“… ليز”
خرج صوت أجش وسط أنفاس متقطّعة.
لفّ فرانز يده حول عنق إليزيا و جذبها نحوه.
كما لو كانت هذه القبلة هي الوداع الأخير في هذا العالم.
أغمضت إليزيا عينيها بإحكام. كانت تعلم أنّه يجب أن تدفع فرانز بعيدًا، لكن ما إن لمس جسده البارد، الشبيه بالجليد، جسدها، حتى خارت قواها تمامًا.
طعْم الدم المعدنيّ القادم من شفتيه جعل صدرها ينقبض.
قطّبت إليزيا حاجبيها. يد فرانز اليائسة تشابكت في شعرها، وجسدها كله تجمّد.
أو ربّما كان قلبها فقط، ينبض بعنف.
“ليز …”
همس فرانز بلا أنفاس، وما زال ممسكًا بـشفتي إليزيا كأسيرٍ لديه. كان صوته خافتًا إلى درجة أنّها وحدها فقط استطاعت سماعه — لأنّ جسديهما كانا ملتصقين.
“هاه…”
أسند فرانز جبهته إلى جبينها، ووضع كفّه على خدّها.
كانت يداه، المحاصرتان لها، باردتين.
فتحت إليزيا عينيها ببطء. عيون ذهبيّة ضبابيّة حدّقت بها.
كان نظره كأنّه يقيدها، فسارعت إليزيا إلى محاولة الجلوس. لكنّ صوت فرانز الأجشّ عاد من جديد.
“…شكرًا لكِ.”
“على ماذا؟”
ارتجفت إليزيا وهي تحاول دفع يده بعيدًا. توقّفت في منتصف الطريق ونظرت إليه.
“ما الذي تقصده …؟”
“أنا آسف.”
حدّقت إليزيا فيه بدهشة.
لم يبدُ بكامل وعيه. بدا وكأنّه لا يعلم حتّى ما الذي يقوله.
وإلا، لما كان يهذي هكذا.
كانت عيناه، المعلّقتان بها، ممتلئتين بالدموع. نظرت إليزيا إليها بعدم تصديق، وهي ترى الوميض في قزحيّته الذهبيّة.
“شكرًا؟”
تحوّلت نظراتها — من عينيه إلى أنفه الحاد، ثم إلى شفتيه الملطّختين بالدم.
“آسف؟”
تشنّج وجهها. كانت شفاهه مغطّاة بالدم.
من التقبيل والاحتكاك، أصبح وجهه فوضى.
وكان فرانز ينظر إليها بيأس، كما لو لم يكن في عالمه سواها.
دم …
عندما نظرت إليزيا إلى شفتيه، رفعت يدها إلى فمها لا إراديًّا.
أدركت أنّ دمه لا بدّ وأنّه عَلِق بشفتيها أيضًا.
لكن، قبل أن تتمكّن من مسحه، أمسك فرانز بيدها.
فزعت ونظرت إليه — فرفع رأسه بلطف.
ثم بدأ يلعق شفتيها.
كما لو كان يُنظّف الدم عنها.
ومع كلّ حركة، سرت قشعريرة في عمودها الفقري.
ارتجفت إليزيا من الإحساس الغريب، وفتحت شفتيها.
“…توقّف… آه!”
وحين فتحت شفتيها لتدفعه ، انسلّ إلى الداخل.
تورّطت إليزيا في قبلة أخرى، بلا حول ولا قوّة.
أغلقت عينيها.
وفي اللحظة التي فعلت فيها ذلك، انبثق ضوء أحمر خافت بين شفاههما. بدأ يزداد سطوعًا تدريجيًّا حتى أضاء الغرفة كلّها.
فُزعت إليزيا من الضوء الساطع، وفتحت عينيها.
شعرت كما لو أنّهما كانا يتبادلان كرة ضوء من خلال القبلة.
عاد الدفء إلى وجه فرانز، وتلاشت ملامح الألم لتحلّ محلّها السكينة.
“ما هذا؟”
شحب وجه إليزيا حين أدركت ما يحدث.
تحييد المانا. لقد كانت تُحيّد ماناه دون أن تدري.
“توقّف…!”
صرخت بذعر، ودَفَعَت فرانز بعيدًا.
ومسحت شفتيها بعنف بظاهر يدها.
تحييد المانا؟
لقد تجاوز الأمر مجرّد فقدان التحكّم. لم تتخيّل يومًا أن يحدث شيء كهذا.
قلبها و جسدها لم يعودا يستجيبان لإرادتها.
لهثت إليزيا ، ثمّ رمقته بنظرة غاضبة وبدأت تصرخ عليه.
“ما الذي تفعله بي؟ ما هذا بحقّ الجحيم؟”
“ليز ، أنا…”
تحرّكت شفتا فرانز الشاحبتان وهو يردّ بتعب.
لكنّه لم يستطع المتابعة. لم ينبس سوى بحيرةٍ في عينيه.
أدركت الآن — أنّه كان يهذي. لم يكن بكامل وعيه.
“يكفي. سأرحل”
أن يُزعزعها فرانز مجدّدًا — هذا يجب أن ينتهي الآن. لم يعُد هناك ما يُقال.
نهضت من السرير بعزم.
لكن عندما همّت بالمغادرة، أمسك فرانز بيدها. وتشبّث بها بيأس.
“لا ترحلي.”
اشتعل الغضب في صدر أليزيا من توسّله. نظرت إليه بحدّة وصرخت:
“لماذا تتشبّث بي؟ لقد استخدمتني بما فيه الكفاية. لتحييد المانا، بمفردك!”
“لا.”
أمسك فرانز كمّ ثوبها بيأس.
كانت يده المرتجفة تقبض على يدها.
“تحييد المانا لا يمكن أن يحدث إن لم تريدهِ أنتِ. لم أفعل ذلك. لم أكن أنا”
“… ماذا؟”
شحب وجه إليزيا من وقع كلماته. شعرت كأنّ أحدهم صفعها على رأسها.
لم يكن هو؟
إذًا لم يبقَ سوى تفسير واحد.
إذًا كنتُ أنا؟
شعرت وكأنّ الدماء قد انسحبت من جسدها.
‘لا تتردّدي، ليز. فرانز لا يُفكّر بوضوح. إنّه لا يعلم حتّى ما الذي يقوله.’
تجمّدت إليزيا وحدّقت بفرانز.
كانت عيناه أكثر صفاءً من ذي قبل. بدا أنّ التنقية ساعدته على التعافي بعض الشيء، رغم أنّ جسده ما زال في صراع.
كانت سعالته عنيفة تهزّ كتفيه العريضتين. الدم تناثر على ملاءة السرير.
قطّبت إليزيا جبينها وهي تنظر إلى الاحمرار القاني ينتشر على القماش.
“أنا… كح… لم… أفعل ذلك”
حتّى وهو يسعل، لم يُفلت فرانز يدها.
كان يبدو خائفًا من أن تتركه.
“هذا… لا يمكن.”
همست إليزيا كمن أصابها الذهول. كان فرانز يملأ مجال رؤيتها كلّه.
كان يلهث، وكلّ سعلة تُسقط خصلات شعره الذهبيّ إلى الأمام. وجسده شبه العاري بدا وكأنّه سينهار في أيّ لحظة.
“كح!”
ومع كلّ اهتزازٍ من السعال، ارتجفت أصابع إليزيا. امتدّت يدها لا إراديًّا — ثمّ ارتدّت بفزع.
كانت قد تحرّكت بلا وعي.
نحوه. لأجله.
هل يُعقل أنّني …؟
آخر شيء كانت ترغب بتصديقه اخترق قلبها كسكّين.
تحييد ماناه — بإرادتها؟
إن كان هذا صحيحًا ، فهو مدمّر.
تحييد المانا ليس فعلًا إراديًّا. إنّه يخرج من أعماق الرّوح.
ولهذا يُطلق على الشّريك في هذا الفعل اسم “الرّابطة الرّوحيّة”.
كانت إليزيا تظنّ أنّ تلك الرّابطة مع فرانز قد انقطعت حين عادت بالزمن. ظنّت أنّها لم تعُد تحبّه — وأنّها أصبحت محصّنة ضدّ وجوده.
لكن أن تفعل هذا دون وعي؟
رُوحها استجابت قبل عقلها.
والآن، ها هي تتألّم من ألمه.
وتتوق لتخفيفه.
فما معنى هذا؟
هل يُمكن … أن أكون ما زلتُ أحبّه؟
كلا.
عضّت أليزيا على أسنانها.
لا يمكن. يجب ألا تحبه. ليس وهي ما زالت تتذكّر طفلها الذي فقدته.
انعقد وجهها بألم.
لم تستطع الحراك. كما لو أنّ هوّة من اليأس انفتحت تحت قدميها.
نظرت إلى فرانز بعجز خانق.
“ليز …”
انعكس وجهها في عينيه الذهبيّتين المتلألئتين.
وجهه الشاحب، الشبيه بالشّبح، كان يحمل تعبيرًا قلقًا.
“هل أنتِ بخير؟”
مدّ يده نحوها.
ما زال يسعل. ما زال ينزف. لكن كأنّها الشيء الوحيد الذي يهمّه.
“أنا …”
دارت الدنيا في عيني إليزيا. ترنّحت، محاولة الابتعاد.
لكنّها لم تستطع. نظرته كبّلَت جسدها كسلاسل. تجمّدت مكانها.
“أنا، أنا …”
ارتجفتو، تلهث. ثمّ سقطت على السّرير.
لم تستطع مسامحة نفسها.
كيف حدث هذا؟
كلّ وعودها بالانتقام — كانت فارغة.
ما زالت تحبّ فرانز.
لم تستطع محو الحبّ المنقوش في روحها.
لم تكن تتزعزع بسببه.
بل لأنّ قلبها لم يغادره يومًا.
إليزيا كانت تنتمي إلى فرانز.
ومن دون أن تدرك ذلك، تجرّأت على الحلم بالانتقام.
تجرّأت على الاعتقاد بأنّها تجاوزته.
“أغغ…”
وضعت إليزيا يدها على فمها.
كانت تشعر بالاشمئزاز من نفسها.
هذا هو ذروة النّفاق.
إن كانت لن تتحرّر منه أبدًا — فلماذا أقسمت على الانتقام؟
عندما عادت إلى الماضي، كان يجب أن تنهي الأمر حينها.
أن تُتْرَك، أن تُتجاهل، أن تُهان — ومع ذلك تحبّه؟
كيف لها ذلك؟
كائن تافه كهذا لا يستحقّ الحياة.
“أغغ… هااه… لهث…”
“ليز!”
حين انحنت إليزيا تتقيّأ، جذبها فرانز إلى صدره.
“لا تلمسني!”
دفعته بغريزتها. لمسته الباردة جعلت جلدها يقشعر — وفي الوقت ذاته، منحتها عزاءً.
لم تعد تحتمل هذا التناقض.
“دعني. دعني أموت!”
صرخت دون أن تدري ما الذي تقوله.
رقبتها اشتدّت من القوّة، وصيحاتها انفجرت كالعاصفة.
“كان يجب أن أبقى ميتة! كان يجب أن أموت حينها!”
“لا!”
وحين بدأت تتخبّط، أمسك فرانز بكتفيها.
ثمّ قبّلها بعمق. لم يتوقّف حتى هدأت ثورتها، حتى خفّ اضطرابها. ثم همس: “لا تفكّري بالموت مرّة أخرى أبدًا.”
مرّت شفتاه على زوايا عينيها. لعق دموعها، وأضاف: “هذه المرّة، لن أسمح بذلك.”
أغمض فرانز عينيه. احتضن إليزيا — بلُطف، بحماية.
“لن أخسركِ مجدّدًا أبدًا.”
كانت يداه المرتجفتان تضمّ جسدها الهشّ.
فرانز، بعيون دامعة، قبّل إليزيا مرّة أخرى.
وفي تلك القبلة، بدأت ذكريات غريبة تتدفّق إلى عقل إليزيا.
ذكريات مألوفة … لكنها غريبة — من ماضٍ بعيد.
التعليقات لهذا الفصل " 47"