“أشكر جلالتكِ على عنايتكِ حتّى بخادمتي.”
انحنت إليزيا بأدب شاكرةً الإمبراطورة. كما انحنت سارا ، الراكعة بجانبها ، بانحناءة عميقة بدورها.
ابتسمت الإمبراطورة بلطف أمام إيماءات وليّة العهد الثانية وخادمتها.
“قلتُ لكِ من قبل ، نحن عائلة. لا داعي لكلّ هذا التّكلّف. و إذا احتجتِ إلى شيء ، فلا تتردّدي في الطّلب.”
رفعت إليزيا رأسها ببطء، وعبست قليلًا كأنّ أمرًا ما يشغل بالها، ثمّ تردّدت قبل أن تتكلّم.
“في الحقيقة … مؤخرًا، نصحتني سموّ وليّة العهد الأولى بأن أدرس آداب القصر. أنا قلقة من أنّ تقصيري قد يجلب العار للقصر الملكيّ.”
“ألم أقل لكِ سابقًا؟”
فتحت الإمبراطورة مِروحتها وتكلّمت بنبرة دافئة.
“آدابكِ مثاليّة، يا وليّة العهد الثانية. لا حاجة لكِ بأيّ معلمة”
“لكن سموّ وليّة العهد الأولى …”
“تقصدين غلينّا؟”
بينما توقّفت إليزيا عن الكلام، رفرفت الإمبراطورة مِروحتها برفق وأمالت رأسها.
“من يدري لماذا قالت ذلك؟ ربّما بسبب حفل عيد ميلاد كرايتون القادم. هي دقيقة للغاية، خاصّةً حين يتعلّق الأمر بكرايتون. تميل لأن تكون صارمة جدًّا.”
‘أتفهمين؟’
غمزت الإمبراطورة لإليزيا بمرح، فهدأت إليزيا وابتسمت بدورها.
‘الآن تذكّرت، حفل عيد ميلاد الأمير الأوّل يقترب.’
راحت إليزيا تحسب التّاريخ بصمت.
نيريس ستظهر في حفل عيد الميلاد في العام المقبل. لذا لا داعي للقلق هذا العام.
رغم أنّ غلينّا ذكرت اسم نيريس أثناء العشاء الملكيّ، إلّا أنّ الوقت لم يحن بعد.
نيريس روشاناك لم تصل إلى كاليبس بعد.
ستقضي هذا الشّتاء في إقليم روشاناك، ولن تأتي إلى كاليبس إلّا في ربيع العام القادم.
‘هذا يعني أنّ هذا سيكون أوّل و آخر حفل أشارك فيه كزوجة لفرانز.’
في العام المقبل، حتّى لو حضرت إليزيا الحفل، فستُعامَل وكأنّها غير موجودة.
لن يرقص فرانز معها ولا رقصة واحدة حالما يرى نيريس.
وسيتركها لتعود إلى الفيلا وحدها، من دون مرافق.
ومنذ ذلك اليوم، ستبدأ تعاستها الحقيقيّة.
‘لا بأس. لم يحن ذلك الوقت بعد.’
ابتسمت إليزيا بعمق، محاولةً تهدئة قلبها المتقلّب.
لقد عاشت هذا كلّه من قبل. كانت تعرفه جيّدًا.
ومع ذلك، كان يؤلمها.
ربّما لأنّها جرّبته مسبقًا، فقد تفاعلت روحها مع الذكرى.
كانت تعرف ذلك البؤس جيّدًا.
“وليّة العهد الثانية؟ ما بكِ؟ انتظري قليلًا، الشاي المثلّج سيصل حالًا.”
“نعم…”
جاء ردّ إليزيا غائمًا. رفعت رأسها لتنظر إلى الإمبراطورة، وضغطت شفتيها بصمت.
وبينما كانت متردّدة، وهي تمسك بكوب الشاي السّاخن، طوت الإمبراطورة مروحتها وسألت: “فيما كنتِ تفكّرين؟ هل كنتِ تفكّرين في عائلتكِ؟”
“لا، أنا …”
بدأت إليزيا تنكر غريزيًّا، ثمّ رمشت عندما خطر في بالها شيء فجأة. أضاءت عيناها.
“يا جلالة الإمبراطورة، هل يمكنني إرسال دعوة إلى حفل عيد ميلاد الأمير الأوّل؟”
“بالطّبع. ضيوفكِ دائمًا مُرحَّب بهم. من تودّين دعوتَه؟”
أضاء وجه إليزيا بفرح عند سماع موافقة الإمبراطورة السّخية.
وضعت كوب الشاي جانبًا وتكلّمت بخجل: “أودّ أن أدعو شقيقي.”
***
كانت إليزيا تكتب دعوة لإرسالها إلى أمبروز، ووجهها يشعّ حماسة.
لقد سمحت لها الإمبراطورة بدعوة كاليب. لم تكن تتوقّع رفضًا، ولكنّ الحصول على الإذن فعليًّا ملأها بالفرح.
في حياتها السّابقة، لم تتمكّن من رؤية كاليب ولو لمرّة بعد زواجها. كان فرانز يجد الأمر مزعجًا.
ولأنّها لم تكن تستطيع أن تشتكي للإمبراطورة، لم يكن أمامها سوى أن تشتاق إلى أمبروز و كاليب من بعيد.
معزولة عن عائلتها، أصبحت وحيدة أكثر فأكثر.
تلك الوحدة أكلت من روحها.
لم تكن تمانع أن تكون وجباتها الخبز الجاف أو الحساء شبه الفارغ.
فهي وليّة العهد الثانية.
زوجة فرانز الوحيدة.
ذلك الكبرياء هو ما ساعدها على التّحمّل.
لكنّ الكبرياء وحده لا يكفي لتحمّل الشّقاء.
ففي النّهاية، إليزيا إنسانة. ولم تكن معتادة على تحمّل كلّ آلامها وحدها.
كانت بحاجة إلى من يمكنها الاعتماد عليه في لحظات الضعف، من تستطيع أن تبوح له.
كلّما تألّمت، فكّرت في عائلتها التي كانت تواسي ليز الباكية.
شقيقها الأكبر القويّ، كاليب، الذي ملأ الفراغ الذي خلّفه والدهم.
كانت إليزيا تبكي في وسادتها، تشتاق إلى كاليب.
الفيلا الكبيرة، الفارغة، كانت تضجّ بالشّوق.
لكن بمرور الوقت، تضخّم ذلك الحنين حتّى أنّ الفيلا الفسيحة لم تَعُد تكفيه.
صار تغيير غطاء الوسادة المبلّل عديم المعنى، فسيبتلّ مجدّدًا غدًا.
تعلّمت إليزيا أن تبكي بصمت وحدها، تبتلع وحدتها وحزنها.
هذا ما تعلّمته في عامين من حياتها في القصر.
بالطّبع، لم تكن وحيدة تمامًا.
فلو كانت كذلك، لذبل حبّها لفرانز منذ زمن.
ولحسن الحظ، كانت تملك سارا.
سارا كانت خادمة مخلصة. و لهذا كانت تخدم إليزيا بإخلاص ، حتّى عندما تخلّى عنها الآخرون في القصر.
وبفضل جهود سارا، كانت إليزيا تتناول ثلاث وجبات لائقة يوميًّا.
لكن هذا فقط.
فمهما كانت سارا طيّبة، فهي مجرّد خادمة. ليست عائلة. لم يكن بإمكان إليزيا أن تبكي بين ذراعيها أو تطلب نصيحتها.
كانت بحاجة إلى من يملأ الفراغ في قلبها. إلى من أحبّها منذ الطّفولة.
إلى شخص مثل كاليب.
‘من الجيّد أنّ كاليب كان زميل كرايتون في الأكاديميّة.’
ابتسمت إليزيا برقّة وهي تختم الظّرف.
لو لم تكن تلك الصّلة بين كاليب وكرايتون، لكانت غلينّا عارضت دعوته بشدّة.
فغلينّا متكبّرة بما يكفي لتجاهل أوامر الإمبراطورة إن لم ترق لها.
ولأنّها المستضيفة للحفل، فلكلام الإمبراطورة وزنٌ أقلّ في تلك المناسبة.
لقد كان حقًّا من حسن حظّها أنّ كاليب حافظ على علاقاته مع زملائه من الأكاديميّة.
“رجاءً، اعتني بهذه الدّعوة، يا سارا.”
ناولتها إليزيا الدّعوة، فأومأت سارا مبتسمة.
“سأرسلها بأسرع مرسول.”
قالت ذلك سريعًا وغادرت الغرفة.
بقيت إليزيا واقفةً وسط ضوء الغروب القرمزيّ ، تبتسم كالشّمس.
***
طنين-!
استفاقت إليزيا من نومها على صوت مفاجئ.
جلست في سريرها و نظرت حولها.
لكنّ ضوء القمر الخافت كان الوحيد الذي يملأ الغرفة، ولم تتمكّن من الرؤية بوضوح.
‘ما كان ذلك؟’
مدّت يدها نحو الحبل لتستدعي سارا وتتحقّق من الأمر.
لكن قبل أن تسحب الحبل، دوّى صوت تحطّم آخر، أشدّ وقعًا.
قفزت إليزيا من السّرير و أشعلت شمعة. غمر الضّوء الكهرمانيّ الدّافئ المكان.
نظرت حولها بقلق.
لا يبدو أنّ شيئًا تغيّر. بدا أنّ الصّوت قادم من خارج الغرفة.
‘هل … قد يكون قاتلًا مأجورًا؟’
تذكّرت ما حدث في قصر الأمير الثّاني ، فشعرت بالقشعريرة تسري في جسدها.
أسرعت نحو الطّاولة و التقطت الخنجر الذي طلبت من سارا إحضاره مؤخرًا.
أمسكت بالخنجر بيدين مرتجفتين، وسحبته من غمده، ثمّ اتّكأت بجانب الباب.
تأهّبت لتضرب من يدخل.
لكن على عكس توقّعاتها، لم يُفتح الباب.
بل استمرّ الضّجيج في الغرفة المجاورة.
“لا! توقّف!”
“يا سموّ الأمير الثّاني!”
تعالت صرخة فرانز الحادّة و صوت لوشيوس المستغيث.
اقتربت إليزيا من الباب الفاصل بين الغرفتين، في حيرة من أمرها.
ألصقت أذنها بالباب، وسمعت الفوضى تملأ غرفة فرانز.
كانت الغرفة أكثر اضطرابًا ممّا توقّعت. يتحرّك فيها النّاس، و لوشيوس يحاول تقييد فرانز.
وسط الضّوضاء، صرخ فرانز كوحشٍ جريح:
“لا تنادوها! أبدًا!”
“لكن يا سموّك! يجب علينا تحييد المانا! علينا استدعاء سموّها!”
عند توسّل لوشيوس المضطرب، شهقت إليزيا.
لقد أصيب فرانز بنوبة مجدّدًا.
لا بدّ أنّه كان يدمّر كلّ شيء في غرفته، غير قادر على تحمّل ألم المانا.
“لا… تنادوا… ليز…”
تشنّج وجه إليزيا. ارتجف حامل الشّمعة في يدها.
نظرت إلى ظلّها المرتجف بذهول.
‘لِمَ لا يريد استدعائي؟’
سمعت لوشيوس يحاول إعادته إلى السّرير، بينما هي تمسك بالشّمعة المرتجفة.
‘هل يُعقل …؟’
تذكّرت حديث كرايتون و فرانز قبل أيّام.
كان فرانز قد قال إنّ إليزيا لا تعني له شيئًا.
و السبب في ذلك كان—
‘هل لأنّ قدرتي على تحييد المانا خيّبت توقّعاته؟’
لأنّ قدرتها على تحييد المانا لم تكن بالمستوى المطلوب.
التعليقات لهذا الفصل " 39"