تبعت إليزيا باتريشيا إلى غرفة الاستقبال، وعضّت على شفتيها.
كان فرانز واقفًا هناك في غرفة الاستقبال المتواضعة في قصر أمبروز—مكان لا يُقارن بعظمة القصر الإمبراطوري.
تسلّل ضوء الشمس من النوافذ العالية، متناثرًا كغبار ذهبيّ على شعره، مضيئًا وجهه الأنيق الخالي من العيوب.
جذعه المنتصب، المشكَّل من سنوات التدريب العسكريّ، و ساقاه الطويلتان كانتا ملفوفتين في زيٍّ بحريّ ناصع، لا تجعيدة واحدة عليه.
لو جُمعت كلّ كنوز العالم وجماله ونُحتت في شكل رجل، لخرج شكله هكذا.
ولو صيغ كلّ غرور العالم في هيئة بشر، لخرج شكله هكذا أيضًا.
“لقد أحضرتُ السيدة و صاحبة المنزل” ، أعلن كبير الخدم رسميًّا.
استدار فرانز، الذي كان واقفًا مستقيمًا، برشاقة فور سماعه الصّوت.
“البارونة أمبروز. الليدي أمبروز.”
“تحيّة لجلالتك ، صاحب السمو الأمير الثاني. لِتَحلّ مجدُ الشّمس عليك”
“انهضي، من فضلك.”
صوته البارد الرشيق. ابتلعت إليزيا ريقها بهدوء—فذات يوم ، كان صوته وحده يجعل قلبها يرتجف.
“الليدي أمبروز.”
حين ظلّت إليزيا منحنية في صمت، مدّ فرانز يده نحوها.
حدّقت في يده المغطاة بالقفاز الأبيض، بلا حركة.
في حياتها السابقة، كانت ستشعر بالامتنان الشديد لمجرّد تلقّي يده.
لكن الآن، بالنسبة لها، هو قاتل. خائن.
‘لم أتوقّع أن أواجهه بهذه السرعة.’
كانت تبغضه. بقدر ما أحبّته من قبل، كرهته الآن—أرادت أن تمسكه من ياقة سترته، أن تصفعه، أن تصرخ في وجهه.
إن كان يكرهها، فلماذا لم يقل ذلك؟ لماذا استنزفها و قتلها؟
لكن هذا الـ فرانز لم يكن يعرف الماضي. لم يكن لغضبها مكانٌ يُصبّ فيه.
لذا تجاهلت يده الممدودة، ونهضت بنفسها.
أنزل فرانز يده بصمت حين استقام جسدها وشيح بنظره.
رفعت إليزيا ذقنها قليلًا حين لاحظت الشرخ الطفيف في ملامحه المصقولة.
‘ماذا؟ هل كنتَ تتوقّع أن يُغمى عليّ؟ لم تُتجاهَل من قبل ، أليس كذلك؟’
كأمير ثانٍ، لم يُحتمل أن يكون قد تعرّض للتجاهل من أحد.
لكن هذا كان ماضيًا. إليزيا كانت تخطّط لأن تعامله تمامًا كما عاملها—ببرودٍ ولا مبالاة.
تمامًا كما فعل.
“أتيتُ لأصطحبكِ.”
“شكرًا لكَ على هذا العناء، يا صاحب السمو.”
أجابت بفتور، وهي تقبض على معصمها الأيسر.
أوّل ما فعلته عند استيقاظها لم يكن التحقّق من الزمان أو المكان، بل فحص معصمها.
في حياتها السابقة، كان مغطّىً بالندوب.
تلك العلامات المقزّزة والقبيحة جلبت لها الكثير من الدموع … والكثير من الازدراء.
«أذيتِ نفسكِ مجددًا؟ ابقي محتجزة حتى إشعارٍ آخر»
كان فرانز مشمئزًّا—و عاقبها.
لكنّه كان مخطئًا. لم تؤذِ نفسها أبدًا.
حاولت إليزيا أن تشرح ، لكنه لم يصدقها.
وما هو أسوأ، أنّه حبسها في الجناح البارد وكأنها مجرمة.
لو أنه فقط استمع مرّة واحدة—لو صدّق أن ألمها جاء منه—ربّما كانت لتبكي أقلّ.
لكنه سخر من كلماتها باعتبارها أعذارًا بائسة.
كل تلك الندوب التي اتّهمها بها؟ كانت بسببه هو.
بدأ كلّ شيء بعد ستة أشهر من الزواج، بعد لقائهما السادس.
كلّ مرّة يتلامسان فيها لتحييد المانا، كانت تظهر على معصمها خدوش حمراء—عميقة، خشنة، وكأنها جروح سكين.
لأنّ ذلك كان الجزء الوحيد الذي يلمسه.
لتحييد المانا ، عليهما أن يمسكا معصمي بعضهما.
و كانت ماناه تترك آثارًا على بشرتها.
حين حدث ذلك لأوّل مرّة، زارها فرانز مصدومًا—لأوّل مرّة منذ ليلة الزفاف.
لكن حين رأى تعبيرها المطمئن، عبس، وظنّ أنّها أحدثت الجروح لجذب الانتباه.
ومنذ ذلك الحين، تكرّر الأمر.
كلّ لقاءٍ بينهما، كان يترك آثارًا مؤلمة على معصمها.
وكلّ مرّة، كان يضحك.
رؤيته يتجاهلها شجّع النبيلات و الخادمات على السخرية منها.
«إنها فلاحة الأصل، لذا حِيَلها … فريدة»
«عليها أن تقضي وقتًا أقلّ في جرح نفسها ووقتًا أكثر في إصلاح وجهها»
«وما الفائدة؟ زوجها أجمل منها!»
تحمّلت إليزيا كلّ تلك الإهانات بصمت. لم تتوقف السخرية—حتى حين بدا أن معصمها سينفجر من الألم.
في لحظة ما، صار قرب فرانز يعني الألم فقط.
ومع ذلك، بقيت—لأنّها ظنّت أنّ ذاك الألم هو الحب.
مجرّد كبرياء عنيد. حماقة.
‘هذه المرّة، لن أدع تلك الجروح تظهر مجددًا.’
حين مرّرت إليزيا يدها على معصمها، تبعها نظر فرانز.
كان الجو لا يزال دافئًا، ومعصمها مكشوف تمامًا.
“إليـ …”
“بما أنك أتيتَ إلى هنا، هل ترغب بالبقاء لتناول الطعام؟”
قاطعت باتريشيا بحماسة.
“يمكننا إعداد وليمة فورًا!”
لكن فرانز هزّ رأسه بخفّة.
“إنّهم بانتظار الليدي أمبروز في القصر. علينا المغادرة فورًا. شكرًا لكِ، يا بارونة.”
“…بالطّبع، يا صاحب السمو.”
“إذًا، الليدي أمبروز. هل نذهب؟”
مدّ فرانز يده مجددًا، وكأنّه يَقيها من نظرات باتريشيا.
حدّقت إليزيا في يده.
تلك اليد—التي كانت تُقدَّم لها مرّة واحدة في الشهر فقط، أثناء تحييد المانا.
والآن يمدّها مرّتين في يومٍ واحد. ما الذي تغيّر؟
“نعم.”
أجابت بأدب ، و أخذت يده.
حتى من خلال قفازها، تسلّل برده إليها.
كانت باردة كالثلج. لا بدّ أن ماناه بدأت تفيض بلا سيطرة.
لطالما عُرفت عائلة أوستاس بقوّة مانتهم.
بغضّ النظر عن العنصر—الضوء، الظلام، النار، الجليد، الرياح—كانوا بحاجة إلى شخص متوافق لتحييدها.
وإلا، فستلتهمهم المانا.
في الإمبراطوريّة، كان التوافق المثالي يُدعى “رابطة الأرواح”. و كان ذلك بالغ الأهميّة.
تحييد المانا لا يتطلّب سوى تلامس بسيط. لكن كلّما قلّ التوافق ، زادت الآثار الجانبيّة—حتى الموت.
كان الأمير الأول ، كريتون ، متوافقًا تمامًا مع زوجته غلينا.
لكن فرانز لم يجد ذلك التوافق طوال حياته.
لذا، سعت العائلة الإمبراطوريّة بيأس للعثور على شريكة تناسب ماناه.
حتى الآن، كان فرانز يُبقي ماناه تحت السيطرة بقوّة إرادته فقط. لكنّه بلغ الحدّ—و نوبته الأولى ، علامة على قرب الهلاك ، قد بدأت.
لذا نظّمت الإمبراطورة حفلاً ضخمًا للبحث عن شريكة مناسبة لابنها الثاني.
و كانت إليزيا من بين النبيلات المدعوّات.
في ذلك الحين، كانت مليئة بالأمل—تحلم بلقاء الأمير الثاني الوسيم.
لكن ما استقبلها لم يكن هو … بل حجر مانا.
رفض فرانز لقاء أيّ شخص شخصيًّا.
بدلًا من ذلك، تواصلوا مع حجر يحمل جوهره.
بسذاجة ، فكّرت: ‘لا بدّ أنّه رقيق وحسّاس.’
لكن بالنظر للوراء ، كان مجرّد مُصاب برُهاب الجراثيم.
على أيّ حال ، توافقت إليزيا تمامًا مع حجر المانا.
فتمّ اختيارها لتكون عروس الأمير الثاني.
‘لو أنني عدتُ شهرين أبكر فقط…’
لو فعلت، لكانت تجاوزت الحفل تمامًا.
لكنها استيقظت بعد أن تمّ كلّ شيء. و بحلول ذلك الوقت ، كانت تحضيرات الزفاف قد بدأت.
العزاء الوحيد … أن جسدها لم يكن يحمل أيّ ندبة الآن.
“لنذهب” ، قال فرانز، يحثّها على المسير.
نظرت إليه إليزيا ببرود.
‘لماذا أتى بنفسه؟’
في حياتها السابقة، كان فرانز ينتظرها في القصر.
أما في هذه الحياة، فيبدو أنّه أكثر نفادًا للصبر.
على الأقل في السابق، انتظر حتى الحفل.
بهذا المعدّل، قد تضطرّ للتظاهر بتحييد ماناه في العربة.
‘هذه المرّة، أنتَ من سيشعر بالخيانة، يا فرانز.’
وحين رمقت ملامحه المصقولة، ارتسمت ابتسامة خافتة على شفتيها.
كانت ذاهبة إلى القصر لهدفٍ واحد: الانتقام.
ستتظاهر فقط بتحييد ماناه. في البداية ، لن يلاحظ.
لكن في النهاية ، حين يبدأ قلبه بالتصلّب ، و جسده بالتجمّد—سيدرك.
أنّ ماناه لم تُحيَّد أبدًا.
وحينها، سيكون قد فات الأوان.
إن ساعدتها السّماء، سيموت قبل أن يلتقي عشيقته، الليدي نايريس.
ندم فرانز سيأتي متأخّرًا عن طلب الغفران.
ولن تمنحه إيّاه.
همّها الوحيد كان: هل ستتمكّن من مواصلة الخداع لعامين؟
إن اكتشف الأمر مبكّرًا ، فسيفسد كلّ شيء.
مجرد حجب ماناها لن يكون كافيًا. إن شكّ بها … قد ينهار كلّ شيء.
عليها أن تجد طريقة جديدة لتنفيذ لعنَتِها—التي على الأرجح اختفت حين عاد الزمن.
‘لا يزال لديّ وقت. لا حاجة للاستعجال.’
حين خرجت من القصر، أخذت إليزيا نفسًا عميقًا.
وبينما كانت تقترب من المدخل، تعالت صرخة رجاليّة:
“ليز!”
ركض شاب نحوها بابتسامة مشرقة.
شعره الفضيّ وعيناه الرماديتان الباهتتان، المختلفتان عن ملامحها، كانتا تُشبهان باتريشيا.
“… كاليب؟”
ضيّقت إليزيا عينيها وهي تنظر إلى أخيها غير الشقيق.
ولم تلاحظ العبوس الطفيف الذي ارتسم على جبين فرانز حين نطقت اسم كاليب بشفتيها.
التعليقات لهذا الفصل " 3"