1
الفصل 001
لم تكن أليزيا تذكر الكثير.
فقط ضوء القمر الساطع، ونسمات الخريف الباردة، والستائر البيضاء ترفرف كالأشرعة.
“سموك، الأمير الثاني……؟ أين أنتَ؟”
ثم الصمت الذي كان في انتظارها.
في غرفة النوم الخالية، عضّت أليزيا شفتها وهي تحدّق في الستائر التي تتمايل برفق.
برغم عامين من البرود والجفاء منذُ زواجهما، ظلّت تأمل، ببلاهة.
‘ربما ينظر إليّ اليوم، أخيرًا. ربما يبتسم ليّ، لا ازدراء، بل دفئًا.’
كم كانت ساذجة.
فهي ابنةُ أسرةٍ نبيلة من الطبقة الدنيا في إمبراطورية لوران، وكان زواجها من الابن الثاني للإمبراطور العظيم، شمس الإمبراطورية، نعمةً لا تستحقّها.
لو لم تكن تحمل مانا النار، ولو لم تتوافق ماناها توافقًا تامًا مع ماناه، لما وطأت قدمها القصر الملكيّ أصلًا.
وربما لهذا السبب بالذات.
منذُ يوم الزفاف، أوضح فرانز لها جليًّا أن زواجه منها كان بدافع الواجب لا أكثر.
فرانز يوستاس، الأمير الثاني، الملقّب بحقّ بـ’ابن الشمس’، كان مدهش الجمال.
شعرٌ ذهبيّ كأنه غُمس في العسل، وعينان ذهبيّتان تشعّان كأنهما تحتضنان الشمس نفسها، ووجه يكاد يلامس الكمال.
كلّ خطّ من وجهه بدا مرسومًا بعنايةٍ متناهية، حادًّا، ومع ذلك رقيقًا.
وإن كان الأمير الأول يُعرف بذكائه، فالأمير الثاني اشتهر بجماله الأخّاذ.
لذا، لم يكن من الغريب أن تقع فتاة ريفية مثل أليزيا في حبّه من النظرة الأولى.
ذاك الرجل، الواقف على مذبح الكاتدرائية في زيه الاحتفالي الأبيض، سيصير زوجها.
كيف لقلبها ألا يخفق؟
نسيت أن هذا الزواج سياسيّ، هدفه إنقاذ أسرتها من الانهيار.
فقط وقفت هناك، مسحورة، تتأمّله.
لكن حين دخلت القاعة، التوت ملامح فرانز باستياءٍ ظاهر.
نظراته الذهبية اخترقتها، فخفضت رأسها غريزيًّا وسارت نحوه ببطء.
وهي واقفة إلى جوار الأمير الثاني المتألّق، شعرت بكلّ نظرة حادّة تطعنها.
ومع ذلك، ظلّت تتمسّك بالأمل.
ربما.…..ربما لست سيّئة في نظره إلى هذا الحدّ.
“تافهة.”
لكن الكلمة الواطئة، التي انسلت من بين بركات رئيس الأساقفة، حطّمت حلمها الطفوليّ بزواجٍ ملكيّ سعيد.
أن يُطلق عليها في الريف لقب ‘جنيّة الربيع’ لم يكن يعني شيئًا في قصرٍ يعجّ بجمالٍ لا يُضاهى.
بالنسبة إلى فرانز، كانت أليزيا أقلّ من زهرة بريّة.
رآها أقلّ حتى ممّا ترى خادماته.
لم يتشاركا غرفة نوم أبدًا، ولم يُسمح لها حتى بمناداته باسمه.
في البداية، توافد النبلاء بهدايا يبتغون بها ودّها، على أمل أن يتقرّبوا من الأسرة الإمبراطورية عبرها.
لكن بعد عام، توقف الجميع.
فالشائعات تسري في القصر أسرع من الريح.
ظلت زوجة أبيها تضغط عليها، تطالبها بأن تغري فرانز بجمالها إن لم يكن بغيره.
لكن كسب قلب فرانز كان أصعب ما واجهته أليزيا، وأشدّ ما يائسَت منه.
لم تكن تعرف شيئًا عن الرجال. لم تكن تدري حتى كيف ترسم بسمة على وجهه.
على مدى العامين الماضيين، لم تكن سوى أداة، لتنظيم ماناه.
مرة واحدة في الأسبوع، كان ذلك كلّ ما يجمعها به، لمعادلة المانا المتفجّرة في جسده.
وكان ذلك اللقاء لا يدوم سوى دقائق معدودة.
حين تمسك بيده لتهدّئ العاصفة في داخله، كان وجهه يتجمّد.
كان يدير رأسه عنها.
وكان يضغط قبضتيه كأن لمسة يدها تؤلمه.
وحين تهدأ ماناه، ينهض على الفور ويغادر الغرفة.
مرة، تصادفا في غرفة الرسم في قصر الأمير الثاني. ابتسمت أليزيا بارتياح.
لكن فرانز غطّى أنفه.
وانكمشت ملامحه كما لو أن مجرّد وجودها يُثير اشمئزازه.
يومها، ركضت إلى الحمّام باكية، وظلّت تغسل جسدها حتى تآكل جلدها.
ومنذُ ذلك الحين، أصبحت تغتسل قسرًا قبل كلّ وجبة، وتغمر نفسها بالعطور.
ثم جاءت الشائعة. فرانز له عشيقة.
وكان يُقال إن جمالها باهر، وتوافق ماناها مع فرانز يكاد يكون كاملًا.
مقارنةً بها، لم تكن أليزيا سوى لا شيء، ساحرة نار مسكينة بالكاد تملك قوّة، تتشبّث بلقب ‘الأميرة الثانية’ بمهانة.
لكن أليزيا لم تكن تغار.
كانت أليزيا مرتعبة.
إن كان بوسع امرأةٍ أخرى أن تحلّ محلّها في توافق المانا، فما نفعها إذن؟
ارتعشت خوفًا من أن تُنبذ في أي لحظة.
ثم جاءها خطاب من فرانز.
طلبٌ بارد، يأمرها بالمجيء لتنظيم ماناه.
ومع ذلك، خفق قلبها.
اغتسلت بعناية، وغطّت جسدها بالعطر حتى اشتكت الخادمات، وهرعت إلى جناحه.
لكن ما استقبلها……كان غرفةً فارغة.
“سموك، لقد أتيتُ. أنا أليزيا. ألست هنا؟”
كان في صوتها بقايا رجاء هشّ، لكن ما لاقاها به هو الصمت.
تُركت وحدها مرة أخرى.
ككلبةٍ تتوسّل حبّ سيدها.
وضعت الخطاب المختوم بخاتمه على المنضدة الصغيرة إلى جانب السرير.
حتى في الخيانة، لم تقوَ على تمزيقه أو طيّه.
‘سوف يستدعيني مجددًا. لا يزال بحاجة إليّ. الآن على الأقل.’
همست لنفسها بعزاءٍ أجوف، فهبّت نسمة رياح أطاحت بالرسالة من على الطاولة.
أسرعت لتلتقطها قبل أن تسقط على الأرض، ثم أحسّت بوجودٍ خلفها.
وتلاه ألمٌ لاذع يخترق صدرها.
“هاا!”
اندفع الدم من فمها. اتسعت عيناها بذهول.
سيفٌ قد اخترق قلبها، صافيًا بلا تردّد.
تشكّلت بركة قانية تحت قدميها، وبدأت الرسالة تتلطّخ باللون الأحمر، تتلألأ تحت ضوء القمر.
‘لا يمكن…….’
تهاوت أليزيا على الأرض، وبما تبقّى من قوّتها، دفعت الرسالة بعيدًا.
حتى في لحظاتها الأخيرة، لم تحتمل أن يُدنّس ختمه.
لكن قواها كانت تتلاشى سريعًا. بالكاد لامست طرف الورقة.
دارت رؤيتها، وأخذ السقف، المصبوغ بضوء الفجر الباهت، يتّضح.
“أليزيا!”
دوّى صوت فرانز.
“ريزا! افتحي عينيكِ!”
فتحت عينيها المتثاقلتين عنوة.
حتى على حافة الموت، ظلّ صوته يملك ذات السطوة على قلبها.
كان فرانز يصرخ بشيءٍ، فيه ذعر، فيه استعجال.
لكن سمعها كان قد خَدِر.
كان يبدو غاضبًا.
ضمّ جسدها النازف بين ذراعيه، ومعه الرسالة التي ابتلعتها الدماء.
رغم حرصها، كانت قد تشرّبت بالسائل القرمزي.
“ا-اهرب……سموك…….”
حاولت أن تُحذّره. ماذا لو انقلب المعتدي على فرانز؟
“سموك…….”
لكن الرجل المقنّع الذي طعنها……انحنى بأدبٍ أمام فرانز.
وهمس له بشيءٍ في أذنه.
اتّسعت عينا فرانز، ثم عضّ شفته، بعنف.
وتشوّش وجهه في رؤيتها الآفلة.
وعندها فقط……أدركت أليزيا الحقيقة.
كان فرانز.
فرانز، الذي أحبّته حتى الذوبان، هو من حاول قتلها.
صارت عبئًا في عينيه، وهكذا قرّر التخلّص منها.
خيانة مُحرقة، وغضبٌ لم تعهده من قبل، انفجرا في داخلها.
وبآخر ما تبقّى لها من مانا، استجمعت قواها.
لم أحبّك لأُرمى هكذا. لن أموت بهذه الطريقة.
“……فرانز…….”
همست باسمه، والدم يتدفّق من شفتيها.
فقط في الموت، استطاعت أن تناديه باسمه.
يا له من زوجٍ قاسٍ……ومهيب.
وحين تذكّرت العامين اللذين قضتهما تطارده بلهفة، ضحكت بسخرية.
شدّها إلى صدره، وشفتاها ترتجفان بابتسامةٍ باهتة.
ياللسخرية. كم تمنّت لمسةً منه، وها هي، لا تُحتضن إلّا وهي تلفظ أنفاسها.
كانت ستكتفي فقط بالبقاء قريبة منه، ولو من دون حبّ.
لكن حتى هذا، لم يمنحها إياه.
“هاا…….”
وهكذا، اتّخذت أليزيا قرارها.
أطلقت لعنتها، لعنةً مُقيّدة.
لن تهدأ ماناه على يد أي امرأةٍ أخرى بعدها.
لعنة رباطٍ أبديّ.
“ستتألّم……بقدر ما تألّمت……وأنا أحبّك.”
كان اعترافها الأول……والأخير.
“أنا أحبّك.”
أضاءت الغرفة بنورٍ ساطع كضوء النهار عند اكتمال اللعنة. وهكذا، أسلمت أليزيا روحها.
وماتت بكل بساطة.
يُتبع….
التعليقات لهذا الفصل " 1"