2
الفصل 002
ليت الأمر كان مجرد حلم.
لكن موت أليزيا لم يكن حلمًا. وواقعها الراهن هذا، لم يكن حلمًا أيضًا.
“……ـزيا. أليزيا!”
ارتجفت أليزيا وهي تجلس أمام المرآة، إذ ناداها صوت حادّ باسمها.
فعدّلت جلستها تلقائيًا. وانعكس في المرآة خلفها وجهُ امرأة في منتصف العمر، شَعرها الفضي ملتفٌّ في كُبّة محكمة.
وما إن تلاقت نظراتهما، حتى زجرت المرأة بحدة.
“أما زلتِ تائهة الفكر؟ سنغادر إلى القصر الإمبراطوري قريبًا، وأنتِ هنا شاردة!”
“أعتذر. كنتُ فقط أفكّر.”
“وأي أمرٍ قد يستحقّ تفكيركِ؟”
وحين همّت أليزيا بالشرح، زمّت زوجة أبيها، باتريسيا، شفتيها بازدراء.
“أتكبّد العناء لأجلكِ، ولا تكلّفين نفسكِ حتى شكرًا واحدًا. يا لكِ من فتاة باهتة فعلًا. سارا، أحضري ذلك.”
“حاضر، سيدتي.”
وبأمرٍ من باتريسيا، قدّمت الخادمة سارا صينية مبطّنة بالمخمل، فوقها زهورٌ نضرة ودبابيس ماسٍ صغيرة.
تمتمت باتريسيا بضيق وهي تختار زهرة.
“أن يُغمى عليكِ قبيل زواجٍ بهذه الأهمية من العائلة الإمبراطورية. هل تدرين كم أقلقني أن تبقي طريحة الفراش؟”
رمقت أليزيا الزهرة الأرجوانية التي اختارتها باتريسيا. زاهية وممتلئة، لكن لا تناسب شعرها الأحمر البتّة.
‘حتى اختيار زهرة ستوك أرجوانية……الأمر نفسه تمامًا. إذن، فهذا ليس حلمًا حقًا.’
قبضت على طرف تنورتها في صمت، حريصة ألّا يلحظ أحد ذلك.
كل شيء يحدث كما حدث سابقًا، كما تذكره تمامًا. كما قبل عامين.
بعد أن طعنها قاتل أرسله فرانز في قلبها، استيقظت أليزيا مجددًا.
لم يكن الأمر مجازيًا، لم تكن عودةً رمزية من الموت، بل بطريقة ما عادت في الزمن. إلى أسبوعٍ قبل الزفاف.
في البداية، لم تصدق.
لكن رؤيتها للأحداث تتكرّر بدقّة كما تتذكّر، أجبرها على الإذعان للحقيقة.
لم تكن تعرف السبب الدقيق، لكنها خمنت أن الأمر من تبعات اللعنة التي أطلقتها وهي على شفا الموت.
“لا تقلقي كثيرًا، أمي.”
“وكيف ليّ ألا أقلق؟ عليكِ أن تُحسني التصرّف إن أردنا لعائلتنا أن تبقى.”
“انتظري لحظة.”
أوقفت أليزيا يد باتريسيا بخفّة، حين همّت أن تضع زهرة الستوك في شعرها.
“أظن أن الجوهرة أنسب من الزهرة.”
“الزهرة أجمل من حجرة صغيرة.”
“لكني أفضل الجواهر.”
رمقتها باتريسيا بريبة. فلم تعهد من ابنتها اهتمامًا بالزينة أو الحلي، وها هي تصرّ على الجوهرة. قطّبت حاجبيها قليلًا، لكنها رضخت في النهاية.
“إن كنتِ تصرّين.”
أشارت باتريسيا إلى دبابيس الماس الصغيرة، فاقتربت سارا لتثبّت إحداها في شعر أليزيا.
راقبت الأخيرة انعكاسها في المرآة، وعلى وجهها ارتسمت عزيمة صلبة.
لم يكن لها خيار سوى الزواج بالأمير الثاني لأجل عائلتها. إلغاء خطبة ملكية في هذه المرحلة كان مستحيلًا.
لكن على الأقل، لن تكرر الخطأ نفسه.
في حياتها السابقة، كانت باتريسيا تصرّ على إظهارها كفتاة قروية بريئة، لذا زيّنت شعرها بزهور نضرة يوم ذهابها إلى القصر.
لكن حين وصلت، كانت الزهور قد ذبلت.
وحين التقت بـ فرانز على المدخل، عبس وجهه لمظهرها الباهت، وأمر الخدم بأن يرافقوها إلى الجناح المخصّص لها، ثم انسحب بصوت مرتبك.
وهكذا اضطرت أليزيا إلى الذهاب وحدها، دون مرافقة منه.
كان من المفترض بالعروس أن تمكث في الجناح شهرًا قبل الزفاف. فترة لتألف القصر وتوطّد علاقتها بخطيبها.
لكن فرانز، وقد خاب أمله من مظهرها، لم يزرها أبدًا. ولقاؤهما الأول وجهًا لوجه كان يوم الزفاف.
الأول، والأخير.
“تبدين مقبولة. الماسة صغيرة بعض الشيء، لكنها لا بأس بها.”
وحين انتهوا من تسريح شعرها، أخذت باتريسيا تتأملها بعين ناقدة.
كان شعرها المضفور، المنتفخ قليلًا من الجانبين، يلمع بدبابيس الألماس التي عكست الضوء من كل زاوية، كأن نجومًا قد نثرت في شعرها.
“شكرًا لكِ، سارا.”
شكرتها أليزيا باقتضاب، ثم استدارت نحو السرير، حيث كانت الفساتين مبسوطة بعناية.
اختارت باتريسيا فستانًا يفيض بالكشاكش.
“ارتدي هذا. أنتِ بحاجة لشيء لافتٍ كهذا في القصر.”
“زينة الشعر وحدها كافية.”
رفضت أليزيا رأيها بثبات، وانتقت فستانًا أبسط. اتسعت عينا باتريسيا فزعًا حين رأت الثوب المخملي بلون النبيذ الداكن.
“أترغبين في ارتداء هذا الشيء الكئيب إلى القصر؟ مستحيل! ستجلبين العار على عائلتنا!”
“سأبدّله عند الوصول على أي حال. الرحلة بالعربة تستغرق ثلاث ساعات، من الأفضل أن أرتدي شيئًا مريحًا.”
“ومع ذلك، لا يجوز! هذا الرداء البائس لا يحوي حتى دانتيلًا! أجننتِ؟”
“سارا، ساعديني في ارتدائه.”
تجاهلت أليزيا احتجاجات باتريسيا الدرامية، ونادت على خادمتها.
ترددت سارا، وقد علقت بين الطرفين. أما أليزيا، التي لم تكن ترتدي سوى مشدّها منذُ بدء تصفيف الشعر، فخفضت نظرها وقالت بهدوء.
“أم أخرج هكذا فحسب؟”
“حسنًا! افعلي ما يحلو لكِ!”
وضعت باتريسيا يديها على خاصرتيها، وخرجت من الغرفة غاضبةً، تصفع الباب خلفها. ارتعشت سارا من الصوت العالي وسألت بتردد.
“هل أنتِ متأكدة؟ بدت السيدة غاضبة للغاية.”
كان سبب إصرار باتريسيا على الإشراف على مظهر أليزيا بسيطًا. كي تبقى ممسكة بزمامها حتى اللحظة الأخيرة.
ولم يكن هناك ما يُجنى من طاعتها.
“سأكون بخير.”
أدهش الردّ الجاف سارا، فتوقّفت لحظة أثناء تثبيت أزرار الفستان. لكنها سرعان ما تابعت عملها دون تعليق.
كان الخدم قد لاحظوا بالفعل تغيّر سلوك أليزيا منذُ أن أغمي عليها.
ولم تعد تحاول التصرف كما كانت. بعد أن عادت من الموت، باتت تلك المحاولات بلا جدوى.
الحياة الجديدة يجب أن تُعاش بطريقة مختلفة.
والآن وقد مُنحت فرصة أخرى، فلن تُهدرها.
ستخطو فوق ندمها القديم.
ولن تهدر عمرها بعد اليوم تطلب رضا فرانز أو تحنّ إلى عاطفته.
فذلك لم يورثها سوى الخيانة.
ففي نظر فرانز، لم تكن شيئًا يُؤبه له. حتى في القصر، لم تكن طرقهما تتقاطع. وكل ما تحتاجه هو أن تحيا حياة مريحة وحرة، بصفتها وليّة العهد.
لم تعد في قلبها أي مشاعر تجاه فرانز.
فحبّها مات يوم اعترافها الأخير. ولم يبقَ فيه سوى الكراهية.
‘ترى، هل نجحت لعنَتي؟’
قطّبت حاجبيها قليلًا وعدّلت كمّها.
فجأةً، انتابها فضول. هل فعلًا سرت اللعنة التي ألقتها قبل موتها؟ تلك التي تضمن أن يلازمه النحس، وأن لا أحد يتمكن من كبح ماناه؟
إن كان كل شيء قد عاد إلى البداية فعلًا، فلعل اللعنة زالت هي الأخرى.
لكنها لم تكن تنوي الاقتراب من فرانز لتتأكد.
ولم تكن تنوي أن تتلاشى بهدوء أيضًا. فهذا لا يفي بحقّها.
‘انتظرني، فرانز. سأكون وليّة العهد الأكثر عديمة النفع التي عرفتها في حياتك.’
لم تكن لتكبح ماناه مجددًا.
سواء جعلته المانا الباردة يجنّ أو يذوي، فهذا لا يعنيها.
بل لعلّها تأمل في ذلك.
إن كانت الأميرة، التي اختيرت فقط لتثبيت قوّته، عديمة الجدوى تمامًا، فكم سيكون خيبته عظيمة؟
تمنّت أن توغله تلك الخيبة كالسهم.
رغم أن حتى هذا الانتقام الصغير لن يدوم. ففي غضون عامين، سيجد فرانز حبيبة جديدة لتحلّ محلها.
لكن حتى ذلك الحين، فليتقلّب في بؤسه.
“تبدين كأنكِ ذاهبة إلى جنازة.”
كانت أليزيا قد ارتدت فستانها وخرجت، لتجد باتريسيا قد عادت. وكان واضحًا أنها لم تعد إلا لأنها انتظرت أن تأتيها أليزيا صاغرة.
“بما أنكِ تغادرين البيت اليوم، تغاضيتُ هذه المرة، لكن لم أتوقع منكِ هذا القدر من العناد. كيف لكِ أن تطيلي جرح قلب أمكِ هكذا؟”
ومسحت دموعًا لم تسقط، تتوسل بعينها أن تليّن أليزيا وتواسيها.
لكن الأخيرة شعرت بإرهاق مألوف يخيم على قلبها.
“آسفة. وبما أنني سأتصرف هكذا دومًا، فأعتذر من الآن. لن أنفذ أوامركِ بعد اليوم.”
“ماذا؟ أجننتِ؟”
تشنّج وجه باتريسيا من الذهول. أما أليزيا، فاكتفت بابتسامة لطيفة وهزّت رأسها.
“بل في أتمّ عقلي. لكن إن أرسلتِ ليّ رسالة أخرى تطلبين مني التسلّل إلى غرفة الأمير الثاني، أو أن أغويه ليحصل كاليب على اللقب، فحينها سأغضب فعلًا.”
“مـ-ما هذا الكلام البذيء! أنا؟ مستحيل أن أقول ذلك!”
“بالضبط. لذا، لا تتواصلي معي. ولا تنتظري مني ردًا.”
“أليزيا أمبروز!”
“قولي أليزيا يوستاس، أمي.”
قالت ذلك بابتسامة، مستخدمةً لقب العائلة الملكي. أما باتريسيا، فاشتعل وجهها غضبًا وبدأت تروّح على نفسها بعنف، ثم انفجرت في بكاء نحيبٍ مصطنع.
“ربيتكِ دون أب! أعطيتكِ كل شيء! كيف تستطيعين معاملتي هكذا؟ البارون الراحل ما كان ليغفر لكِ أبدًا….…”
تركت أليزيا حزن زوجة أبيها الزائف ينساب من حولها، ثم التقطت شالها.
فالثلج سينهمر في الطريق إلى القصر، وكانت بحاجة إلى شيء دافئ.
“سارا، أحضري قفازيّ.”
“حاضر، آنستي.”
“أثخنُ زوجٍ منهما….…”
“آنسة! سيدتي!”
وبينما كانت تتجاهل نواح باتريسيا وتكمل تجهيز نفسها، سُمع طرق على الباب تلاه وقع خطواتٍ مستعجل.
صرخت باتريسيا، وهي لا تزال تمسح عينيها اليابستين.
“ما الأمر؟!”
“سـ-سيدتي! إنه……!”
كان كبير الخدم يلهث وهو ينظر بين أليزيا وباتريسيا، ثم اندفع بالكلمات.
“صاحب السمو، الأمير الثاني……قد جاء للقائكما بنفسه!”
قفزت أليزيا واقفة.
“ماذا؟”
“قال إنه جاء ليُرافقكِ بنفسه!”
تجمّدت الكلمات على لسانها.
في حياتها السابقة، كان فرانز ينتظرها عند بوابة القصر.
أما الآن……فقد أتى بنفسه إلى قصر آل أمبروز.
يُتبع….
التعليقات لهذا الفصل " 2"