لهثت إليزيا وهي تتنفس بصعوبة بين ذراعي فرانز. 
 
وبمجرّد أن التقت نظراته وسمعت صوته، ارتعشت مشاعر غريبة في صدرها—تبعها موجة رفض لا توصف.
 
بدت وكأن جسدها يرفض الانجراف نحو فرانز.
 
“هاه … هاه …”
 
“هل أنتِ بخير؟ بسرعة! استدعوا الطبيب الملكي!”
 
دوّى صوت فرانز القلق من مكان بعيد. فدفعته إليزيا بضعف.
 
“ابتعد عنّي…”
 
تراجعت إلى الخلف متعثّرة، تمسك صدرها بإحدى يديها وتهزّ رأسها.
 
“لا أحتاج إلى طبيب.”
 
“لا، أنتِ بحاجة إلى علاج. وجهكِ شاحب.”
 
“قلتُ إنني لا أريده …”
 
هزّت رأسها بعنفٍ أكثر، وتدفّق شعرها الأحمر على كتفيها.
 
احتضنت إليزيا نفسها بذراعيها، وكأنها تحاول حماية جسدها منه.
 
“لن يأتي أحد. لن يأتي الطبيب.”
 
اتّسعت عيناها عند ذكر كلمة “طبيب” ، وحدّقت في فرانز بعينين حمراوين حادتين مليئتين بالاتهام.
 
“لن يأتوا.”
 
وقف فرانز مذهولًا من تغيّرها المفاجئ، وحاول تهدئتها.
 
“أرجوكِ، لا تقلقي. لقد أرسلت من أجل—”
 
“قلتُ لن يأتوا!”
 
صرخت إليزيا بصوتٍ بلغ حدّ الهستيريا. 
 
ومع انكسار صوتها، أشارت لوسيت للموظفين بهدوء. 
فانسحب الحاضرون بصمت. 
 
وبعدهم، خرجت لوسيت وسارا بهدوء، مغلقتين الباب خلفهما.
 
الآن، لم يبقَ في الغرفة المليئة بفساتين الزفاف سوى إليزيا وفرانز.
 
لم تكن إليزيا حتى تُدرك ذلك. 
 
فقد كانت تهمس بصوتٍ مرتجف:
“أرجوكم … استدعوا الطبيب …”
 
“اهدئي، إليزيا.”
 
رغم أنّها قبل لحظات كانت ترفض الطبيب، إلّا أنّها الآن تتوسّل له بجنون. و كانت عيناها الزمرّدية ، التائهة و المضطربة ، ترتجفان.
 
“أرجوكم …”
 
أنّت و هي تُنزِل يديها المرتجفتين نحو بطنها المسطّح ببطء.
وامتلأت عيناها بالدموع.
 
“استدعوا الطبيب ، أرجوكم!”
 
“إليزيا!”
 
أمسك بها فرانز في هلع وسحبها إلى حضنه، ضامًّا إياها بشدّة.
 
حاولت التملّص، لكنّه لم يتحرّك.
 
“حسنًا. حسنًا، سأفعل ما تريدين. فقط اهدئي”
 
“أهغ… أوهغ…”
 
انفجرت إليزيا بالبكاء بين ذراعيه. انسابت دموعها الحارّة على وجنتيها و تشرّبت في سترة فرانز.
 
كانت كتفاها ترتجفان بصمت.
 
كلّ شيء كان يؤلم.
 
عقلها مشوّش.
 
خفق قلبها فجأة بألمٍ شديد، حتى أنها دفعت فرانز بعيدًا عنها غريزيًّا.
 
فكلّ جزء من ألمها مرتبطٌ به.
 
الندوب على معصميها ، الذنب ، الحزن ، فقدان الطّفل ، شعورها بالتخلّي—كلّها من صنعه.
 
ظنّت أنّ دفعه بعيدًا سينهي كلّ شيء.
 
لكنّها، فور سماع كلمة “طبيب” ، انهار كلّ شيء.
 
نسيت أنها في منتصف اختيار فستان الزفاف ، و أمسكت ببطنها الفارغ.
 
لن يأتي الطبيب.
 
لا يهم كم مرّة بكت طلبًا للعون ، لم يأتِ أحد.
 
لم يكن هناك طبيب في القصر ليعتني بأميرة وليّ العهد المهجورة.
 
حتى عندما أغرقت وسادتها بالدموع وجاعت لأيام، لم يأتِ أحد من القصر لإنقاذها.
 
ومع ذلك، قال فرانز ببساطة إنّه سيطلب الطبيب.
 
كما لو أنّ الأمر بسيط. كما لو أنّه يهتمّ بها فعلًا.
 
دارت الدّنيا بها.
 
تداخل الماضي والحاضر والمستقبل في ذهنها. 
لم تعد تعلم أين هي أو ماذا تفعل.
 
لم يكن هناك سوى شيء واحد مؤكّد—خوفها من المستقبل.
 
إن تزوّجت فرانز، سيكون عليها أن تمضي ليلة الزفاف معه.
 
ثم، عاجلًا أو آجلًا، ستفقد طفلًا آخر.
 
لا يهمّ كم حاولت تغيير المصير، ستنتهي مجددًا في هذا الفستان الأبيض.
 
“لا…”
 
أنّت و هي تبكي بلا حول.
 
كان الأمر مؤلمًا جدًا. و كأنها فقدت طفلًا لم يُولد بعد.
 
“كلّ شيء سيكون على ما يرام.”
 
“لا…”
 
“ستكونين بخير.”
 
ردّد فرانز الكلمات ذاتها مرارًا، يربّت عليها برفق.
 
كانت تهمهم “لا” وتبكي في حضنه.
 
حتى إن لم تكن كلماتها واضحة، ظلّ يستمع إليها بثبات.
 
“إن لم تريدي ذلك، فلن يحدث شيء. فقط لا تبكي”
 
“أنا أكرهك ، يا فرانز يوستاس”
 
“…”
 
“أنت فظيع.”
 
همست، وكأنها تبوح بأعمق ما في قلبها. ولم يقل فرانز شيئًا.
 
شعرت إليزيا بالإحباط من صمته، وأفرغت مشاعرها ثم أغمضت عينيها.
 
وبعد لحظات، تراخى جسدها.
 
“إليزيا؟”
 
انخفض صوت فرانز المصدوم تدريجيًّا. 
ولم تستطع إليزيا الردّ.
 
لقد فقدت الوعي.
 
***
 
“…لا تدعها تعرف.”
 
“نعم، سموّك.”
 
اهتزّ عقل أليزيا عند سماع صوت مألوف.
 
كان جسدها يشعر وكأنّه يغرق. 
أرادت فتح عينيها، لكن جفنيها كانا ثقيلين جدًا.
 
استسلمت وعادت إلى غيبوبتها.
 
“…الفساتين… كلّها جاهزة…”
 
سمعت صوت فرانز يصدر أوامر خلال لحظات وعي خاطفة.
 
لوسيت و سارا كانتا تردّان بهدوء، لكن كلماتهما كانت غير واضحة.
 
مرّة بعد أخرى، كانت إليزيا تتنقّل بين اللاوعي واليقظة.
 
وبعد وقتٍ لا يُعرف كم طاله، استطاعت أخيرًا فتح عينيها.
 
كانت رؤيتها ضبابيّة. 
رمشت عدّة مرّات حتى رأت وجه سارا المضيء بفرح.
 
“سيّدتي! هل استيقظتِ؟”
 
“…سا…را.”
 
قطّبت إليزيا جبينها من صوتها الجاف والمتشقّق.
 
ساعدتها سارا على الجلوس وقدّمت لها كوب ماء.
 
“اشربي قليلًا. لا بد أن حلقكِ جافّ من طول الرّقاد”
 
“كم من الوقت بقيتُ نائمة؟”
 
شربت إليزيا وأعادت الكوب. فاتّسَمَ وجه سارا بالجدّية.
 
“منذ البارحة—يومٌ كامل.”
 
“آه…”
 
فركت إليزيا جبينها محاولة تذكّر ما حدث.
 
لقد تشتّتَت بسبب نظرات فرانز، وكلّ ما بعد ذلك كان ضبابيًا.
 
تذكرت قليلًا من الحديث، لكن ليس التفاصيل.
 
أنزلت يدها و سألت سارا بحذر:
“هل … فعلتُ شيئًا خاطئًا؟”
 
“خطأ؟ بالطبع لا!”
 
بدت سارا مصدومة. ثم، أمام وجه إليزيا الجاد، هزّت رأسها بقوّة.
 
“لقد أغمي عليكِ من ضغط التحضيرات للزفاف. لا يوجد ما يستدعي شعوركِ بالذنب.”
 
“وماذا عن مدام لوسيت؟”
 
“اعتذرت، وقالت إنّها بالغت في حماستها لمساعدتكِ في اختيار الفستان المثالي. و تنوي زيارتكِ أثناء البروفة للاعتذار رسميًا”
 
“ما كان عليها ذلك …”
 
تمتمت إليزيا بحرج.
 
لم تكن لوسيت مخطئة. بل على العكس، إليزيا هي من يفترض أن تعتذر عن انهيارها المفاجئ.
 
“وكبادرة اعتذار، قالت إنّها ستهديكِ فستان الزفاف.”
 
“ماذا؟”
 
بدت إليزيا مذهولة. 
حتى لو كانت لوسيت هي السبب، فذلك بدا مبالغًا فيه.
 
فساتين الزفاف كانت أغلى بثلاثة أضعاف من الفساتين العاديّة—وفستان إليزيا صُمّم خصيصًا للعائلة الملكيّة.
 
أمسكت بذراع سارا و تكلّمت بجدّية:
“هذا لا يصح. سأدفع ثمنه كما يجب”
 
“ليس خسارةً للمدام لوسيت.”
 
ابتسمت سارا وهي ترفع كتفيها.
 
“سمو الأمير أمر بأن تكون كلّ ملابسكِ من الآن فصاعدًا—فساتينك، أحذيتك، قبّعاتك، وحتى الإكسسوارات—من محل لوسيت. فبمنحكِ هذا الفستان، أصبحت الآن المحل الملكي الرسمي. إنه مكسبٌ كبير لها.”
 
“حسنًا … أعتقد أنّ ذلك منطقيّ.”
 
ربّتت سارا على يد إليزيا بلطف و تابعت: “وبفضل ذلك، أصبح طاقم لوسيت في صفّكِ الآن. لا داعي للقلق بشأن الشائعات.”
 
“شكرًا لكِ، سارا.”
 
ابتسمت إليزيا لها بامتنان. 
كانت دائمًا تُفكّر في كلّ شيء مسبقًا.
 
فانتشار خبر إغماء أميرة ولي العهد المستقبليّة لن يكون جيّدًا.
 
لن يُلغي اللقب، لكنّه قد يجعلهم يُهمّشونها في المناسبات الرسميّة بسبب وضعها الصحّي.
 
عليّ أن أكون أكثر حذرًا.
 
شدّت بلطفٍ على يد سارا بينما كانت تمسك بيدها.
 
تنهدت سارة وقالت: “لكن، ماذا سنفعل بشأن الفستان؟ لم تختاري واحدًا بعد.”
 
“سأختار آخر واحد جرّبته.”
 
“تقصدين الذي رآكِ فيه سمو الأمير؟ اختيار موفّق. بدا رائعًا عليكِ.”
 
ابتسمت أليزيا لسارا ، ثم لاحظت زجاجة دواء على الطاولة.
 
“ما هذا؟”
 
عند سؤالها، تجمّدت سارة فجأة. 
وسرعان ما وقفت حاجبة الزجاجة بجسدها.
 
“هذا؟ أوه، لا شيء!”
 
حدّقت بها إليزيا.
 
عضّت سارا شفتها تحت نظراتها الصّامتة.
 
“سارا  … هل تُخفين عنّي شيئًا؟”
 
تجمّد وجه سارا عند هذا الاتّهام الهادئ.
 
 
             
			
			
		
		
                                            
التعليقات لهذا الفصل " 22"