4
الفصل 004
ركض كاليب نحو أليزيا واحتضنها بقوة. وعلى الرغم من أنه لم يكن بطول فرانز، إلا أنه كان أطول بما يكفي ليطوّقها بين ذراعيه تمامًا.
“أحقًا سترحلين بهذه السرعة؟ دون حتى أن تقولي وداعًا؟”
قال متذمرًا.
“هذا ما كنتُ أقوله.”
أضافت باتريسيا من خلفه بنبرة تهكميّة، وقد فاض ضيقها عنها حتى كاد يُرى في تعابير وجهها.
كتمت أليزيا ضحكة خفيفة. كانت باتريسيا تغلي من الغيظ، تجهل إلى أين توجه غضبها. رؤية هذا المشهد، الذي طالما تخيّلته في أحلامها، بعث في نفسها شعورًا غريبًا بالرضى.
“لقد باغتني حضوره الشخصي، لم أكن مستعدة. أنا آسفة.”
“ستغيبين طويلًا، ولم أتمكن حتى من توديعكِ……آه!”
“يكفي.”
قال فرانز بحدّة وهو يزاحم كاليب، متقدّمًا ليقف أمام أليزيا مباشرةً ويحجبها عن الأنظار.
رمقته أليزيا من خلفه بحدّة، وعيناها تلمعان بالدهشة والامتعاض.
“ألن تسمح ليّ حتى بوداع عائلتي؟”
قالت غاضبة.
“عائلتكِ؟”
كرر فرانز، وهو ينظر بشكّ إلى شعر أليزيا الأحمر وخصلات كاليب الفضية.
“لا يشترط أن نتشابه في الهيئة لنكون عائلة.”
ردّت بأدب، تخفي خلف كلماتها غيضًا متصاعدًا.
‘ما باله؟’
لم يسبق لـ فرانز أن أبدى اهتمامًا بها، فضلًا عن أن يكترث بعائلتها.
تذكّرت، وبمرارة، كيف تجاهلها مرارًا حين طلبت أن يزورهم كاليب. قبضت على يدها وقالت.
“حتى وإن لم يكن الدم واحدًا، أو لم نتشابه في الملامح، يظل بإمكاننا أن نكون عائلة، تمامًا كسموك والأمير الأول.”
“أفتعنين أنكما عائلة؟ أنتِ وهذا الرجل؟”
سألها بصراحةٍ.
ألم تقل ذلك للتو؟
“عائلة…….”
أعاد فرانز الكلمة، وكأنها تترك طعمًا مرًا في فمه. أما أليزيا فكانت بالكاد تكتم غيظها المتزايد.
“لا أعلم ما الذي يدور في بالك، لكن كاليب وأنا أخوان عاديان، لا فرق بيننا وبين سائر الإخوة.”
“عاديان؟”
“نعم. كما هو معتاد-.”
شرعت أليزيا في شرح معنى العلاقة العادية بين الإخوة، لكنها توقفت فجأةً.
هي وكاليب كانا هكذا تمامًا، أخوين.
ورغم أنهما لم يكونا من أمّ واحدة، إلا أن كاليب ظل دائمًا إلى جانبها، حتى حين كانت باتريسيا تعاملها بقسوة.
أول مرة رأته فيها، كانت في الثانية من عمرها بالكاد، لم تكن قد تعلّمت القراءة بعد. وكان هو أكبر منها بعامين فقط، لم يكن أكثر دراية منها.
أغلب أطفال النبلاء يستطيعون القراءة في ذلك العمر، لكن كاليب وُلد من عامة الناس.
كان الناس يثرثرون بأنه محظوظ، فحياته انقلبت رأسًا على عقب حين ورث لقب البارون بعد وفاة والد أليزيا.
لكن أليزيا لم تنظر إليه بتلك الطريقة أبدًا.
مهما كانت طموحات باتريسيا، كان كاليب دومًا أخاها.
حين كانت تخدش ركبتها، كان ينفث عليها ويحملها إلى البيت. كان حضوره حنونًا وثابتًا.
لكن في عائلات النبلاء، نادرًا ما تكون العلاقة بين الإخوة وطيدة. أما بالنسبة لأمير مثل فرانز، فقد تكون فكرة، الأخوة المتقاربة، غريبة تمامًا.
فـ فرانز نفسه كان غارقًا في خصومة صامتة مع أخيه غير الشقيق، الأمير الأول كريتون، حول العرش.
لذا اختارت أليزيا أن تشرح له كما تشرح لطفل صغير.
“العلاقة العادية بين الإخوة تعني أن ينشأوا معًا، يتناولون الطعام معًا، ويلعبون، ويدرسون. كأنهم رفقاء لعب، أو مثل سموك والأمير الأول.”
“أفهم.”
أخيرًا، سحب فرانز يده التي كانت تحجب كاليب، وظهر على وجهه ابتسامة خافتة. تلك الابتسامة، التي لطالما تمنّتها، كانت سهلة جدًا اليوم.
“ريزا؟ أنتِ بخير؟”
سألها كاليب بعد أن كان يصغي بهدوء، وهو يحني عنقه ليراها.
وحين أشار لها بصمت، متسائلًا إن كان بإمكانه معانقتها مرة أخرى، ابتسمت له أليزيا إشراقة حنونة.
“نعم، كاليب. اعتنِ بنفسك، حسنًا؟”
“لمَ تتكلمين وكأننا لن نلتقي مجددًا؟ سنلتقي، أليس كذلك؟”
كلا. لن نلتقي. فرانز لن يسمح بذلك أبدًا.
ابتلعت أليزيا كلماتها وربتت على ظهر كاليب بلطف.
كان فرانز يراقبهما بصمت، وتعبير وجهه الجامد لا يُخفي امتعاضه.
لكن أليزيا لم تكترث. لقد عرفت أشكالًا أسوأُ من الازدراء من قبل.
“هل نرحل الآن، صاحب السمو؟”
تعمّدت تجاهل باتريسيا، التي كانت واقفة ترفع ذقنها انتظارًا لوداع لائق. وعندما احمرّ وجهها من الغيظ، لم تلتفت أليزيا إليها مطلقًا.
راقبها فرانز للحظة، ثم أشار نحو العربة الملكية المنتظرة. تبعت أليزيا نظراته، فانقبض وجهها على الفور.
العربة الذهبية المخصّصة للأميرة الثانية.
سارت نحوها بخطى بطيئة.
كان الأمر أشبه بالمشي نحو فم وحش. ما إن تخطو إلى داخلها، حتى يبدأ الجحيم من جديد.
عامان من الوحدة، والإهمال، والقسوة.
لكن هذه المرة، لن أكون أنا من يعاني.
كل خطوة خطتها كانت قسمًا. كانت عيناها الزمرّدتان تتوهّجان بعزمٍ صامت.
* * *
كانت العربة الإمبراطورية أفخم بكثير من أي شيء تملكه عائلة أمبروز. بوسع المرء أن يحتسي الشاي بارتياح داخلها.
ومع أول اهتزاز خفيف، تحرّكت العربة إلى الأمام، فتمسّك فرانز بإطار النافذة.
“هل تشعرين بعدم الارتياح؟ الطريق سيستغرق نحو ثلاث ساعات. كان بإمكاننا استخدام بوابة، لكن لها آثارًا جانبية.”
“آثار جانبية؟ ظننتُ أن الأمر لا يتعدّى بعض الدوار.”
رمقته أليزيا بنظرة فضولية.
لطالما كان فرانز يُفضّل استخدام السحر. فكلما أكثر منه، قلّ الألم الذي تسبّبه له ماناه.
وعلى الرغم من أن البوابات تستهلك قدرًا ضئيلًا من المانا، إلا أنه كان يستخدمها باستمرار لتخفيف الضغط.
“نعم.”
أجاب فرانز باقتضاب، ثم أغلق فمه.
من الواضح أنه لم يكن راغبًا في مواصلة الحديث. وأليزيا بدورها لم تُلحّ عليه.
أليزيا القديمة كانت ستحاول بكل جهدها الإبقاء على الحوار حيًا. أما الآن، فهي لم تعد تعبأ سوى بنفسها.
وماذا الآن؟
نظرت إلى فرانز من طرف عينها.
كان تمامًا كما تتذكّره.
جميلًا إلى حد يكاد يفوق الوصف، بملامح حادّة تكسبه وقارًا، وكتفين عريضين يضيقان نحو خصر نحيل، وساقين طويلتين مستقيمتين.
لا يزال مذهلًا. لا يزال متألّقًا. لكن……ثمة شيء مختلف فيه.
ليس كل شيء يجب أن يتكرّر بالطريقة ذاتها، على ما يبدو.
‘أيمكن أن يكون فرانز قد عاد بالزمن أيضًا؟’
احتمال ضئيل، لكن كان عليها التأكد.
فإن كان قد عاد ومعه ذكرياته، لكانت خنقته فورًا.
‘وإن لم يكن…….فالأمر سيّان. سأنتقم منه في النهاية.’
ارتسمت على وجه أليزيا ابتسامة خفيفة وهي تضع خطواتها بهدوء.
“آوه، لقد نسيتُ أن أحييك كما ينبغي.”
قالت وهي تعتدل في جلستها وتضع يدها على صدرها.
“تشرفتُ بلقائك، صاحب السمو. فلتحلّ عليك بركة الشمس.”
استدار فرانز نحوها. فتابعت بهدوء.
“أنا أليزيا أمبروز، وسأصبح قريبًا أليزيا يوستاس، عروسك.”
“……وهل هذا كل ما لديكِ لتقولينه؟”
سأل بصوت جاف، وقد مد يده نحوها، وعيناه الذهبيتان تلمعان بشيء من الرجاء.
نظرت إلى يده، ثم رفعت رأسها ببطء.
تلاقت أعينهما. ذهب صافٍ، وزمرد عميق.
وما إن دخلت نظرتهما، حتى اضطربت النظرة الذهبية.
لكن أليزيا تظاهرت بالجهل وابتسمت برقة.
“هل هناك ما يُقال لشخص التقيتُ به لتوّي؟ أم……أننا التقينا من قبل؟”
“لا.”
أدار فرانز وجهه سريعًا، وكأن ابتسامتها كانت لا تُحتمل.
“لم نلتقِ من قبل.”
الطريقة التي ارتبك بها، كم كانت مألوفةً. رفعت أليزيا حاجبها.
إذن، لم يعد بالزمن.
لو كان كذلك، لكانت ابتسامتها هذه قد أيقظت في ذاكرته لحظة موتها، لأنها حينها ابتسمت له للمرة الأخيرة.
لكان تذكّر اللعنة التي أعقبت اعترافها له.
ولو كان الأمر كذلك، لما جلس هادئًا في هذه العربة. لكان يصرخ مطالبًا بفكّ اللعنة.
لكنه لم يفعل. كما توقّعت، هذا الفرانز لا يعرف ما سيأتي.
‘آمل أن اللعنة لا تزال فاعلة. يا للأسف أنني لا أستطيع إلقاءها مرة أخرى.’
فإلقاء اللعنة ذاتها على الشخص ذاته مرتين سيرتدّ على الساحر. حتى إن كانت اللعنة السابقة قد خفّت، فالمجازفة بإعادة إلقائها خطر.
ثم تحدّث فرانز فجأةً.
“قلتِ……أنتِ وسير كاليب إخوة عاديون.”
“……عذرًا؟”
رمشت أليزيا.
كان ينظر إليها مباشرةً الآن.
ما الذي يقصده؟
“السير كاليب أمبروز. قلتِ إنكما إخوة عاديون.”
وكأنه قرأ أفكارها. أومأت برأسها.
“نعم، قلتُ ذلك. ما الأمر؟”
“أريد أن نكون زوجين عاديين.”
قطبت حاجبيها باندهاش أمام هذا الطلب المفاجئ.
ما الذي يقوله؟ هل يعلم ما يعنيه أصلًا؟
أن ينطق أمير ملكي بأنه يريد علاقة عادية مع عروسه المستقبلية؟
“نتناول الطعام معًا، نتمشّى، ننام في الغرفة نفسها. ذلك النوع من العادي.”
ابتسم فرانز، والتوى شفاهه بابتسامة مثالية.
حدّقت أليزيا فيه مذهولة، عاجزة عن النطق بكلمة واحدة.
لأن النسخة من فرانز التي أحبّتها أكثر من أي وقت مضى……كانت أخيرًا تنظر إليها.
يُتبع….
التعليقات لهذا الفصل " 4"