كان خطّ كاليب يشبهه—ناعمًا و مستديرًا. و بينما كانت إليزيا تقرأ الرّسالة المكتوبة بتلك الخطوط الرّقيقة، بدأت عيناها تلمعان.
 
لاحظت سارا بعنايةٍ ردّة فعل سيّدتها، فارتبكت عندما رأت إليزيا تمسح دموعها.
 
“سيّدتي ، هل أنتِ بخير؟”
 
مسحت عينيها بلطف، وسألتها بقلق.
 
“لا بُدّ أنّني أخطأت. لكنّك كنتِ مقرّبة من البارون ، فظننتُ أنّكِ سترغبين في رؤيتها …”
 
“لا، أحسنتِ. شكرًا لكِ، سارا”
 
ابتسمت إليزيا ابتسامة صغيرة وصادقة بعد أن جفّفت سارا دموعها. ثمّ طوت الرّسالة بعناية وأعادتها إلى الظّرف.
 
راقبتها سارا بقلق، فأومأت إليزيا بابتسامةٍ باهتة تحمل شيئًا من التّعاطف مع النّفس.
 
“كاليب لا يشبه والدته. لم يقل شيئًا قد يُقلقني”
 
“إذًا … لماذا كنتِ تبكين؟”
 
سألت سارا ولا يزال القلق على وجهها.
 
ضمّت إليزيا شفتيها و أطلقت زفرةً خفيفة. 
 
مرّرت أناملها على الظّرف، ثمّ بدأت بالكلام ببطء: “لأنّني أشعر بالأسف.”
 
لمست بخفّة ختم الوردة الحمراء على الظّرف.
 
وفقًا لما ورد في الرّسالة، فقد وصل خبر تزيين قاعة الحفل بالورود الحمراء إلى بيت أمبروز بالفعل.
 
وكانت باتريشيا قد أحدثت ضجّة كبيرة، مُصِرّةً على حضور الحفل.
 
لكن كاليب أكّد مرارًا لـإليزيا ألّا تقلق.
 
خصوصًا بشأن والدته—قال إنّه سيتولّى أمرها ، ولا داعي لأن تشغل إليزيا بالها. و كان هذا هو السّبب الرّئيسي لإرسال الرّسالة: ليُطمئنها حتّى لا تُفاجأ.
 
تخيّلت إليزيا بسهولة كم قد تحمّل كاليب في سبيل ذلك.
 
‘سيتألّم بسببي.’
 
شعرت بالذّنب تجاهه، لكن ذلك لم يكن كافيًا لتغيير قرارها.
 
فمن المتعارف عليه أنّ عائلة العروس تحضر حفلي الزّفاف و الوليمة. لكنّ إليزيا لم تُوجّه دعوة لبيت أمبروز.
 
في حياتها السّابقة ، كانت قلّة ذوق باتريشيا سببًا في إذلالها أمام الجميع.
 
أثناء مراسم الزّفاف ، قهقهت باتريشيا بصوتٍ عالٍ فور إعلان الكاهن انضمام إليزيا إلى العائلة الإمبراطوريّة.
 
لم تستطع تقبّل فكرة أن تنال إليزيا مكانة ملكيّة.
 
ولا أن تُضطرّ لمناداتها بـ “سموّ الأميرة”
 
رغم أنّ كثيرين سمعوا تذمّر باتريشيا ، إلّا أنّهم تظاهروا بعدم سماعه. فانتقاد الزّواج الملكيّ يُعدّ على حافّة الخيانة ، لكنّهم غفروا لها باعتبارها والدة العروس.
 
ذلك الامتياز غير المناسب زاد من غرورها.
 
وفي النّهاية، طالبت إليزيا مباشرةً بالمهر الملكيّ أثناء الوليمة.
 
وعندما عجزت إليزيا عن الرّد من شدّة الصّدمة، طلبته من الأمير فرانز شخصيًّا—دون خجلٍ يُذكر.
 
حتّى الإمبراطورة عبست من تصرّف باتريشيا الوقح. 
لكنّ العار كلّه وقع على إليزيا.
 
لذا، قرّرت هذه المرّة بكلّ جرأة ألّا تدعو بيت أمبروز.
 
و علّلت ذلك علنًا بأنّ موسم الأمطار حال دون خروجهم من الإقليم.
 
ولتعويض غياب عائلتها، اختارت تزيين القاعة بالورود الحمراء.
 
و قد كان ذلك قبل أسبوعٍ فقط.
 
‘يبدو أنّ الأخبار تنتشر أسرع ممّا توقّعت.’
 
أسندت إليزيا ذقنها إلى يدها، وغرقت في التّفكير. 
كانت تتوقّع ردّة فعل من أمبروز.
 
فالرسائل الآتية من باتريشيا كانت تُسلَّم إلى سارا ، ولا تُرسل أيّ ردود عليها. ولا شكّ أنّ باتريشيا باتت مضطربة. و ربّما كتب كاليب لأنّ الوضع أصبح لا يُطاق.
 
وبشعورٍ من التّعاطف المُتبادل، قالت إليزيا لسارا:
“من الآن فصاعدًا، إن جاء شيء من كاليب ، أريني إيّاه. لا أعلم إن كان سيكتب مجدّدًا، لكن لا بأس.”
 
“أمركِ مُطاع، سيّدتي.”
 
“وأمّا بالنّسبة للرّد …”
 
“كاليب؟ من هذا؟”
 
قاطعهما نداءٌ حادّ النّبرة. 
و عندما استدارتا، رأتا غلينا ترتدي ثوبًا فخمًا مُلفتًا.
 
“… سموّ زوجة الأمير الأوّل”
 
“سيّدة أمبروز.”
 
دخلت غلينا إلى الصّالون بخطواتٍ واثقة، ورفعت ذقنها قليلًا وهي تُلقي نظرة مُتعالية، تُخفيها خلف أناقةٍ مصطنعة.
 
كانت تُرسل رسالة واضحة لإليزيا بأن تحترم آداب القصر.
 
وقفت إليزيا على الفور، وركعت لتحيّيها.
 
“أحيّي سموّ زوجة الأمير الأوّل. ليُشرق مجد الشّمس عليكِ”
 
“…”
 
حدّقت غلينا بها بصمت.
 
وحتّى تُقرّها السّيّدة الأعلى مقامًا، لم يكن يحقّ لإليزيا أن تتحرّك أو تتكلّم.
 
فتحت غلينا مروحتها ببطء، وبدأت تُهوّي على نفسها بفتور.
من الواضح أنّها كانت تُمضي الوقت فقط.
 
“همم.”
 
مرّ وقتٌ طويل حتّى بدأت سارا خلفها تتحرّك بتوتّر. 
وبدأت ركبتا إليزيا ترتجفان.
 
كان الحفاظ على التّوازن في وضعية الرّكوع أمرًا صعبًا. 
وفي النّهاية، اختلّ توازنها قليلًا.
 
“آه …!”
 
“يا إلهي.”
 
قطّبت غلينا جبينها و كأنّها رأت أمرًا مثيرًا للاشمئزاز. 
أغلقت مروحتها بفرقعة حادّة، وهزّت رأسها.
 
“يجب ألّا تتحرّكي حتّى آذن لكِ. إنّك تفتقرين فعلًا إلى الأدب”
 
‘ولو كنتِ من الريف فعلاً.’
 
نقرت بطرف مروحتها على ذقن إليزيا.
 
رفعت ذقنها، وقطّبت حاجبيها بمظهرٍ زائف من القلق.
 
“كيف ستبقين على قيد الحياة في هذا القصر بهذا الحال؟”
 
“أشكر سموّكِ على عنايتك.”
 
“كان عليكِ أن تُجيبي على سؤالي أولًا، يا سيّدة.”
 
المروحة الّتي كانت ترفع ذقنها، ضربت خدّها بخفّة.
 
شعرت بلسعة ألم، وسمعت خلفها شهقةً من سارة.
 
‘لقد تجاوزت الحدود فعلًا.’
 
حدّقت إليزيا إلى غلينا بعينَيْن ثابتتَيْن.
 
بدت غلينا راضية تمامًا، وجهها يفيض متعةً بتعذيب إليزيا.
 
يبدو أنّه لا يزال في نفسها غصّة من عدم تمكّنها من إذلال إليزيا أمام الإمبراطورة آخر مرّة.
 
‘كم أنتِ طفوليّة.’
 
كتمت إليزيا ضحكة داخليّة، وخفّضت بصرها.
 
فرأت غلينا ذلك علامة استسلام، فتابعت بنبرة مُتعجرفة:
“هيّا، أجيبي. من هو كاليب؟”
 
أشارت إليها بإيماءة أن تنهض. و ما إن اعتدلت إليزيا في وقفتها، ضحكت غلينا خلف مروحتها.
 
“أهو عشيقك السّري من بيت أمبروز؟”
 
“إنّه أخي.”
 
أجابت إليزيا بجفاف، ونظرت إليها بنظرة خالية من الاهتمام.
 
“إنّه البارون أمبروز—كاليب أمبروز. وقد أرسل رسالة لتهنئتي على الزّفاف.”
 
“أخوك؟”
 
“إن لم تُصدّقيني، هل تودّين رؤية الرّسالة؟”
 
وأثناء تقديمها الظّرف، أضافت بنبرةٍ عفويّة اكتشافيّة:
“في الواقع، كان أخي زميل الأمير كرايتون في الأكاديميّة. أما كنتِ تعلمين؟”
 
“وكيف لي أن أعلم كلّ تفصيلة تافهة؟ البارونات كثر.”
 
أطلقت غلينا أخيرًا سُخريتها العلنيّة من إليزيا وعائلتها.
فرفعت إليزيا حاجبيها قليلًا.
 
من جهةٍ ما، كان هذا أسهل.
 
فمن الأفضل التعامل مع شخصٍ يُظهر وجهه الحقيقيّ، من أن تُجالسي من يتظاهر باللّطف ويطعن في الظّل.
 
‘غلينا شفّافة كأنّها من زجاج.’
 
ارتسمت على شفتي إليزيا ابتسامة خافتة لا إراديّة.
 
ولمّا رأت غلينا تلك الابتسامة المتألّقة، تشوّه وجهها غضبًا.
و صفّقت بمروحتها بعصبيّة.
 
“ما تلك النّظرة؟ أتتخيّلين هراءً عن خلافٍ بيني و بين كرايتون؟”
 
لم تُجبها إليزيا ، واكتفت بالنّظر إليها.
 
انتزعت غلينا الرّسالة من يدها و تصفّحتها سريعًا ، ثمّ رمقتها مجدّدًا بنظرة لاذعة.
 
وبعد لحظة، أطلقت اقتراحًا غير متوقّع:
“ادعيه. يجب أن يحضر أحد أفراد عائلتك على الأقلّ الحفل.”
 
ابتسمت غلينا بابتسامة ذات مغزى.
 
كانت تعتقد أنّ البارون أمبروز هو أخو إليزيا غير الشّقيق.
 
وقد أظهرت الرّسالة شيئًا من القلق، لكنّها شكّت في صدقه.
 
كان لقب البارون قد انتقل إلى كاليب، لكنّ الثّروة قد ذهبت إلى إليزيا.
 
وكانت شارلوت قد تحقّقت شخصيًّا من ذلك، لذا لم تشكّ غلينا فيه.
 
إليزيا ، بما أنّها لم تتزوّج بعد ، لم يكن بوسعها الوصول إلى الإرث. لكن ما إن تتزوّج، ستصبح ثروة ضخمة تحت تصرّفها.
 
قد تظنّ إليزيا أنّه لم يتبقّ لها شيء بعد أن ذهب اللّقب إلى كاليب. ربّما لم تكن على علمٍ كامل بأملاك الأسرة.
 
ولهذا كانت تُراسل كاليب دون تردّد، وتُنادِيه بـ “أخي.”
 
لكن هل يُعقل أن تكون علاقة أمبروز بهذه البساطة؟
 
‘في الأرياف، المال أهمّ من الكرامة.’
 
ابتسمت غلينا ابتسامةً ساحرةً ضيّقة العينَيْن.
 
فبدت إليزيا متفاجئة، واستمتعت غلينا بذلك التّعبير كثيرًا.
 
“بما أنّه زميل كرايتون، فدعوتُه تُصبح أوجب. وإن كنتِ قلقة من المطر، فدعي البارونة تبقى في الإقليم.”
 
حدّقت إليزيا بها بصمت.
 
قبل لحظات ، كانت أفكار غلينا واضحةً تمامًا—أمّا الآن ، فلم تعد سهلة القراءة.
 
 
أسرعت إليزيا تُفكّر في دلالات العلاقة بين كرايتون و كاليب.
 
 
             
			
			
		
		
                                            
التعليقات لهذا الفصل " 19"