعل كل جهوده تذهب سُدى.
فأمطرها فرانز بالإهانات القاسية، وبصوت عالٍ يكفي ليسمعه كل الخدم.
“أرجوك… أنا آسفة… أنا آسفة جدًّا، سموّ الأمير…”
وسقطت على الأرض باكية، قبل أن تهرب وهي تجهش بالبكاء.
وقد طردها فرانز بقلب ممزّق أشلاء.
كانت ليلة عذاب ، لن ينساها ما دام حيًّا.
التعليقات لهذا الفصل " 50"