5
الفصل 005
“هل كان طلبي صعبًا عليكِ، آنستي أليزيا؟”
جاءها صوت فرانز بنبرة رخيمة.
رمشت أليزيا ببطء عند سماع اسمها، وقد كانت غارقة في شرود.
‘ما الذي يفعله؟ ما الذي يجري……؟’
قطّبت جبينها ونظرت إليه، ومع امتداد الصمت بينهما، تلاشى الابتسام عن شفتيه، وغشّت القلق عينيه العسليتين الذهبيتين.
“هل كان ما طلبته مبالغًا فيه؟”
“……أنا آسفة.”
أجابت أليزيا بجمود. لم تستطع تقبّل لطفه بوجهه الظاهر.
فالوجه الحقيقي لهذا الرجل، الذي احتقرها وأهانها ذات يوم، كان محفورًا بوضوح في ذاكرتها.
‘زوجان طبيعيان؟ هذا محض هراء. فرانز الماضي كان سيسخر من فكرة كهذه.’
لم يكن يرغب حتى في التحدث إليها، فضلًا عن أن يشاركها ما يُشبه الزواج.
في كل مرة كانت تستعد فيها لتحييد طاقته السحرية، كانت أليزيا تتهيأ مسبقًا. تغتسل، وتتأنق، وتتشبّث بأمل.
أما هو، فكان يظهر مباشرةً من ساحة التدريب، مبللًا بالعرق، عابس الوجه كطفل أُجبر على زيارة الطبيب. يمسك بمعصمها بيدين باردتين، يتحمّل تهدئة المانا، ثم يتركها كمن مسّ جمرة.
ولا تزال تلك الذكرى حاضرة بقوة.
لقد رأت ظهره أكثر مما رأت وجهه طوال فترة زواجهما.
حتى حين كان يبتسم للآخرين، كان وجهه يتجمّد ما إن تلتقي عيناهما، ثم يغادر الغرفة بعدها فورًا.
والآن، هذا الرجل نفسه يرغب بأن يُصبحا زوجين طبيعيين؟ بدا الأمر كنوع من السخرية.
“أظن أن للعائلة الإمبراطورية بروتوكولات خاصة بها. قد لا أكون متعلّمة جيدًا، لكنني أعتزم خدمة سموك كما ينبغي.”
قالت أليزيا بنبرة رسمية، عائدة إلى أسلوبها القديم.
واصلت العربة سيرها وسط صمت ثقيل، ولم يكن يُسمع سوى نداءات السائق واحتكاك العجلات بالحصى.
“أعتذر، سمو الأمير.”
أضافت دون أن تُضمر صدقًا في اعتذارها.
تأمّلها فرانز بصمت، ثم هز رأسه.
“لا داعي للاعتذار. أنا من قدم طلبًا أنانيًا.”
وبذلك انتهى الحديث بينهما.
* * *
عندما توقفت العربة وفتح الباب، رمشت أليزيا في حيرة.
لم يكونوا عند الجناح الجانبي.
“هذا قصر الأمير الثاني. ستُقيمين هنا، قبل الزفاف وبعده.”
أوضح فرانز.
بدت أليزيا مصدومة.
‘ما الذي يقوله؟ لا، الأهم من ذلك، لماذا؟’
قصر الأمير الثاني كان منطقة محظورة، لا يُسمح بدخوله إلا بإذن من فرانز. وحتى بصفتها زوجته، كانت تقيم في الجناح الجانبي.
حدّقت بالقبة الرمادية، والأعمدة التي تُشبه ممرات المعابد، والحديقة الشاسعة الممتدة خلفها.
‘النافورة…….’
لم تلحظ حتى يد فرانز الممدودة نحوها. كانت عيناها معلقتين على النافورة المتلألئة، تتراقص فيها أشعة الضوء.
‘كنتُ أظن أنني تخلّيتُ عن الماضي.’
كانت تبدو بخير، هادئة في مواجهة فرانز، غير متأثرة بفكرة العودة إلى القصر والزواج منه.
لكن منظر تلك النافورة، المشابهة تمامًا لما كانت عليه سابقًا، حرّك شيئًا دفينًا في داخلها.
في حياتها السابقة، كان فرانز قد هدم النافورة بعد أن لاحظ نظراتها المتكررة نحوها، فور انتهاء مأدبة الزفاف.
كأن نظراتها نفسها كانت تثير اشمئزازه.
لقد بكت وحيدة في غرفة الزفاف تلك الليلة.
وفي وقت لاحق من المساء، زارها فرانز، لا ليواسيها، بل ليُكمل واجب الزواج بصمت وبرود.
ثم غادر قبل بزوغ الفجر.
ومن هناك بدأت الشائعة. الأمير الثاني يكره زوجته.
ومن لم يصدق الشائعة، أشار إلى النافورة المهدومة كدليل.
أما الآن، فها هي النافورة لا تزال قائمة. لم يهدمها فرانز، حتى هذه اللحظة.
وبينما كانت تحدق في تماثيل الملائكة الصغيرة، غامت عيناها بالدموع.
“يبدو أنكِ تحبين النافورة.”
علّق فرانز.
فزعت أليزيا وأشاحت بنظرها سريعًا.
“لا.”
قالت.
‘لا تبكي، ريزا. إن بكيتِ، سيعود الماضي كما كان.’
“كان الضوء قويًا فحسب.”
تظاهرت بثبات صوتها، وأمسكت بيده الممدودة. كان جسده أكثر برودة من قبل.
لا بد أن الأمر شاق عليه. ومع ذلك، حافظ فرانز على هدوئه، كما لو كان كبح المانا جزءًا من حياته اليومية.
* * *
“فرانز! أين كنتَ؟ بحثتُ عنك في كل مكان!”
تجمدت أليزيا في مكانها عندما دوّى صوت مألوف في الأرجاء. خُطى واثقة وسريعة كانت تقترب.
“إن ناداك أخوك الأكبر، فعليك أن تُجيب. ما زلت دائمًا باردًا كما أنتَ.”
الرجل الذي أمسك بكتف فرانز وأجبره على الاستدارة لم يكن سوى الأمير الأول، كرايتون.
تراجعت أليزيا خطوة إلى الوراء بشكلٍ غريزي.
تقطّب جبين كرايتون حين لمحها.
“ومن هذه؟”
لم يُجب فرانز، واكتفى بإزاحة يد كرايتون عن كتفه.
لكن كرايتون لم يُبالِ، بل أصرّ.
“سألتك من تكون.”
انحنت أليزيا بأدب.
“تحية طيبة، سمو الأمير الأول. ليحلّ مجد الشمس عليك. أنا أليزيا أمبروز.”
“أمبروز؟ آه، أأنتِ أخت كاليب أمبروز؟”
صُدمت بالسؤال، ورفعت رأسها تحدّق فيه بدهشة.
“أتعرِف أخي، سموك؟”
“لقد درسنا سويًا في الأكاديمية. سعيد بلقائكِ، الآنسة أليزيا. أو لعلّ من الأدق أن أقول. أختي بالمصاهرة؟”
ابتسم كرايتون بحرارة.
كرايتون يوستاس، ابن الشمس الأول، منافس قوي على العرش، ورجل جمع بين النفوذ والشعبية.
اشتهر بجاذبيته وحُسن قيادته، وقد شغل منصب رئيس الطلبة في كل مؤسسة مرّ بها.
وكان قصره يعجّ دائمًا بالضيوف. ما من نبيل في الإمبراطورية إلا ويعرفه.
أما زوجته، الأميرة غلينا، فهي ابنة دوق كورنيل، أقوى عائلة نبيلة في الإمبراطورية.
‘بالمقارنة مع غلينا الأنيقة، لا بد أنني بدوتُ ريفية.’
فكّرت أليزيا بمرارة.
‘وربما لهذا كان فرانز دائم الخيبة بي. وربما لهذا أحبّ نايريس روشاناك في حفل عيد ميلاد كرايتون.’
لم تكن أليزيا تُضمر كرهًا لـ كرايتون، لكن حفله كان المسرح الذي التقى فيه فرانز بتلك المرأة التي أصبحت لاحقًا عشيقته.
‘لو لم يلتقِ فرانز بـ نايريس، ربما لما حاول قتلي…….’
ربما كانت ستعيش كروح باهتة، غير مرئية ولا ذات شأن.
‘لكنني حينها لم أكن لأعود. فربما ما حدث……كان الأفضل.’
كتمت أليزيا ابتسامة مرة، ثم قالت.
“أرجو أن تعاملني براحة، سمو الأمير.”
“كما تشائين. سمعتُ أن زفافكما سيكون الشهر القادم. مُباركٌ انضمامكِ إلى العائلة الإمبراطورية. آه، و…….”
رمق كرايتون فرانز بنظرة جانبية، ثم انحنى قليلًا نحو أليزيا.
تقدّم فرانز على الفور ووقف حائلًا بينهما.
“ما الذي تنوي فعله؟”
“لا شيء يثير القلق. أردتُ فقط أن أحذّرها من طباعك السيئة.”
ابتسم كرايتون بخفة، وأمال رأسه قليلًا.
“كما ترين، الحياة مع هذا الفتى لن تكون سهلة. لا تترددي بزيارة قصر الأمير الأول إن احتجتِ لمن يصغي. سأكون سعيدًا بالاستماع.”
“أشكرك.”
قالت أليزيا.
“لن تفعل.”
قاطعها فرانز بحدة.
ارتعشت أليزيا من نبرته الباردة.
كان يرمق كرايتون كأنما هو خصم لدود.
“سنرى.”
قال كرايتون مبتسمًا، غير متأثر.
لقد اعتاد على هذه المعاملة.
أما أليزيا، فقد باغتها هذا العداء.
‘هل حدث بينهما شيء أجهله؟’
لم يكونا مقربين في حياتها السابقة، إذ كانا منافسين على العرش. لكن لم تكن العلاقة بهذا الجمود.
كان فرانز يحترم كرايتون، وكرايتون هو من عرّفه على نايريس.
فما الذي تغيّر؟
‘أنا لم أفعل شيئًا بعد. المستقبل ينبغي ألا يتغير…….’
رمقت فرانز بنظرة حائرة.
وفي النهاية، كسر كرايتون الصمت الثقيل.
“لا يزال عنيدًا كما عهدته. آسف لأنكِ اضطررتِ لرؤية هذا. سأغادر قبل أن تزداد الأجواء حرجًا.”
لوّح بيده بإيماءة مبالغ فيها، وسار مبتعدًا، كأن قسوة فرانز لم تمسّه.
“أمّا والدتنا، فهي تبحث عنك.”
أضاف.
“تتساءل عن سبب خرقك للبروتوكول. أعطيتها تفسيرًا مبهمًا….…”
تحوّلت نظراته إلى أليزيا.
فهمت على الفور.
لم يكن من اللائق أن يُقلّ الأمير عروسه بنفسه، ولا أن يُسكِنها في القصر الملكي قبل الزواج.
ومع مرض الإمبراطور، فلا شك أن الإمبراطورة قد استدعت فرانز لتوبّخه.
“على أي حال، أنا واثق أنك ستتدبّر الأمر.”
ولم يعلّق فرانز، فتابع كرايتون طريقه.
“أراكما لاحقًا. مُباركٌ مجددًا.”
واختفى بخطى واثقة.
تابعته أليزيا بنظرها، وما لبثت أن انتفضت على صوت أنفاس متقطّعة إلى جانبها.
“آه…….”
ترنّح فرانز، قابضًا على صدره بألم.
يُتبع….
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 منتدى المانهوا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 منتدى الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 5"