“هل كان طلبي صعبًا عليكِ ، يا ليدي إليزيا؟” ، وصلها صوت فرانز بلُطف.
كانت إليزيا جالسة في شرود ، و لمّا سمعت اسمها رمشت ببطء.
‘ما الذي يفعله؟ ما الذي يحدث …؟’
قطّبت حاجبيها و نظرت إلى فرانز.
و مع امتداد الصمت ، بدأت الابتسامة تتلاشى من شفتيه.
انعكست في عينيه الذهبيّتين لمحة من القلق.
“هل بالغتُ في الطلب؟”
“…أنا آسفة”
أجابت إليزيا بجمود. لم تستطع تقبّل لُطفه كما هو.
فطبيعته الحقيقيّة-ذلك الرجل الذي سخر منها وأهانها-لا تزال محفورة في ذاكرتها.
زوجان طبيعيّان؟
هذا أمرٌ سخيف.
فرانز في الماضي كان سيسخر من مجرّد فكرة كهذه.
لم يكن يريد حتى التحدّث معها، ناهيك عن مشاركتها شيئًا يشبه الزواج.
في كلّ مرة كانت فيها تستعدّ لتحييد المانا ، كانت إليزيا تستعدّ مسبقًا-تستحمّ، وتلبس أجمل ما لديها، مليئة بالأمل.
أمّا هو، فكان يأتي مباشرة من ساحة التدريب، غارقًا في العرق، وعبوسه كطفل مُجبر على زيارة الطبيب.
كان يمسك معصمها بيدين باردتين، يتحمّل تحييد المانا، ثمّ يتركها وكأنّه لمس جمرة.
الذكريات لا تزال حيّة.
رأت ظهره أكثر بكثير من وجهه طوال زواجهما.
حتى عندما كان يبتسم للآخرين، كان تعبيره يتجمّد ما إن تلتقي أعينهما. ثمّ يغادر الغرفة على الفور.
و الآن ، هذا الرجل نفسه يريد أن يكون زوجًا طبيعيًّا؟
بدا الأمر و كأنّه يسخر منها.
“أعتقد أنّ للعائلة الإمبراطوريّة بروتوكولاتها الخاصّة. قد لا أكون مثقّفة جدًا ، لكنّي أنوي خدمة سموّك كما يجب” ، قالت بنبرة رسميّة جافّة.
تابعت العربة سيرها بصمت ، و لم يُسمع سوى نداءات السائق و صوت العجلات فوق الحصى.
“أعتذر ، يا صاحب السمو” ، أضافت بلا صدق.
نظر إليها فرانز بصمت ، ثمّ هزّ رأسه.
“لا داعي للاعتذار. كنتُ أنا من طلب بأنانيّة.”
وبهذا، انتهى الحديث.
***
حين توقّفت العربة و فُتِح الباب، رمشت إليزيا بحيرة.
لم يكونوا عند الملحق.
“هذا قصر الأمير الثاني. ستقيمين هنا-قبل الزفاف و بعده” ، شرح فرانز.
نظرت إليه إليزيا بذهول.
ما الذي يقوله؟ لا، الأهمّ-لماذا؟
قصر الأمير الثاني كان منطقة محظورة ، لا يُسمح بدخوله إلّا بإذنٍ من فرانز. حتّى زوجته، كانت تقيم في الملحق.
حدّقت في القبّة الرماديّة، والأعمدة التي تشبه ممرّات المعابد، والحديقة الواسعة التي تمتدّ خلفها.
النافورة …
لم تلاحظ حتى يد فرانز الممتدّة نحوها. كانت عيناها معلّقتين بالنافورة المتلألئة، حيث انعكست أشعّة الضوء على الماء.
‘ظننتُ أنّني تخلّيتُ عن الماضي.’
بَدَتْ بخير-تماسكت أمام فرانز، ولم تتأثّر بفكرة العودة إلى القصر للزواج به.
لكنّ مشهد النافورة، المماثلة تمامًا للتي كانت من قبل، أيقظ شيئًا عميقًا بداخلها.
في حياتها السابقة، هدم فرانز تلك النافورة عندما لاحظ نظراتها إليها-مباشرةً بعد مأدبة الزفاف.
و كأنّ مجرّد نظراتها كانت تثير اشمئزازه.
بكت وحيدة في غرفة الزفاف تلك الليلة.
وفي وقت لاحق من المساء، زارها فرانز-لا ليواسيها، بل ليؤدّي واجب الزواج بصمتٍ وواجب.
ثمّ غادر قبل بزوغ الفجر.
و من هنا بدأت الشائعة: الأمير الثاني يحتقر زوجته.
أمّا من شكّك ، فكان يشير إلى النافورة المفقودة كدليل.
لكن الآن ، النافورة لا تزال قائمة. لم يُزِلها فرانز-بعد.
وحين نظرت إلى تماثيل الأطفال الملائكة، امتلأت عيناها بالدموع.
“يبدو أنّكِ تحبّين النافورة” ، علّق فرانز.
انتبهت إليزيا فجأة وأبعدت نظرها بسرعة.
“لا” ، قالت.
‘لا تبكِ، ليز. البكاء سيُعيد الماضي كما كان.’
“الضوء كان ساطعًا فقط”
أجابت بصوت هادئ متماسك ، و قبلت يده الممتدّة.
كان جسده أبرد من ذي قبل.
لا بدّ أنّه يتألّم. و مع ذلك ، حافظ فرانز على هدوئه ، و كأنّ كبت المانا أمرٌ اعتياديّ.
***
“فرانز! أين كنت؟ بحثتُ عنك في كلّ مكان!”
تجمّدت إليزيا في منتصف خطوتها حين دوّى صوت مألوف.
خطوات سريعة واثقة اقتربت.
“حين يناديك أخوك الأكبر ، عليك أن تُجيب. دائمًا بارد!”
الرجل الذي أمسك بكتف فرانز و دار به كان ليس سوى الأمير الأول ، كريتون.
تراجعت إليزيا غريزيًّا.
قطّب كريتون حاجبيه حين لاحظ وجودها.
“من هذه؟”
لم يُجب فرانز. فقط أزاح يد كريتون عن كتفه.
لكن كريتون ، غير متأثّر ، أصرّ: “سألتُ من تكون”
انحنت إليزيا بأدب.
“تحيّاتي، يا صاحب السموّ الأول. ليحلّ عليك مجد الشمس. أنا إليزيا أمبروز.”
“أمبروز؟ آه، أأنتِ أخت كاليب أمبروز؟”
فوجئت بالسؤال. رفعت نظرها بدهشة.
“أتعرف أخي، يا صاحب السموّ؟”
“درسنا معًا في الأكاديميّة. سررتُ بلقائكِ ، ليدي إليزيا. أم أقول … أختي؟”
ابتسم كريتون بحرارة.
كريتون أوستاس-ابن الشمس الأول، المنافس الأقوى على العرش، رجلٌ جمع بين القوّة والشعبيّة.
عُرف بسحره وحنكته القياديّة، وكان رئيس الطلّاب في كلّ مؤسّسة تعلّم فيها.
قصره كان دائمًا مكتظًّا بالضيوف.
لم يكن هناك نبيل في الإمبراطوريّة لا يعرفه.
زوجته، الأميرة غلينا، كانت ابنة دوق كورنيل، أقوى عائلة في الإمبراطوريّة.
‘مقارنةً بغلينا الأنيقة، لا بدّ أنني بدوتُ ريفيّة جدًّا…’ ، فكّرت إليزيا بمرارة.
ربّما لهذا السبب كان فرانز دائمًا خائب الأمل منها.
وربّما لهذا السبب وقع في حبّ نايريس روشاناك في حفلة عيد ميلاد كريتون.
لم تكن تكنّ لكريتون أيّ ضغينة-لكنّ حفله كان المسرح الذي التقى فيه فرانز بحبيبته.
لو لم يلتقِ بها ، ربّما لم يكن ليحاول قتلها …
وربّما كانت ستعيش كشبح، غير مرئيّة وغير مهمّة.
‘لكنّني ما كنتُ لأعود حينها. لذا، ربما هذا أفضل …’
ابتلعت إليزيا ابتسامة مريرة و قالت:
“تصرّف براحتك ، يا صاحب السمو”
“كما تشائين. سمعت أنّ زفافكِ الشهر المقبل. مبارك انضمامكِ إلى العائلة الإمبراطوريّة. آه، و …”
نظر كريتون إلى فرانز، ثمّ مال نحو إليزيا.
فتقدّم فرانز فورًا، حاجبًا المسافة.
“ما الذي تحاول فعله؟”
“لا شيء مهم. فقط أحذّرها من طباعك السيّئة.”
ابتسم كريتون ابتسامة خفيفة و أمال رأسه.
“كما ترين، الحياة معه لن تكون سهلة. لا تتردّدي بزيارة قصر الأمير الأول متى شئتِ الحديث. سأكون سعيدًا بالاستماع”
“شكرًا لك” ، قالت إليزيا.
“لن تفعل” ، قالها فرانز بحدّة.
ارتجفت إليزيا من ردّه البارد.
كان يرمق كريتون بنظرة كراهية.
“سنرى” ، ردّ كريتون مبتسمًا، غير متأثّر.
لقد اعتاد على هذه المعاملة.
أمّا إليزيا، ففوجئت بذلك العداء.
‘هل حدث شيء بينهما لا أعرفه؟’
لم يكونا مقرّبين في حياتها السابقة، بما أنّهما منافسان على العرش. لكن لم يكن بينهما هذا البرود.
كان فرانز يحترم كريتون، وكريتون هو من قدّمه إلى نايريس.
فما الذي تغيّر؟
‘أنا لم أفعل شيئًا بعد. من المفترض أن المستقبل لم يتغيّر …’
نظرت إليزيا إلى فرانز ، مشوّشة.
و في النهاية ، كسر كريتون الصمت المحرج.
“لا يزال عنيدًا كما هو. آسف لأنّكِ شهدتِ هذا. سأدعكما الآن قبل أن يسوء الموقف أكثر”
لوّح بيده بمبالغة و غادر ، و كأنّه غير متأثّر بفظاظة فرانز.
“والدتك تبحث عنك” ، أضاف ، “تتساءل لماذا تخرق البروتوكول. أعطيتُها تفسيرًا غامضًا …”
و انتقلت عيناه إلى إليزيا.
فهمت فورًا.
من غير اللائق أن يأتي الأمير بنفسه ليأخذ عروسه-أو أن يسكنها في القصر الملكيّ قبل الزواج.
ومع مرض الإمبراطور، لا بدّ أنّ الإمبراطورة استدعت فرانز لتوبيخه.
“على كلّ حال، أنا واثق أنّك ستجد طريقة للتصرّف.”
لم يردّ فرانز، لذا اكتفى كريتون بذلك.
“أراك لاحقًا. مباركٌ مجدّدًا.”
اختفى بخطواتٍ واثقة.
راقبته إليزيا وهو يبتعد، إلى أن فاجأها صوت أنفاسٍ متقطّعة بجانبها.
“أوه …”
ترنّح فرانز ، و هو يضع يده على صدره من شدّة الألم.
التعليقات لهذا الفصل " 5"