شعرت وكأنّ الزمن توقّف.
في قاعة الوليمة الواسعة، بدا وكأنّ فرانز و إليزيا فقط موجودان. لم يعد بمقدورها سماع موسيقى الأوركسترا.
هل كان الأمر هكذا في المرّة السابقة أيضًا؟
تساءلت إليزيا بشرود وهي ترقص، يقودها فرانز.
لم تستطع التذكّر بوضوح.
ربّما لأنّ الرقصة مع فرانز في المرّة السابقة انتهت بسرعة شديدة.
وإذا كانت ذاكرتها العنيدة المعتادة، التي لا تنسى أدقّ التفاصيل عن فرانز، لا تحمل شيئًا عن تلك الرقصة، فلا بدّ أنّها كانت وجيزة.
“هل تُعجبكِ رقصة الفالس؟”
انتُزعت من أفكارها، فرفّت إليزيا بعينيها دهشة من همسة فرانز.
وبلا وعي، شدّت قبضتها على كتفه.
وصدى الفالس الخافت بات واضحًا في أذنيها.
“لا.”
وفور إجابتها، توقّفت الأوركسترا عن العزف.
لقد انتهت الأغنية الأولى.
وسحبت إليزيا يدها من يد فرانز فورًا، وكأنّها كانت تنتظر تلك اللحظة.
“أنا لا أحبّها.”
وحين حاولت إليزيا التراجع، مدّ فرانز يده نحوها.
لكن قبل أن تلامسها يده، استدارت إليزيا مبتعدة.
“إليـ—”
“مبارك لكما زواجكما، يا صاحب السمو الأمير الثاني، و صاحبة السمو زوجته.”
“بيليسا، لقد جئتِ!”
تجاهلت إليزيا صوت فرانز المنادي لها، وسارت نحو بيليسا.
شعرت بنظراته الملحّة تخترق ظهرها، لكنّها تجاهلتها عمدًا وتحدّثت بمرح: “شكرًا لحضوركِ.”
“بالطّبع كان يجب أن آتي.”
ابتسمت بيليسا بحرارة وأجابت. وأمسكت إليزيا يدها وسارت معها نحو زاوية قاعة الوليمة.
لقد رقصت رقصة الزفاف مع فرانز في الأغنية الأولى، لذا فقد انتهى دورها في الحفل. لم تعد مضطرّة للتعامل معه.
على الأقلّ، حتّى ليلة الزفاف.
“هل يمكنني أن أترك سموّ الأمير الثاني لكِ؟”
سألت بيليسا، وهي تلقي نظرة نحو فرانز، الذي لا يزال يحدّق في إليزيا.
نظرت إليه إليزيا. لا تزال نظراته مثبتة عليها، وتعبيره الغامض يصعب قراءته.
“لا يمكنني أن أُثقله أكثر من هذا.”
لوّحت إليزيا بيدها وأبعدت نظرها.
“هناك كثير من الشابّات اللواتي يردن التّقرّب من الأمير الثاني غيري. هل أحتكره وحدي؟”
قالت ذلك بمرح، وغمزت بعينها. وقبل أن تُنهي كلامها، كانت الشابّات قد بدأن بالفعل بالتجمّع حوله.
ضحكت إليزيا بهدوء عندما رأت فرانز يبدو محرجًا أمامهنّ.
وحين رأى ابتسامتها، تجلّت الصّرامة في عينيه.
بدا وكأنّه قلق.
تردّد وكأنّه لا يستطيع كبح رغبته في الاقتراب منها.
وفي النّهاية، حاول أن يشقّ طريقه بين الشابّات، لكن أوقفته سيّدة نبيلة.
فكّرت إليزيا ببرود و هي تراقبه:
لا يمكنه أن يتجاهل الضيوف الذين يهنّئونه.
ستتركه يتعامل مع السيّدات النبيلات والشابّات. كانت تريد أن تستمتع بلحظات حريّتها الأخيرة قبل أن يحلّ الظلام.
“كان زفافًا جميلًا بحقّ. نات أرادت أن تأتي أيضًا.”
“لماذا لم تأتِ الآنسة شويلر؟ ظننتُ أنّها ستفعل.”
حاولت إليزيا أن تُبعد تفكيرها عن فرانز.
كلّما حاولت تجنّبه، زاد شعورها الغريب بانجذابٍ نحوه.
لذا قرّرت أن تُغيّر أفكارها تمامًا.
“لقد أرسلنا دعوة للشابّات أيضًا.”
“نعم، فعلتم. لكن البارحة أصيبت فجأة بحمّى”
تنهدت بيليسا بقلق، ووضعت يدها على خدّها.
“بكت وقالت إنّها يجب أن تحضر الزفاف، لكن اضطررنا لتركها خلفنا وجلبها لاحقًا”
“هذا مؤسف. هل الحمى شديدة؟”
“لا تقلقي. أظنّ أنّها أصيبت بها من شدّة الحماسة. الأطفال كذلك أحيانًا.”
ابتسمت إليزيا بهدوء.
“من فضلكِ زوريْنا مرّة أخرى مع الآنسة الصغيرة في المرّة القادمة. هل لا يزال الدوق ليندن في دافا؟ سيكون رائعًا لو جاء الجميع.”
“لقد عاد البارحة فقط. لذا حضر الزفاف اليوم أيضًا. هناك—أوه، إنّه يتحدّث مع سموّ الأمير الثاني.”
اتّبعت إليزيا أصابع بيليسا بعينيها.
رجلٌ مهيب، ذو شعرٍ أسود وعيون حمراء، كان يتحدّث مع فرانز.
وقد اختفت كلّ الشابّات اللواتي تجمّعن حول فرانز.
قطّبت إليزيا حاجبيها وهي تنظر إليه.
كنّ قبل لحظة فقط يتجمّعن ليطلبن الرّقصة التالية.
أين ذهبن؟ هل طردهنّ؟
وكأنّها قرأت تساؤل إليزيا ، همست بيليسا بجانبها:
“يا إلهي. يبدو أنّ زوجي طرد كلّ السيّدات مجددًا. بهذا المعدّل، ستكون شريكة الرّقص الوحيدة للأمير فرانز اليوم هي صاحبة السّموّ.”
“لماذا دوق ليندن هكذا؟”
فتحت إليزيا عينيها على اتّساعهما ونظرت إلى بيليسا، التي ابتسمت بخجل وفتحت مروحتها.
“هو لا يفعل شيئًا. لكن حين ينظر بتلك العينين الحادّتين، يفرّ الجميع هاربين.”
“إنّه لا يبدو حادًّا.”
“أنتِ ثاني شخص يقول له هذا.”
“ومن كان الأوّل؟”
ابتسمت بيليسا مازحة و قالت: “أنا.”
ونظرت إلى ليندن بعينين ممتلئتين بالحبّ.
“يبدو باردًا من الخارج، لكن لأنّه بتلك الطّبيعة الغريبة، يصبح أكثر جمالًا.”
“…بيليسا تحبّ الدّوق ليندن حقًّا.”
“أوه، يا إلهي.”
رمشت بيليسا بدهشة أمام إعجاب إليزيا البريء.
ولوّحت بمروحتها مبتسمة بخجل.
“أنا أبدو حمقاء أمام العروس الجديدة، صاحبة السّمو. سامحيني.”
“من الرائع أن أراكِ هكذا. أنا أغار. أن يُحبّ المرء أحدهم بهذا الشكل …”
توقّفت بيليسا عن التلويح ونظرت إلى إليزيا.
بدت الأميرة الثانية و كأنّها تغار بصدق.
رغم أنّها تزوّجت لتوّها اليوم، إلا أنّ تعبيرها كان حزينًا، لا يشبه حديثي الزّواج.
‘زواجٌ سياسيّ، لذا لا يزال الجوّ متوتّرًا’
كوّنت بيليسا استنتاجها الخاص.
فالأميرة الثانية تمّ اختيارها بناءً على تفاعل حجر المانا.
و على الأرجح، لم تكن قد التقت بالأمير فرانز من قبل.
من ابنة بارون ريفيّة إلى عضو في العائلة المالكة بين ليلة وضحاها—قال الناس إنّها محظوظة.
لكن بالنّسبة إليها، التّأقلم مع هذا التّغيير الهائل في البيئة لا بدّ أنّه كان صعبًا. وتعلّم آداب البلاط وحده مهمّة شاقّة.
وفي وضعٍ كهذا، من الصعب أن يكوّن المرء أوهامًا عن شريك الزّواج.
ما لم تكن فتاة ساذجة طفوليّة، وهو ما لا تبدو عليه الأميرة الثانية.
“كنّا متوتّرين في البداية أيضًا. كان ليندن صامتًا، كما تعلمين. مثل سموّ الأمير الثاني”
“فرانز …”
ليس تمامًا صامتًا.
أغلقت إليزيا فمها قبل أن تُعارض بيليسا.
والآن بعد أن فكّرت بالأمر، كان فرانز يتكلّم كثيرًا في هذه الحياة.
في حياتها السّابقة، كانت تضطرّ للتشبّث به والتوسّل إليه فقط لسماع كلمة باردة منه.
أمّا الآن، فهو يتحدّث باستمرار حتّى عن أشياء لم تطلبها منه.
“أنتِ تنادين الأمير الثاني باسمه بالفعل؟ هذه علامة جيّدة”
وحين خفّت نبرة إليزيا، ابتسمت بيليسا ببهجة ووضعت ذراعها بذراعها.
ثمّ أخذتها بيليسا واقتادتها نحو ليندن و فرانز.
“سأعرّفكِ على زوجي. هيا.”
“بيليسا!”
ارتبكت إليزيا وأمسكت بذراع بيليسا. لكنّها كانت مصمّمة.
وفي النّهاية، استسلمت إليزيا ووقفت أمام الرّجلين.
“ليندن، هل حيّيتَ الأميرة الثانية؟”
وبصوت بيليسا الدّافئ، التفت الرجل الحادّ النظرات برأسه ببطء.
كان لنظراته الباردة قوّة هائلة. يحمل هيبة تليق برأس العائلة العريقة التي تدعم إمبراطوريّة لوريت.
“ما الذي تفعلينه؟ بالطّبع يجب أن أحيّيها”
لكنّ بيليسا لم ترَ فيه سوى زوجها. فغمزت جانبه بمرفقها.
انحنى ليندن بجسده قليلًا و كأنّه تذكّر ما عليه فعله.
“أعتذر ، صاحبة السّموّ الأميرة الثانية. مبارك زواجكم. لِيَدم نور الشمس معكم”
“شكرًا. و ليَدم نور الشمس مع الدّوق ليندن أيضًا.”
“عن ماذا كنتما تتحدّثان؟”
سألت بيليسا بمرح، بينما حيّت إليزيا ليندن بارتباك.
نظر ليندن إليها بنظرة دافئة، وكأنّه لم يحمل يومًا تلك النظرة الباردة.
“لا شيء مهم. تحدّثنا عن الطّقس”
“الطّقس؟”
“نعم، الطّقس”
تنحنح ليندن بخفّة و أكمل: “هذا الصّيف لم يكن حارًّا كثيرًا، فتساءلتُ كيف سيكون الصّيف القادم.”
“لم تكن الشّمس حارقة هذا العام، لكن لا نعلم بشأن السّنة القادمة. ما رأيكِ، دوقة؟”
عند سؤال فرانز، تحرّكت عينا بيليسا بخفّة.
“لا أعلم. لكن يا سموّ الأمير، الشتاء لم يأتِ بعد. أليس من المبكر القلق بشأن صيف العام القادم؟”
“من الأفضل الاستعداد مبكّرًا.”
قالها فرانز بلطف لبيليسا.
راقبته إليزيا بدقّة وتحدّثت: “لكي نصل إلى الصيف، علينا أوّلًا أن نجتاز الشتاء جيّدًا. لذا، فكّر أولًا بكيفيّة النّجاة من الفصل المظلم.”
وعند كلمات إليزيا ، التفت فرانز وليندن إليها في الوقت ذاته.
وساد الصّمت بين الأربعة.
ضيّق ليندن عينيه ونظر إلى إليزيا وكأنّه يحاول قراءة أفكارها.
فردت ظهرها ونظرت إليه بثبات.
كان الجوّ مشحونًا بالتوتّر.
ومع توقّف موسيقى الرّقص، وتحوّل أنظار الناس إليهم، انفجر ليندن ضاحكًا فجأة.
التعليقات لهذا الفصل " 26"