ضمّ فرانز شفتيه في خطٍّ رفيع وهو يُراقب ظهر ليندن يبتعد نحو بيليسا.
تنفّس بعمق وهو يشاهد ليندن يُحادث زوجته بمودّة.
كان ليندن بارعًا في التعامل مع الناس. و قد حاول فرانز دائمًا ألّا ينجرف خلفه. لكنّ الأمر كان صعبًا اليوم.
هزّ فرانز رأسه، دون أن يُخفي استياؤه.
فقد بدأت أجواء قاعة الوليمة تزداد بهجةً واحتفالًا.
عدّل هيئته وسار عبر القاعة.
بعكس قلبه المثقل، كان الجوّ الحيويّ والمليء بالحماسة يُشعره بالضيق.
بعد أن أتمّ العروسان رقصتهما الأولى، تُرك الباقي للضيوف.
لم تكن هناك مهمّات أخرى متبقّية على فرانز.
كلّ ما تبقّى للعروسين هو إتمام الزفاف.
لا بُدّ أنّ إليزيا كانت تعرف ذلك، ولهذا غادرت مقعدها.
بوجهٍ متوتّر، خرج فرانز من القاعة. ففتَح الحراس الواقفون عند الأبواب الضخمة أبوابها بسرعة عند اقتراب الأمير.
استدار عن قاعة الوليمة المضيئة ببهرجة، فامتدّ أمامه ممرٌّ خافت الإضاءة.
بدأ فرانز يسير ببطء في الرواق المُضاء بضوء الشموع.
لم يكن يُسمَع سوى وقع خطواته يتردّد عبر الممرّ.
وعند منتصف الطريق تقريبًا ، سُمِع نسيمٌ خفيف.
بدأ ضوء القمر ينساب عبر النوافذ التي تصطفّ على جانب الممرّ.
نظر فرانز إلى الخارج.
فقد انقشعت الغيوم الكثيفة، وظهر القمر ساطعًا.
“…سُموّك.”
تمامًا حين ثبتَت نظراته على الغيوم المتحرّكة والقمر، جاءه صوتٌ هادئ من خلف أحد الأعمدة.
استدار فرانز ببطء، وكأنّه معتادٌ على هذا.
“هل انتهيتَ من التحقيق بالفعل؟”
“لم يكن هناك ما يستدعي التحقيق أصلًا.”
ابتسم هارون واقترب من فرانز.
كان يرتدي اليوم عباءة رماديّة داكنة كلون الغيم.
لو تراجع بضع خطوات، لاختفى في الظلال.
“لم يكن هناك أيّ تحرّك غير اعتياديّ في أمبروز اليوم. بدا البارون منشغلًا في التعامل مع الأمطار الغزيرة”
“لقد ذكرتَ أمطارًا شديدة.”
“نعم، فقد انهار جزءٌ من سور المدينة، وكان البارون يُكافح لإصلاحه.”
توقّف هارون عن سرده، وأمال رأسه متأمّلًا في وجه فرانز.
عبس فرانز تحت نظراته المُلحّة.
“ما الأمر؟”
“أنتَ لستَ كما توقّعتُك.”
“وماذا كنتَ تتوقّع؟”
“بعض التوتّر أو الحماسة؟ كعريسٍ في ليلة زفافه؟”
قطّب فرانز جبينه باستياء من مزاح هارون.
“هل تعلّمتَ هذا الهراء من ليندن؟”
وعندما ردّ عليه فرانز بحدّة، حكّ هارون خدّه بخجل.
“إذًا حتّى الدوق يظنّ أنّ سموّك لا يبدو كعريسٍ اليوم.”
“أنتَ فضوليٌّ أكثر من اللزوم.”
“ألن تذهب إلى غرفة العروس؟ هذا الطريق يُفضي إلى المكتب ، لا إلى غرفة النوم.”
تجمّد وجه فرانز عند ملاحظة هارون الدقيقة.
لقد أصابت هدفها.
تنهّد هارون.
“لإتمام الرابطة الروحيّة، عليك إتمام الزواج. ألا تذكر ذلك؟”
تحوّل صوته، الذي كان يعبق بالمزاح، إلى نبرةٍ جادّة.
“أنتَ تعرف تمامًا أنّ مفعول الجرعة يشارف على نهايته”
“هل فحصتَ القلادة؟”
“هم؟ آه—تلك القلادة الماسيّة التي أهدتها إيّاها جلالة الإمبراطورة؟”
رمش هارون، وقد ارتبك للحظة من تغيّر الموضوع المفاجئ.
“ليست حجر مانا. ماسةٌ نقيّة. ولا توجد عليها أيّ تعويذة سحرية.”
“جيّد.”
تمتم فرانز وهو يفرك جبهته.
وحين استدار، وقف هارون في وجهه.
“إن كنتَ قد أضعتَ طريقك إلى غرفة النوم، يُمكنني أن أُرشدك.”
“هارون.”
“حسنًا، حسنًا. لا داعي للغضب. فذلك يُربك طاقتك”
رفع هارون يديه بلامبالاة. حدّق فيه فرانز ثم عضّ شفته.
ثمّ أدار رأسه في الاتجاه الآخر—اتّجاه غرفة نوم الأمير.
“سأُتمّ الزواج. فقد أصبحتْ زوجتي لهذا السبب”
“هكذا هو الكلام”
تبع كلمات فرانز الحاسمة ضحكةٌ خافتة.
أطلق فرانز تنهيدةً ثقيلة.
وحين همّ بالكلام من جديد، كانت عباءة هارون الرماديّة قد اسودّت كظلّ، واختفى جسده كدخان.
***
وقفت إليزيا بتوتّر داخل غرفة نوم الأمير الثاني.
لقد جاءت إلى هنا لإتمام الزفاف. كان ذلك مبكّرًا قليلًا، لكنّها لم تكن تملك خيارًا بسبب إلحاح بيليسا المستمرّ.
كانت بيليسا تصرّ على أنّه من الأفضل الانتهاء من الأمر بسرعة. فليلة الزفاف لن تدوم طويلًا.
لم تكن إليزيا موافقة، لكنّ إلحاح بيليسا دفعها إلى الحضور على أيّ حال.
رمقت الغرفة بنظرات خافتة.
كانت غرفة النوم مهيّأة تمامًا للعروسين.
ستارة شفّافة مُدلّاة من السقف تُظلّل السرير ، و بتلات وردٍ حمراء مبعثرة على الشراشف.
وكان الهواء مُشبَعًا بعطر الورود.
توهّج ضوء الشموع بلونٍ كهرمانيّ ، و امتزج بضوء القمر الشاحب ليُنير الغرفة.
كلّ شيء كان مطابقًا تمامًا لحياتها السابقة.
حتّى النافذة المفتوحة قليلًا و الستائر المتمايلة.
الاختلاف الوحيد كان الكتاب الذي بين يديها.
فقد ذهبت إلى المكتبة قبل المجيء إلى غرفة النوم ، و اختارت أضخم كتابٍ استطاعت العثور عليه.
لم تنظر حتّى إلى عنوانه.
ما كان يهمّها هو كم من الوقت سيشغلها.
كتابٌ بهذا السُّمك يجب أن يكفيني طوال الليل.
وضعتْه على الطاولة بهذه الفكرة في ذهنها.
بعد إتمام الزفاف، على الأرجح سيغادر فرانز مباشرة.
و ستُترك وحدها لتتحمّل الليل الطويل—وكانت بحاجة إلى شيء يُؤنس وحدتها. سيكون الكتاب رفيقها.
مدّت يدها الشاحبة تمسح الغلاف الصلب برفق.
لسنتين قادمتين، ستقرأ إليزيا عددًا لا يُحصى من الكتب.
بعدد الليالي التي ستقضيها وحيدة.
“متى جاءني فرانز مخمورًا؟”
مرّرت أصابعها على الحروف الذهبيّة على الغلاف ، غارقة في التفكير.
لم يكن إتمام الزواج بحدّ ذاته هو المهمّ.
ما جرى تلك الليلة كان مجرّد إكمال للرابطة الروحيّة.
الأهمّ كان الليلة التي أصبحتْ فيها حاملًا.
تلك كانت الليلة التي يجب تجنّبها بأيّ ثمن.
لقد أرادت طفلًا—وفي الوقت نفسه، لم تكن تريده.
فإن لم يكن بالإمكان تغيير المصير، فخسارة الطفل ستكون حتميّة.
وإن كانت محظوظة، لربّما استطاعت حمايته.
ربّما إن رفضت زيارة السيّدة روشاناك ، أو تجنّبت النزول على الدّرج معها ، فلن تُجهض.
لكن لا شيء من ذلك كان مؤكدًا.
ولم تكن إليزيا ترغب في المخاطرة بحياة طفلها.
إن كان هناك احتمالٌ لخسارته ، فهي لا تريده أصلًا.
لا تريد أن تُعذَّب بأملٍ كاذب.
خسارته مرّة واحدة كانت كافية.
جلست على حافة السرير و أغمضت عينيها بقوّة.
أرادت الخروج من هذه الغرفة بأسرع ما يمكن.
كانت تعرف تمامًا ما سيحدث لاحقًا—و كان يبعث على الاشمئزاز.
سيدخل فرانز، مخمورًا. سيمزّق ثيابها ويأخذها بعنف.
لن يُبالي بمشاعرها. ستكون ليلة قاسية.
ستبكي من الذلّ و الألم. حتّى لو توسّلت إليه أن يتوقّف ، فلن يفعل—إلى أن ينال ما جاء من أجله.
وبمجرّد أن ينتهي، سيتركها دون تردّد.
وسيُغادر، تاركًا إليزيا وحدها في الغرفة الباردة.
“لا بأس. لقد عشتُ هذا من قبل. ليس بشيء.”
احتضنت نفسها بقوّة.
رغم أنّ فرانز لم يصل بعد، إلّا أنّها كانت تشعر و كأنّ الأمر قد بدأ فعلًا. كان ذلك مفزعًا.
ما كانت تكرهه أكثر من رؤية فرانز مجدّدًا في عودتها إلى الماضي … هو علمها بأنّها ستُضطرّ لمشاركته جسدها من جديد.
أنّها ستُضطرّ لإعادة عيش تلك الليلة المرعبة.
بدأ جسدها الهزيل يرتجف.
حاولت تهدئة نفسها مرارًا وتكرارًا—لكنّ الخوف لم يُفارقها.
“أريد أن أهرب.”
فتحت عينيها على اتّساعهما.
الهرب.
نعم ، يُمكنها أن تهرب.
لماذا لم تفكّر في ذلك من قبل؟
لم تستطع تجنّب الزفاف—لكن ربّما يُمكنها تجنّب هذه الليلة.
إن استطاعت فقط تجاوز الليلة، فلن تضطرّ لتحمّل ليلة أخرى مرعبة.
الوعد الذي قطعته لفرانز غرق تحت وطأة الرعب.
لم تعد تتذكّره حتّى.
قفزت إليزيا واقفة.
وحين نهضت من السرير، تناثرت بتلات الورود وتطايرت.
تساقطت الورود القرمزيّة حول فستانها بلون المشمش.
دهستها بخطواتها وهي تتّجه نحو الباب.
كان قلبها ينبض بعنفٍ كلّما اقتربت.
بلعت ريقها بمرارة، ومدّت يدها نحو المقبض.
فتحت الباب—واتّسعت عيناها.
كان فرانز واقفًا هناك.
عيناه الذهبيّتان، وقد أصبحتا عميقتين داكنتين، تطلّان عليها من علوٍ.
غرقت إليزيا في اليأس.
لم يعد هناك مفرّ.
لقد بدأت ليلة الزفاف.
التعليقات لهذا الفصل " 29"