ربما لأنّها كانت المرّة الثانية ، بدا الزفاف مملًّا.
في حياتها السّابقة، كانت متحمّسة و متوترة لدرجة أنّ الحفل انتهى قبل أن تدرك ما يحدث أصلًا.
لكن في هذه الحياة، بما أنّها تعرف ترتيب الأحداث، كان الحفل مملًّا على نحو لا يُطاق.
أعلن الكاهن القرار، وتلا الصلوات، وحيّا العائلة الإمبراطوريّة، وأخيرًا استمعوا إلى خطاب التهنئة من الإمبراطورة.
كان إجراءً بسيطًا.
لكن ذلك فقط في حفلات زفاف النبلاء العاديّين.
حتى لو كانت الإجراءات نفسها، فإنّ كونها زفافًا إمبراطوريًّا جعل كلّ شيء جليلًا ورسميًّا.
وبسبب ذلك، طال الحفل كثيرًا.
كلّ طقس استغرق على الأقل ساعة كاملة.
وبينما كانت تعتقد أنّها قد تختنق من الملل، انتهت أخيرًا جميع طقوس الزفاف.
لم يتبقَّ سوى الوليمة و ليلة الزفاف.
“آه …”
تنهدت إليزيا بعمق وهي تخرج من الكنيسة وتدخل قصر الأمير الثّاني، وقد رُفِع عنها الحجاب.
بمجرّد دخولها غرفة النوم، أرادت فقط أن تنهار على السّرير، بغضّ النّظر عمّا تبقّى من أحداث.
وكأنّها قرأت أفكارها، ابتسمت لوسيت بلطف.
“لا بدّ أنّكِ مرهقة من التوتّر. الجميع يشعرون بذلك في يوم زفافهم. تحمّلي قليلًا فقط، صاحبة السّمو”
“أريد فقط أن ينتهي الأمر سريعًا.”
ابتسمت إليزيا ابتسامة مترددة.
لكن الحقيقة كانت مختلفة. كانت فقط تشعر بالملل وتريد الهروب.
لكنها ابتلعت مشاعرها الحقيقيّة و أضافت بأدب: “أنا سعيدة لأنّي اخترت فستانًا مريحًا للوليمة. أشعر بإرهاق بسيط.”
“فستان الزفاف ذو ذيل طويل. ليس من السّهل المشي وأنتِ تجرّين ذلك الذّيل خلفكِ.”
ساعدتها لوسيت بمهارة على تبديل ملابسها و تابعت: “فستان الوليمة ذو تنّورة واسعة، لكنّه مصنوع من قماش الشيفون الخفيف، لذا سيكون أكثر راحة بكثير”
أومأت إليزيا برأسها، وهي تنظر إلى نفسها في المرآة.
فستان الوليمة بلونه الخوخيّ الفاتح أبرز صدرها وخصرها، وانسابت التنّورة تحته باتّساع كبير.
وبارتدائها هذا الفستان، بدت وكأنّها دمية موضوعة فوق كعكة.
“إنّه مريح.”
قالت إليزيا بإعجابٍ صادق.
من الخارج، بدا وكأنّه زيّ مصمّم بعناية، لكنّه كان يراعي الحريّة في الحركة، لذا لم يكن مقيّدًا كفستان الزفاف.
الآن فهمت لماذا يُعدّ محل لوسيت الأفضل في الإمبراطوريّة.
“المعذرة، صاحبة السّمو. سموّ الأمير الثاني بانتظاركِ”
بينما كانت إليزيا تضع عقد الألماس الذي أهدته الإمبراطورة، التفتت بنظرها نحو الصوت القادم من خلف الباب.
وحين التفتت، اقتربت سارا سريعًا إلى عتبة الباب.
“ستأتي قريبًا. لحظة فقط.”
“قال سموّه إنّه سيأتي بنفسه ليصطحبكِ. كيف أبلّغه؟”
“حسنًا …”
كانت سارا تتحدث مع إحدى الخادمات عند الباب ، ثمّ نظرت إلى إليزيا. و ما إن سمعت “الأمير الثّاني” ، حتى أظلمت عيناها.
وقرأت سارا تعابير وجه إليزيا، فقالت بلطف للخادمة: “أليس هذا غير ضروري؟ سموّه عليه أن يحيّي الضيوف. لا تقلقي. سنرافق صاحبة السموّ كما ينبغي.”
وبينما كانت سارا تتحدث إلى الخادمة، قامت لوسيت بتعديل عقد إليزيا.
نظرت إلى إليزيا بإعجاب وتحدّثت بإخلاص: “أنتِ أجمل عروس رأيتها في حياتي. لا شكّ أنّ الأمير الثّاني سيقع في حبّكِ من جديد.”
“شكرًا لكِ.”
أجابت إليزيا بابتسامة باهتة على مجاملة لوسيت.
لم تكن ترغب في أن تبدو جميلة في نظر فرانز.
لكن لم يكن بإمكانها قول ذلك بصوتٍ عالٍ. لذا أخفت مشاعرها الحقيقية خلف قناع من الابتسامات.
من الآن فصاعدًا، عليها أن تعيش بهذه الطريقة مرارًا وتكرارًا—إخفاء ذاتها الحقيقيّة.
وكان عليها أن تعتاد على ذلك في حياتها الثانية.
***
“صاحبة السّموّ الأميرة الثانية تدخل!”
حينما دخلت إليزيا إلى قاعة الوليمة، ضرب أحد الحراس رمحَه على الأرض وهتف.
استدارت كلّ الأنظار في القاعة نحوها. نظرات من الفضول والعداء والإعجاب امتزجت وجعلتها تشعر بالدوار.
لكن إليزيا مشت إلى الأمام بتعبيرٍ لا مبالٍ.
لقد اعتادت على تلك النظرات. الفتاة المتوتّرة، المتصبّبة عرقًا، التي لم تكن تعرف ما تفعل، اختفت.
“الأميرة الثانية.”
خرج رجل من بين الحضور، وانحنى بأدب أمام إليزيا.
“كنت على وشك القدوم إليكِ.”
نظرت إليه إليزيا بهدوء.
كان يبدو فخورًا بمناداتها “الأميرة الثانية”.
فهو الآن زوجها رسميًّا ابتداءً من هذا اليوم.
ابتسم فرانز ابتسامة خفيفة وخفض عينيه.
وعندما انحنى، أضاء شعره الأشقر تحت الأضواء.
راقبت إليزيا وجهه من دون تعبير وهو يرفع رأسه.
كان يرتدي زيّ الوليمة، وليس الزي الأبيض الذي أضفى قداسة على الزفاف، بل زيًّا بحريًّا أكثر بساطة.
أبرز التصميم صدره العريض وخصره النّحيل بشكلٍ مثلّث مقلوب. و كان وسيمًا لدرجة أنّ جميع النساء في القاعة رمقنه بنظرات خفيّة.
‘تمامًا كما في حياتي السابقة. ظننت أنّه سيكون مختلفًا.’
قيّمت إليزيا زيّ فرانز بلا أيّ حماسة.
لقد تجاوزت مرحلة الانبهار بجماله. الانخداع بوجهه الوسيم كان شيئًا تفعله إليزيا السّاذجة السّابقة فقط.
أمّا الآن، فلم يعد لمظهر فرانز أيّ تأثيرٍ عليها.
لا ابتسامته المتجدّدة، ولا نظرته الجادّة، يمكنها أن تؤثّر فيها.
“هذا اللون الخوخيّ يليق بكِ كثيرًا. يجب أن أطلب من مدام لوسيت أن تُعدّ لكِ بعض الفساتين الأخرى بهذا اللون”
قطّبت إليزيا حاجبيها بخفّة. كيف يمكنه قول شيء كهذا، وهو يعرف تمامًا كيف سيكون ردّها؟
أمره مشبوه، سواء كان يقصده أم لا.
في كلّ مرّة يمدحها فيها فرانز، تتظاهر بأنّها لم تسمعه وتتجاهله. ومع ذلك، لم يملّ من الثّناء على جمالها.
‘ما نيّته؟’
بدأت إليزيا تتوجّس في كلّ مرّة اقترب منها بلطف.
خبرتها السابقة جعلتها حذرة.
في أيّ لحظة، قد يُعلن فجأة أنّ رائحتها مقزّزة.
لم تكن تعرف متى سيحدث ذلك، لكنّها متأكّدة أنّه سيحدث.
ربّما كان فرانز يكبح رغبة شديدة في سدّ أنفه في هذه اللّحظة.
ربّما كان يتحمّل كلّ شيء بكلّ طاقته ليُحافظ على الرّباط بينهما و ينال بركة المانا.
‘افعل ما يحلو لك.’
فكّرت إليزيا ببرود.
مهما فعل، هي متأكّدة أنّها لن تتأذّى.
لقد اعتادت على أن تُعامَل ببرود.
سارت إليزيا مع فرانز سويًّا نحو الإمبراطورة التي كانت تنتظر الأمير و الأميرة الثانية.
كانت الإمبراطورة جالسةً على الطّاولة الرئيسيّة، وابتسمت بلطف حينما انحنيا أمامها بتحية محترمة.
“مبارك زواجكما، أيّها الأمير الثاني والأميرة الثانية.”
“شكرًا، صاحبة الجلالة.”
“لو كان الإمبراطور حاضرًا، لَسُرَّ كثيرًا برؤيتكما معًا …”
امتلأت عينا الإمبراطورة بالدّموع وهي تنظر إلى فرانز الوقور و إليزيا الجميلة.
وحين تكسّر صوتها، اقتربت إحدى الوصيفات لتجفّف دموعها بمنديل.
ابتسمت الإمبراطورة بابتسامة خجولة.
“ما أحمقني. أُظهِر دموعي في يومٍ سعيد كهذا. أعذريني، أيتها الأميرة الثانية.”
“أرجوكِ لا تعتذري، صاحبة الجلالة.”
تقدّمت إليزيا و أمسكت بيد الإمبراطورة. تفاجأت الإمبراطورة من هذه المبادرة ، ونظرت إلى إليزيا.
“حين يستفيقُ الإمبراطور لاحقًا، دعيني أحيّيه كما ينبغي. معكِ، يا صاحبة الجلالة الإمبراطورة.”
كلمات إليزيا الدافئة جعلت الإمبراطورة تعضّ شفتها.
وأومأت برأسها، وقالت بصوتٍ متهدّج: “إليزيا … وجود شخص دافئ مثلكِ إلى جانب فرانز هو نعمة حقيقيّة للعائلة الإمبراطوريّة.”
“تُبالغين في لطفكِ.”
انحنت إليزيا قليلًا بانحناءة خفيفة. ونظرت الإمبراطورة بحنان إلى العقد المتلألئ في عنقها.
“أنا سعيدة لأنّي أهديتُكِ هذا العقد. يليق بكِ كثيرًا. أليس كذلك يا فرانز؟”
“لا يسعني سوى الإعجاب ببصيرتكِ، يا صاحبة الجلالة.”
أجاب فرانز بأدب ، لكن بنبرة رسميّة نوعًا ما.
ثمّ، بعدما قال تلك الجملة الرسميّة، تنحنح وأضاف: “هل تأذنين لي بأن أرقص الرقصة الأولى مع زوجتي؟”
“أوه، ما أحمقني. بالطّبع، بالطّبع يجب ذلك.”
رمشت الإمبراطورة بدهشة لكلام فرانز، ثمّ دفعت إليزيا برفق نحوه. فاقتربت إليزيا منه بشكل مفاجئ.
وصفّقت الإمبراطورة بخفّة.
فور تصفيق الإمبراطورة، سادت الصّمت أرجاء القاعة.
وبينما تركزت أنظار الجميع، نظرت الإمبراطورة إلى فرقة الأوركسترا الجالسة في القاعة.
استجاب القائد لإشارتها، وحرّك عصاه، وبدأت نغمة ناعمة تتسرّب—قطعة موسيقيّة راقصة بإيقاعٍ بطيء.
ومع بدء الموسيقى، تجمّع الضيوف بشكلٍ طبيعي حول فرانز و إليزيا.
فهم أرادوا أن يشهدوا شرف الرقصة الأولى بين العروس والعريس.
تقدّم فرانز وسط الحشد، ومدّ يده نحو إليزيا برشاقة، وبتعبيرٍ واثق.
“إليزيا ، عروسي. هل تمنحينني شرف الرّقص معكِ؟”
“… نعم.”
أخذت إليزيا يد فرانز المتقدَّمة على مضض.
لقد كانت تتجنّبه طوال الوقت. لكن الآن ، لم يكن بإمكانها أن تُبعده.
على الأقلّ مرّة واحدة ، عليها أن ترقص معه.
لأنّ الوليمة تبدأ برقصة الزوجين.
وما إن أمسكت بيده، حتّى بدأت النغمة البطيئة تتحوّل تدريجيًّا إلى إيقاع أسرع.
أمسك فرانز بيد إليزيا بيدٍ واحدة، وأحاط خصرها النّحيل باليد الأخرى.
انتشر دفء جسده من خصرها إلى كامل جسدها.
شعرت إليزيا بحرارة في وجنتيها، فعضّت شفتها وأسقطت نظراتها كي تُخفي احمرار وجهها.
‘لا ترتجفي، ليز.’
إنّها مجرّد رقصة رسميّة. لا تعني شيئًا لفرانز، ولا لأيّ أحد.
“إليزيا ، انظري إليّ” ، فرانز ، الذي كان يحتضنها استعدادًا للرّقص ، همس بصوتٍ ناعم.
صوته العذب اخترق أذنيها.
التعليقات لهذا الفصل " 25"