“إنّه زواج سياسيّ في النهاية. ليس من السهل أن تتولّد مشاعر” ، قال كرايتون بنبرة توحي بفهمٍ تامّ.
“إذًا، مشاركتك الفراش معها لمدّة أسبوع—هل كان ذلك فقط من أجل المانا؟ أم كنتَ تطمح إلى ليلةٍ حارّة؟”
“اخرس.”
بينما أطلق كرايتون صفيرًا، ردّ فرانز، الذي كان يحتسي الشاي بهدوء، بنبرة باردة تقشعرّ لها الأبدان. ثمّ رمق كرايتون بنظرة كان من الممكن أن تسحقه.
“منذ متى وأنت مهتمّ بأموري؟ ومن أين سمعتَ أنّني قضيتُ أسبوعًا في سرير الزفاف؟”
“هل تشعر بالإحراج؟ هيا، فرانز. أنت و زوجتك في ريعان الشباب—لا حاجة للخجل من هذا …”
فجأةً، أُغلق فم كرايتون الثرثار بإحكام. كانت زهور التوليب بجانب فرانز قد تجمّدت في لحظة.
وضع فرانز بهدوء فنجان الشاي الذي كان يحمله.
كان الشاي داخل الفنجان الخزفيّ الرقيق قد تجمّد بالكامل.
وعندما رأى كرايتون ذلك، ضحك ضحكةً متوتّرة.
“اهدأ، كنتُ أمزح فقط”
“هي لا تعني لي شيئًا.”
“ماذا؟”
“الأميرة الثانية لا تعني لي شيئًا. فلنكفّ عن الحديث عنها”
“هاه. هذا ردّ فعل مبالغ فيه. لماذا؟ هل خيّبت أملك في قدرتها على تحييد مانتك؟”
“…أجل.”
رمقه فرانز بنظرة مشتعلة. و عضّ على أسنانه و تحدّث بوضوح وهو يلفظ كلّ كلمة على حدة.
“فلتصمت.”
***
رفعت إليزيا يدها إلى شفتيها بهدوء. كانت تسير في حديقة الإمبراطورة حين صادف أن سمعت الحديث.
“هي لا تعني لي شيئًا.”
جمّدت كلمات فرانز الواضحة قلبها.
كانت أطراف أصابعها، التي غطّت وجهها، قد فقدت الإحساس وكأنّها تحوّلت إلى جليد.
وبما أنّها وُلدت بمانا ناريّة، فلم تكن تشعر بالبرد إلّا أثناء تحييد مانا فرانز.
لكن الآن، كانت تغمرها قشعريرة أسوأ من أيّ وقت مضى.
“حسنًا، حسنًا. سأصمت. لم أعلم أنّك تكره الأميرة الثانية إلى هذا الحدّ. يا إلهي، لا بدّ أن أخبر غلينا بهذا”
ظلّ كرايتون يثرثر، لكنّ أيًّا من ذلك لم يصل إلى مسامع إليزيا.
حتى بعد أن غادر كرايتون، ووقف فرانز من مقعده، لم تتحرّك إليزيا. لم تستطع.
ابتعد فرانز، وقد أدار لها ظهره، متّجهًا نحو مدخل الحديقة.
ومع تلاشي صورته شيئًا فشيئًا، كان قلب إليزيا ينبض بشدّة لدرجة أنّ صداه دوّى في أذنيها.
وما إن غادر فرانز الحديقة، حتّى خارت قواها وسقطت على الأرض.
كانت يداها المرتجفتان تشدّان على تنّورتها، وهي تفكّر:
‘أسرع ممّا توقّعت.’
لم يكن فرانز قد التقى نيريس بعد.
ومع ذلك، هل سئم من إليزيا بالفعل؟
أم … أنّه لم يكن سريعًا على الإطلاق؟
ارتسمت ابتسامة حزينة على شفتيها وهي تحدّق بشرود في تنّورتها.
‘في الواقع، هذا متأخّر عن المرّة السابقة.’
ففي حياتها السابقة، كان فرانز يكرهها منذ اللحظة الأولى التي التقيا فيها.
لكن الآن، قد مضى شهر على زواجهما. و هذا شهران أكثر ممّا سبق. لذا، لا يُعدّ هذا “سريعًا”.
كانت قد أعدّت نفسها لهذا.
ظنّت أنّها ستكون هادئة.
‘فلماذا … أشعر وكأنّني لا أستطيع التنفّس؟’
فتحت إليزيا شفتيها قليلًا.
كانت عيناها تحترقان. عضّت على شفتيها بقوّة، محاولة كبح دموعها.
فالناس لا يتغيّرون.
تمامًا كما تردّدت هي و تذبذبت، رغم أنّها كانت قد قرّرت الانتقام من فرانز …
لا يزال فرانز يراها شيئًا يُستَعمل و يُرمى.
تمامًا كما في حياتها السابقة.
‘لقد وعدتِ نفسكِ ألّا تخدعي ذاتكِ. كنتِ تعلمين أنّ هذا سيحدث.’
تمتمت إليزيا لنفسها وهي تبتلع دموعها.
فقط بضعة أيام من لطف فرانز كادت أن تزعزعها.
وبغباء، ظنّت أنّ فرانز في هذه الحياة سيكون مختلفًا.
وأنّها ربّما لن تحتاج للانتقام منه.
‘حمقاء.’
وبّخت نفسها.
حتى ولو للحظة، كانت قد تأمّلت. يا لها من حمقاء مثيرة للشفقة.
تسرّبت دموعها إلى تنّورتها. و ظلّت تحدّق بشرود في قطرات الدمع المتساقطة على القماش.
‘أنتَ … ستكون تعيسًا. تمامًا كما عانيتُ أنا وأنا أحبّك.’
انكمش وجه إليزيا بالألم.
كانت كلماتها الأخيرة في حياتها السابقة—حين لفظت أنفاسها الأخيرة بين ذراعي فرانز، مطعونة بسيفه—تضربها الآن كصفعة.
لقد كانت يائسة. بائسة.
فلماذا حاولت نسيان ذلك الألم؟
ظنّت أنّ ندمًا واحدًا يكفي. يا لسذاجتها.
***
“إليزيا ، أنتِ—هل تحاولين التلاعب بي؟ لولا الرابطة بين أرواحنا ، لكنتُ قد جرّدتُك من لقبك منذ زمن!”
***
هل عليها أن تتلقّى تهديدًا آخر بعزلها لتستفيق أخيرًا؟
هل ستستمرّ في تكرار الخطأ نفسه في هذه الحياة الثانية، متمسّكة بذلك الأمل الأحمق؟
اتّسعت عينا إليزيا.
لن تسمح بحدوث ذلك مرّة أخرى.
‘لن أتردّد بعد الآن.’
عضّت على شفتها بقوّة. تشقّقت وبدأ الدم يسيل، لكنّها لم تتراخَ.
وكأنّها تعاقب نفسها على تبلّدها تجاه الألم، لم تتوقّف حتّى مع سيلان الدم على ذقنها.
***
“آه يا عزيزتي، لقد جرحتِ شفتكِ، يا زوجة الأمير الثاني.”
“أنا بخير، جلالتكِ.”
ابتسمت إليزيا للإمبراطورة ابتسامة خافتة ردًّا على نظرتها القلقة. نظرت الإمبراطورة إليها بتمعّن، ثمّ تنهدت بعمق.
“لا تبدين على ما يُرام أيضًا. أظنّكِ لم تنامي جيّدًا؟”
“أعتذر لأنّني أقلقتُكِ.”
وبعد اعتذارها الرسمي، جلست إليزيا إلى جانب الإمبراطورة. فتقدّمت إحدى الوصيفات وأعادت ملء فنجانها.
“الشاي الساخن سيزيد من ألم شفتيكِ. ناديا، قدّمي لها شايًا مثلّجًا بدلًا من ذلك.”
“حاضر، جلالتكِ.”
ظلّت إليزيا تحدّق بشرود في هذا التبادل.
كان عليها أن تشكر الإمبراطورة.
لكن إن فتحت فمها، قد تبدأ بالبكاء دون توقّف.
شعرت وكأنّها بالون على وشك الانفجار. وكان أقصى ما تستطيع فعله هو الحفاظ على ملامح محايدة.
“كان عليّ أن أدعكِ ترتاحين أكثر. يبدو أنّني استدعيتكِ من دون داعٍ.”
“…لا أبدًا.”
تمكّنت بالكاد من إخراج الردّ، وحنجرتها تختنق. نظرت الإمبراطورة إلى الوصيفة الواقفة خلف إليزيا —سارا.
“لقد أخبرتكِ أن تُطلِعيني فورًا إن احتاجت زوجة الأمير الثاني إلى شيء. لمَ لم تفعلي؟”
رمشت إليزيا و نظرت إلى سارا. كانت الإمبراطورة قد استدعت سارا أوّلًا ، حتى قبل إليزيا.
كانت قد ظنّت أنّ ذلك لإعطائها تعليمات ، لكن يبدو أنّ الإمبراطورة استدعتها فقط لتتأكّد من أنّها تعتني بـإليزيا جيّدًا.
انحنت سارا بعمق، مرتبكة.
“أعتذر بشدّة، جلالتكِ. لقد قصّرتُ في الاهتمام بحالة سموّها. لن يتكرّر الأمر.”
“لا تعتذري لي—اعتذري لسيدتكِ”
وعندما انحنت سارا لتعتذر، أومأت الإمبراطورة بلطف. ثمّ اقتربت سارا من سيّدتها.
“أنتِ وصيفتها الشخصيّة من بيتها الأمّ. عليكِ أن تكوني أكثر اهتمامًا من غيرك. فالتأقلم مع الحياة في القصر ليس بالأمر الهيّن أصلًا.”
“سآخذ ذلك بعين الاعتبار، جلالتكِ.”
ابتسمت الإمبراطورة بلطف، ثمّ أشارت إلى ناديا.
أخرجت ناديا رزمة صغيرة من كمّها وقدّمتها إلى سارا.
صدَر عنها صوت خافت—يبدو أنّها كيس من الجواهر.
وعندما كشفت ناديا عن محتوياتها، تراجعت سارا خطوة إلى الوراء، متّسعة العينين.
“جلالتكِ، هذا أكثر ممّا أستحقّ!”
“إذًا فأنتِ لستِ طمّاعة.”
أمالت الإمبراطورة رأسها.
“لكنّها مجرّد هديّة بسيطة. كوصيفة لأحد أفراد العائلة الملكيّة، عليكِ أن تمتلكي شيئًا كهذا على الأقلّ”
“لكن مع ذلك …”
“سارا،”
تكلّمت إليزيا بلطف، وقد عاد صوتها إلى هدوئه.
وثبّتت نظرها على بروش الياقوت الأزرق.
“سيكون من غير اللائق رفض لطف جلالتها. تقبّليه بامتنان”
تسلّمت البروش من ناديا و قالت برقة: “كان عليّ أن أعتني بكِ أكثر. أعتذر لأنّني سبّبتُ القلق لجلالتها. لقد كنتُ مثقلة بمحاولتي التأقلم مع حياة القصر”
انحنت سارا بعمق، وقد تأثّرت بلطف إليزيا.
“لا”
أشارت لها إليزيا أن تقترب، ثم ثبّتت البروش على صدرها.
“في المرّة القادمة، سأهديكِ واحدًا بلون يناسب عينيكِ الجميلتين. جلالتها محقّة—فوصيفة زوجة أمير يجب أن تمتلك شيئًا كهذا على الأقلّ”
“…نعم، سموّكِ.”
أجابت سارا بهدوء، وهي تلمس البروش على صدرها.
ابتسمت لها إليزيا عندما رأت احمرار وجهها.
وقد غمرها دفء خفيف وهي ترى سارا سعيدة.
وتذكّرت مجدّدًا كم كانت الإمبراطورة عطوفة حقًّا.
فقط منذ لحظات، كانت إليزيا تعيش دوّامة من المشاعر بسبب فرانز، لكن دفء الإمبراطورة كان كافيًا لتهدئتها.
في حياتها السابقة، لم تترك إليزيا انطباعًا جيّدًا لدى الإمبراطورة.
إذ كانت محصورة في قصر بعيد، بالكاد ترى فرانز، ناهيك عن الإمبراطورة.
لم ترها إلّا من بعيد في المناسبات الرسميّة.
ولذا، لم يكن لديها أيّ وسيلة لتقترب منها أو تطلب عونها.
لو أنّها تمكّنت من ذلك، لربّما كانت قد نجت من عيشة العزلة المقيتة.
التعليقات لهذا الفصل " 38"